♠ ♠ ♠♠ القصة القصيرة ♠ ♠ ♠♠
♠ ♠ ♠ المدينة المنورة ♠ ♠ ♠
♠♠ لَمَّا بَلَغَتْ الرَّابِعَةَ عَشَرَة مِنْ العُمْرِ ، فُقِدَتْ الأُمُّ ، وَلَمْ تَمْضِي شُهُورٌ إِلَّا وَقْدٌ فَقَدْتْ الأَبَ الذي يَبْدُو أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ الحَيَاةَ بِدُونِ شَرِيكَةِ حَيَاتِةِ ، والأطفال بنين وبنات يعيشون معتمدين على أطراف أربعة القدمين ، وطرف هو الأم وآخر هو الأب ، وهذا الأمر في بلادنا العربية يظهر بوضوح ، وعندما يفقد الطفل أو الصبية وأحداً من أطرافه تنتابه الحيرة ، كيف سيكمل حياته ، وبطلة القصة فقدت الطرفين معاً ولكن هناك من يدبر لنا الأمر سبحانه وتعالى ، أخَذَهَا عَمُّهَا الوَحِيدْ لِتَعِيشَ مَعَهُ ، وَهُوَ أَبٌ لِعَدَدٍ أرْبَعَةٌ بَنَاتٌ وَلَهِ زَوْجَةٌ ، وعَرَفْتْ هي مُنْذُ دُخُولِهَا إِلَى البَيْتِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَنَّهَا سَوْفَ تَكُونُ خَادِمَةً فِي هذا البَيْتِ ، للعم والزوجة والبنات الأربعه ، وَمَعَ ذَلِكَ سَلَّمَتْ أَمْرَهَا إِلَى اللهِ وَحَمِدَتْ اللهَ عَلَى وُجُودِ بَيْتٍ يَسْتُرُهَا وَجَدِّرَانِّ تَأْوِيهَا ، فتركت المدرسة طواعية وتفرغت لخدمتهم ، ظَلَّتْ تَسْتَيْقِظُ مُبَكِّرَةً لِصَلَاةِ الفَجْرِ، وَلِخِدْمَةِ العَمِّ وَزَوْجَتِهِ وَبُنَاتِهِ فتعد الإفطار والسندوتشات لمن يذهب إلي المدرسة ، وأكتفت هي بأن تعيش فقط بلا طموح ، والحقيقة لا العم ولا الزوجة ولا البنات قد أسأوا إليها لأنها عرفت دورها ولم تتمرد عليه ، حَتَّى مَرَّتْ الأَيَّامُ وَطَرْقُ بَابِ البَيْتِ رَجُلَاْ فِي الخَمْسِينَ مِنْ العُمر موظف كبير السن والمركز يُرِيدُ زَوْجَةٌ ، وبِدُونِ أن يكلف أهلها شىء ويريدها بما عَلَيْهَا مِنْ ثِيَابٍ فقط ، فَرَّحَ الأَبَ وَأَعْطَاهُ طَبْعَاً اليَتِيمَةَ الَّتِي عِنْدَهِ فهو لن يتكلف شئ وعنده أربعة بنات آخريات في حاجة لكل قرش ، كَانَتْ لَا تسطيع أَنْ يَكُونَ لَهَا رَأْيٌ ، رفضاً أو قبولاً ، فهي لا تقول إلا حاضر ، وَسَلَّمَتْ أَمْرَهَا إِلَى اللهِ ، وذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِ العريس ، ومن سوء حظها أنه كان رَجُلُ "سَادِّي" ( الشخصية السادية شخصية مرضية لا تصل إلي المتعة عادة إلا بعد أهانة والتعدي على الأخر ) ، وهو دَائِمٌ السُّكَّرِ وَلَا يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يُشْبِعَهَا ضُرِباً حَتَّى يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ ثم َيَأْتِيهَا ، وحَتَّى يَوْمِ زِفَافِهَا ( الدخله ) أُشْبِعُهَا ضُرِباً وكسر عليها شماعات الخشبية في ذلك الوقت ( قبل إنتشار الشماعات البلاستك ) ، وذلك قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ أُنُوثَتَهَا في كل مكان ، وَظَلَّتْ هَكَذَا فهي لَيْسَ لَهَا مَكَانٌ تَذْهَبُ إِلَيْهِ ، وَلَا صَدْرًا حنوناً يمكن أن تَشْكُو لَهُ مَا تَعِيشُهُ مِنْ عَذَابٍ ، فقد فقدت الأم والأب ، وَلِلمَرَّةِ الثَّالِثَةِ سَلَّمَتْ أَمْرَهَا لِلهِ واليس بِاليَدِ حِيلَةٌ وَاِسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهَا هَكَذَا ، وَحَمَلَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِوَلَدٍ ثُمَّ بِأُخَرَ ثُمَّ بِبِنْتَ ، كانت كل مرة تسأل نفسها كيف حملت وهي مقهوره ، ولكن لله في خلقه شئون ، وَكَانَ الرجل رَغْمَ كِبَرِ سَنَةٍ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الخَمْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَلَا عَنْ ضَرْبِهَا ، وَعِنْدَمَا كِبَرَ الأَبْنَاءُ وَفَّى اللَّيْلَ يَسْمَعُوا صُرَاخَهَا مِنْ الضَّرْبِ رَغْمَ حِرْصِهَا عَلَى عَدَمٍ عَلَّوْا صَوْتَهَا ، إِلَّا عِنْدَمَا يَشْتَدُّ بِهَا الضَّرْبُ ، ولا تستطيع التحمل فتصرخ ، وكَانَ الأَوْلَادُ تُسَرِّعُ إِلَيْهَا وهى مُمَزَّقَةٌ الثِّيَابُ عَارِيَةً وَهُوَ يَضْرِبُهَا ، مرة بالحزام ومرات بعصى ، يضعها في خزانة ملابسه ، لزوم متعته ، فَتَأْخُذُ أولادها المذعورين فِي أَحْضَانِهَا ، وَتَقُولُ لَهُمْ لَا تَخَافُوا والدماء تنزف منها ، وَاِسْتَمَرَّتْ بِهَا الأَيَّامُ والشهور والسنين هكذا ، وَفَى لَيْلَةٌ جَاءَ وَرَائِحَةُ الخَمْرِ تَفُوحُ مِنْهُ وَدَخَلَتْ هي الغُرْفَةَ ورائهِ لِتَأْخُذَ مَا اِعْتَادَ عَلَيْهِ مَعَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ ضَرْبِ وإهانه ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ ، فقَامَتْ بِتَغَيُّرِ مَلَابِسِهِ ، وَظَلَّتْ طِوَالَ اللَّيْلِ تَقْرَأُ القِرَانَ بجانبه حَتَّى أشرقت الأرض بشمس ربهاِ ، فأَبْلَغَتْ أَهْلَهُ الَّذَيْنِ جاءوا وَدَفَنُوهُ ، وقام أحدهم بإنهاء إجراءات المعاش لها ولأولادها ، وَظَلَّتْ تُرَبِّي أَبْنَاءَهَا حَتَّى تَخَرَّجَ الكَبِيرُ مِنْ كُلِّيَّةِ الهَنْدَسَةِ وَاِلْتَحَقَ ضَابِطٌ بِالقُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ ، ثُمَّ تَخَرَّجَ الثَّانِي مِنْ كُلِّيَّةِ الطِّبِّ ، والإبنه مِنْ كُلِّيَّةِ التِّجَارَةِ ، وَتَزَوَّجَتْ مِنْ مُعِيدِ فِي الكُلِّيَّةِ ، والأب كان قد ترك لهم قطعة أرض ، في منطقة غير آهلة بالسكان بالقرب من مطار القاهرة الدولي تسمى النزهة الجديدة ، فقام الأبناء ببناء بيت يتكون من دور أرضي ، وثلاثة طوابق ، إتفقوا أن يكون الطابق الأرضي للأم وحدها، حَتَّى يُمِرَّ عَلَيْهَا كُلًّ مَنْ يَدْخُلُ البَيْتَ ، وَالطابق الثَّانِي لِلطَّبِيبِ سكن وعيادة ، وَالثَّالِثِ لِلاخت ، وَالرَّابِعِ لِلمُهَنْدِسِ ، تزوج الطبيب أولاً ثم المهندس ، وَكَانَتْ الاِبْنَةُ وَالزَّوْجَتَانِ عِنْدَمَا يَأْتُوا مِنْ أَعْمَالِهُنَّ يَدْخُلُوا عَلَيْهَا