في عالم يسمه كثيرون بالبشاعة والقبح، ويبدو فيه الإنسان شرّا محضا،ويقسّمه المتفائلون إلى أشرار وأخيار، ويُدرك من خلال ثنائيّة القبح والجمال، تهدينا الكاتبة
ثلاثين نصّا، في الجمال كُتبت، وبإحساس غامر بجمال الوجود تُقدّم إلى القارئ، لعلّه يصبح شريكا في هذه الرّؤية الفريدة الجامعة. وهي رؤية اجتنبت فيها صاحبتها المنطلق الجماليّ، أي النّظر إلى "الجمال" باعتباره موضوعاً للعلم والفهم والإدراك اعتماداً على معايير جماليّة "موضوعيّة" يضبطها "علم الجمال"، وتتعلّق بالفنون الجميلة وما يبدعه المبدعون فيها، وإن كان لهذه الفنون وظيفة قد تكون فعّالة في التّربية الجماليّة الرّوحيّة لإدراك الجمال المتحجّب في أعماق النّفس ووراء ستائر الوجود... ومقابل اجتنابها هذا المنحى اختارت مدخلا فريدا طريفاً في نظم هذه الجواهر الجماليّة، يتأسّس على الشّموليّة وتنوّع الرّوافد والتّأليف بين الأصول، دون تصريح أو تلقين أو إملاء، أو تغليب رافد على رافد أو أصل على أصل..
هي محصّلة ثقافة إنسانيّة، منها ما هو ضارب في القدم والأصالة، ومنها ما ترشح منه الحداثة والجدّة. ولك، وأنت تقرؤها، أن تردّها إلى هذا الدّين أو ذاك، أو إلى هذه الفلسفة أو تلك. ولكنّك، كيفما قرأتها، لابدّ واجد فيها فنوناً من المتاع العقليّ والمتاع الرّوحيّ... والأهمّ من ذلك أنّها تحيّرك وتستفزّك في لطف، وتهزّ ثوابتك، وتجعلك تنكر ما كنت تعدّه حقّاً، وتعيد بناء تصوّراتك ورؤيتك لذاتك وللوجود للأشياء، ولعلّك ترمي بمرآتك المشروخة، وتستبدل بها مرآة صقيلة ترى فيها ذاتك "الجديدة" القديمة الجميلة، لترى، بعد ذلك، الجمال في كلّ شيء. وقد لا يتحقّق فيك الأثر المنشود كاملاً، فليس في طموح الكاتبة أن تشهد هذا الانقلاب حاصلاً بمفعول سحريّ. يكفيها أن تفكّر وتتأمّل وتتساءل: أليس وراء الأشياء، ومنها الإنسان، حقيقة كامنة، هي غير ما يتبدّى للعيون وما تحكمه الأهواء وما تسطّره العادات؟ وقد تكون هذه التّساؤلات الخطوة الأولى في سيرورة عرفانيّة شاقّة وممتعة في الآن نفسه، ترتقي بك إلى المكانة الأصليّة الأصيلة : أن تكون إنساناً... والجمال في هذا النّسق الفكريّ الرّوحيّ الذي تعرضه الكاتبة هو جوهر الهويّة والكينونة الإنسانيتين.. وما عدا ذلك هو أعراض وضروب من التّشوّه والانحراف، وترسّب لذاك الجوهر النّقيّ تحت طبقات من الزّيف والوهم والخداع وغلبة الحسّ وطغيان البصر وما تحرّكه من قوى غريزيّة حوّلت العالم إلى محلّ تجاريّ ضخم تنتقي وتقتني منه "العين" ما تشتهي لإشباع نهم رهيب..
وإن أردت تصنيف هذه النّصوص كان ذاك عليك عسيراً، فليست هي من "الأدب التّعليميّ" ولا يمكن أن تكون كذلك وصاحبتها تستهجن الوعظ وتلقين"التّعاليم"، وإن لم تخل من توجيه لطيف، وتحبيب في منظومة من القيم، هي غاية كلّ من كتب وعرض ما كتب. ولك أن تعدّها من ذاك الأدب العقليّ أو الأخلاقيّ أو الرّوحيّ الذي يُتوسّل به ليكون فعلاً جماليّا له انعكاسه على العقل والسّلوك... ولذلك كان للمخاطَب حضور لغويّ بارز لأنّه المعنيّ بالخطاب والأثر...
ومن بين الرّوافد التي غذّت هذه النّصوص قصيدة إيليا أبوماضي العظيمة "فلسفة الحياة". منها اتّخذت العنوان، وهو عجز البيت الأخير في القصيدة. جعله أبوماضي استنتاجا أو خلاصة سيرورة حجاجيّة شعريّة جال فيها بالإنسان في مواطن جمال الوجود،واتّخذته الكاتبة مدخلا واختزالا لرؤيتها الجماليّة الرّوحيّة الشّاملة، فجاءت فيها بعض الأصداء من فكر أبي ماضي، ولكنّها تجاوزته وصاغت "فلسفة وجود" أوسع من تنحصر في ردّ فعل إزاء "حياة فانية.." وجاءت العلاقة بين العنوان والنّصوص انتشاريّة تفصيليّة، وكان كلّ نصّ لبنة في هذا الصّرح الجماليّ المتكامل والمتناسق..
