لوقا(1/46.53)
فَقَالَتْ مَرْيَمُ: "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي.
فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَى تَوَاضُعِ أَمَتِهِ، وَهَا إِنَّ جَمِيعَ الأَجْيَالِ مِنَ الآنَ فَصَاعِداً سَوْفَ تُطَوِّبُنِي.
فَإِنَّ الْقَدِيرَ قَدْ فَعَلَ بِي أُمُوراً عَظِيمَةً،
قُدُّوسٌ اسْمُهُ، وَرَحْمَتُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ.
عَمِلَ بِذِرَاعِهِ قُوَّةً؛ شَتَّتَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي نِيَّاتِ قُلُوبِهِمْ.
أَنْزَلَ الْمُقْتَدِريِنَ عَنْ عُرُوشِهِمْ، وَرَفَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ.
أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ.
هو النّشيد الأعظم تشدوه المرأة الأعظم للحبّ الأزليّ، الّذي ينظر إلى الإنسان بعين القلب، فيمنحه بسخاء، ما لا يمكن لأحد أن يمنحه. هي التّعابير الأقوى للدّلالة على قوّة الله الحبّ، والأصفى للتّعبير عن الامتنان لمن لا مثيل له ولمن هو كلّيّ القدرة، قدرة الحبّ.
أنشدت مريم العذراء هذا النّشيد بعد أن اصطفاها الله لتحمل الحبّ مجسّداً في أحشائها، فأتى النّشيد يجسّد كلّ الامتنان والتّقدير لما منحها إيّاه الله من رفعة وسموّ، وهي فتاة الناصرة البسيطة، ولكنّها العظيمة في عينيّ الرّبّ.
وكلّنا عظماء في عينيّ الله، إذ إنّنا جبلة يديه وصنع حبّه، وكلّنا مدعوّون لخلاصه، أي لانعتاقنا وتحرّرنا من عبوديّاتنا الّتي تهوي بنا وتبعدنا عن إنسانيّتنا الحقّة، وعن كمالنا الّذي أراده لنا من قبل إنشاء العالم.
كما اختار الله مريم لتحمل "الكلمة"، كذلك اختار كلّ واحد منّا ليحمل في داخله كلمة الحبّ، ويتّحد بها، فتبتهج روحه. ينظر الرّب إلى تواضع أبنائه، وهو الّذي يريد قلوبهم، بتواضعها وبساطتها، باندهاشها كما الأطفال يندهشون ببساطة أمام الجمال والحقّ. ينظر، فيسكب النّعمة فيها ويرفعها إلى أسمى الدّرجات الّتي لا يفهمها العالم، أو الّتي لا يريد أن يفهمها.
جميع الأجيال تطوّب مريم لا لصلاحها في ذاتها، وإنّما لتفاعلها مع الصّلاح المطلق، وطاعتها الواعية للرّبّ، هي من حملت السّماء في أحشائها ومنحتها للعالم، فاستحقّت أن تطوّبها جميع أجيال الأرض.
فِعل الله القدير في الإنسان يمنحه رفعة وسموّاً، شرط أن يدرك الإنسان الهبة العظيمة الممنوحة إليه من الله. فالله لا يحابي الوجوه، ولا يعطي هذا ويحرم ذاك، ولا يتكرّم على هذا ويبخل على ذاك، فالحبّ لا يميّز ولا يبخل، وإنّما يفيض بسخاء وكرم لا مثيل لهما. المشكلة في المُعطَى له وليس في العاطي، فلو بحث كلّ منّا في ذاته عن هبات الله لأنشد كما مريم: "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي. فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَى تَوَاضُعِ أَمَتِهِ، وَهَا إِنَّ جَمِيعَ الأَجْيَالِ مِنَ الآنَ فَصَاعِداً سَوْفَ تُطَوِّبُنِي."
أدركت مريم عظمتها يقيناً في عمق أعماقها ولكنّها أدركت أيضاً أنّ القدير هو العاطي، وبالتّالي فإنّ عظمتنا أمام الله تكمن في امتناننا له وعرفاننا بجميله، وليس التّمسّك بالعطيّة وإهمال العاطي.
يصنع القدير عزّة بساعده ويشتّت المتكبّرين في قلوبهم. ليس لأنّ الله مشتِّت وإنّما لأنّ التّكبّر يخلق حاجزاً بين قلب الإنسان وقلب الله. المتكبّر ينظر بعينيه فقط، أمّا المتواضع فيعاين الله ببصيرته، ويراه بعينيه في الآخر. المتكبّر نزع عن قلبه صفة الإنسانيّة، فأمات قلبه وأحيا كبرياءه. أمّا المتواضع فمات عن العالم ليحيا في حبّ الله.
الله، الحبّ الأسمى، والقوّة المطلقة، والسّيّد المطلق، يحطّ المقتدرين عن الكراسي، ويرفع المتواضعين. يرفعهم إلى مستوى حبّه، هم الّذين لا يبتغون الجلوس على عروش الأرض، وإنّما تتوق قلوبهم إلى الجلوس في حضن الله، عرش الحبّ والرّحمة. هم الجائعون إلى الله فقط، والّذين يرتوون من فيض حنانه ولا يشبعون، فيشبعهم خيراً ونعماً. وأمّا الأغنياء، الفقراء الحقيقيّون فيرسلهم فارغين، لأنّ كنوزهم حيث قلوبهم. هم الجائعون إلى قوت العالم الّذي يفنى ولا يعرفون القوت الباقي للحياة الأبديّة.
ساحة النقاش