وَيَعْدُوَا الطَّعَامُ وَيَأْكُلُ الجَمِيعَ مَعَهَا عِنْدَمَا يَأتي الأَبْنَاءُ من أعماهم ، ولا ينصرفون كل إلى شقته حتى تتعشى وتنام ، وَعَمَّ النَّعِيمُ الجميع حَيْثُ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهُمْ بِالمَالِ وَالبَنِينَ ، ثُمَّ قَرَّرَ الأَبْنَاءُ الحَجَّ ، لإسعاد أم أعطت بلا شكوى إلا لله ، وحتى يقضي كل منهم الركن الخامس من أركان الإسلام ، والمهم في الأمر أن الأبناء عرفوا هذا الفضل للأم فكانوا أوفياء لها ، ولم ينسى أحدهم أمه وهي عارية تصرخ من الم الضرب من رجل يكبرها في السن ولكنه أصغر بكثر في العقل ، والجميل أنها لم تكن تسمح لأحد من الأبناء يسئ الي ذكرى أبيهم ، تقول لهم أنه الأن بين يدي الله لا تجوز عليه إلا الرحمه ، سافروا الي الحج هُمْ وَأَبْنَائِهُمْ وَقَبْلَ الجَمِيعِ أُمُّهُمْ ، وَذَهَبُوا إِلَى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ ، وَبَعْدَ الطواف وَاِلْسَعِي للعمرة تحللوا فهم حجوا متمتعين ، ويوم التروية ذهبوا الي منى وظلوا بها حتى صلوا فجر يوم عرفه ، وصعدوا الي عرفات ، وصلوا الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين ، ثم جلسوا للدعاء ، حتى المغرب ، فكانت النفرة إلي المزدلفه حيث المشعر الحرام ، والذي صلوا فيه المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين ، وجمعوا جمار العقبه الكبرى ، وذهبوا بعد أن صلوا الفجر إلي منى ، وَبعد رمي الجمار وحلق الرأس أو التقصير والذبح ، ذَهَبُوا إِلَى مكه المكرمه لطواف الإفاضة وسعوا سعي الحج ، ثم رجعوا إلي منى لقضاء أيام التشريق الثلاثة ، وبعدها رجعوا إلي مكة المكرمه وفي اليوم التالي طافوا طواف الوداع ، وغادروا مكه المكرمه إلي المَدِينَة المُنَوَّرَةِ ، للصلاة في مسجد النبي صل الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف ، وَبَعْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صِلْ اللهَ عَلَيَّ وَسَلِّمْ عَادُوا إِلَى الفندق ، وَنَامَتْ الأُمُّ وَلَمْ تَسْتَيْقِظْ فَقَدْ ذَهَبَتْ بَعْدَ حَيَاةٍ حَافِلَةِ إِلَى رَبُّ كَرِيمَ ، ختم لها أن تموت في مدينة رسوله الأمين ، فقَامَ الأَبْنَاءُ بدفنها فِي البقيع مَعَ زوجات وصحابة رَسُولَ اللهِ صِلْ اللهَ عَلَيْهِ وَسَلِّمْ ، ومن مطار المدينة المنورة عَادُوا إِلَى مِصْرَ بِلَا قُلُوبٍ ، فقد أحس كلٌ من الأبناء أنه دفن قلبه وروحه مع أمه ، عادوا بأجسادهم فقط إلى مِصْرَ وَقُلُوبِهِمْ هُنَاكَ عِنْدَ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صِلْ اللهَ عَلَيْهِ وَسَلِّمْ ، وَظَلُّوا كُلَّ عَامٍ يَقُومُونَ بِزِيَارَةِ المَدِينَة المُنَوَّرَةِ لِتَجْتَمِعَ أَجْسَادُهُمْ مَعَ قُلُوبِهُم ، ويقفوا على قبر أمهم يرددون قوله سبحانه وتعالى ( وبشر الصابرين ) .
♠ ♠ ♠ ا.د/ محمد موسى