ولعلّ ما أغرى الكاتبة بعبارة أبي ماضي هو بنيتها التركيبيّة والدّلاليّة الموسومة بالتّعالق بين مكوّنين لا ينفكّ أحدهما عن الآخر. فكان التّلازم الشّرطيّ هو المؤشّر اللّغوي لعضويّة العلاقة بين "جمال الإنسان" و"جمال الوجود". فلا مجال لرؤية جمال الوجود ما لم تنبثق من إدراك لجمال الذّات الرّائية. وهذا "فصل الخطاب" عند الكاتبة، وعليه كان مدار جهدها الأدبيّ الإقناعيّ. وهو ما به تتفرّد إذ تبني نسقا فكريّا مفارقا للأنساق المألوفة. فالمسالة عندها ليست نقلة من "حال القبح" إلى "حال الجمال" بل هي استعادة لحال هي الأصل والكينونة الأولى، وإن بدا غير ذلك في رؤى أخرى. فيتجرّد الطّلب" كن جميلا.." من معنى التّحوّل ويكتسب معنى الاستعادة لصفة كانت في أصل التّكوين والصّنع. وبذلك يتكامل البعدان الوجوديّ والميتافيزيقيّ في فكر الكاتبة، لأنّ العلاقة بين "جمال الذّات" و" جمال الوجود" مرتبطة بعلاقة أعلى هي بين "جمال الله" و"جمال الوجود والإنسان"..وما الوجود إلا صورة من صور الإبداع الرّبّانيّ ، وفي كلّ شيء وجه من وجوه الجمال الإلهيّ. وبين كلّ الأشياء والموجودات يظهر الإنسان أكمل مصنوع وأجمل مخلوق. هكذا كان "الجمال النّازل" في مبدإ الخليقة..وما تقدّمه الكاتبه هو "الجمال الصّاعد" من "المصنوع الجميل" إلى "الصّانع الجميل" وعلّة كلّ جمال. وما ذلك إلا لتثبيت حقيقة كونيّة وإحياء ذاكرة إنسانيّة ضعفت أو فقدت، فكان الشّعور بالشّقاء والبشاعة والحزن والعدم. ونجد في بنية هذه النّصوص ما بدعم هذه الرّؤية الكونيّة الشّاملة، فالنّصّ الأوّل قائم على طلب محوريّ ينتشر في سائر النّصوص، هو " اصنع جمالك." والنّصّ الأخير انبثاق لأرقى الرّؤى: " كن جميلا تر الله.." وبين النّصّ الاستهلاليّ والنّصّ الاختتاميّ نصوص انتشاريّة يتركّب فيها الجمال، ويتوزّع على نحو يقترب من التّساوي بين محورين :1 ــ محور الذّات ...2 ــ محور الآخر..وبين هذا وذاك تواشج وتداخل وتعالق سببيّ مبدؤه عمل ذاتيّ تأمَليّ ليستعيد الإنسان الملكات والقوى والخصال والفضائل التي تجعله آية كبرى للجمال، فيكون قادرا على الانخراط في منظومة علائقيّة تواصليّة قائمة على الحبّ، ماثلة في سلوك عامّ تتجسّد فيه قيم هي وجوه للجمال وأصول لمجتمع الفضيلة والخير..وما ذاك بعسير المنال، لأنه مشروط بالممكن لا بالمستحيل..فليس أيسر من أن تكون صادقا بشوشا نصوحا عاقلا طموحا حالما عازما حليما ...فذاك وغيره في تفكير الكاتبة هو "أنت.." وإن نسيت..وإنّك لقادر على استعادة ذاتك الأصيلة الجميلة إن أردت وعزمت وثابرت وكابدت وتألمت نبشا في القشرة الزّائفة...ومنتهى الطموح أن ينطلق الإنسان في هذه السّيرورة الذّاتيّة الدّاخليّة المفضية إلى انجلاء الحجب عن الجوهر الجميل الكامن تحت القشرة الخارجيّة المتغيّرة المتلوّنة المحكومة بمعايير الصّورة والشّكل، وما ينتجانه من أحاسيس الاستحسان أو الاستهجان...
هذه "حبّات اللؤلؤ.." التي شكّلت منها الكاتبة " عقد الجمال.." صاغتها برؤية قلبيّة مسكونة بحبّ الإنسان والإنسانيّة..نظمتها بأناقة وبساطة وجمال، واجتنبت الإثقال والإملال..وحلّت أواخرها بالشّعر يختصر المنثو، كما كان في سنن الكتابة عند بعض الكتّاب القدامى كالهمذاني وابن حزم... وكان لا بدّ، وهي تكتب في الجمال، أن يكون في كتابتها جمال..فصحّ فيها وفي كلّ من يقرأ لها وفي كلّ إنسان، قول جبران :
تمّ فيك الجمال حسّا ومعنى.............هكذا هكذا تمام الجمال
خلق طاهر وخلق بديع..............وخصال يا طيبها من خصال
صورة أخلصت حلاها فجاءت...........في مثال يفوق أسنى مثال
شرف راسخ الأصول قديم............فرعته أواخر عن أوالي
الأستاذ الحبيب بن يوسف