كيف انتقلت فرنسا من الدعوة إلى عالم متعدد القطبية، ومن رفض العولمة الأمريكية، إلى عالم آحادي القطبية وعولمة الولايات المتحدة. لماذا حصل التلاقي بين باريس وواشنطن من حول القرار 1559 الخاص بلبنان سنة 2004؟ وما القصة السرية لهذا القرار، وأسباب اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، والاتفاقات بين الرئيسين شيراك وبوش بصدد إسقاط النظام السوري، وموقف “إسرائيل” من ذلك؟
عن هذه الاسئلة يجيب الكتاب الصادر حديثاً في باريس، عن دار “سوي” للصحافي الفرنسي ريشار لابفيير الذي يترأس تحرير اذاعة فرنسا الدولية تحت عنوان: “الانقلاب الكبير: بغداد- بيروت”. يبدأ الكتاب بوقفة عند خطاب وزير الخارجية الفرنسية دومينيك دوفيلبان (رئيس الوزراء حاليا) في فبراير/شباط 2003 امام مجلس الامن الدولي، خلال الخلاف الأمريكي الفرنسي تجاه الأزمة العراقية. في ذلك الوقت قال الوزير الفرنسي أسباب الرفض الفرنسي لحرب جديدة ضد العراق. “لقد اعتقد الكثير من الفرنسيين انها يقظة، لكنها لم تكن اكثر من يقظة فجائية عابرة”. ويبرر ذلك انه لم يكن هناك سياسة محددة او مشروع مضاد. هل هو نقص حاد في ارادة القوة، هل فقدت فرنسا امكانية الدفاع عن مطالبها، هل اصبحت أقل تأثيرا مما كانت عليه في زمن الجنرال ديغول؟ ويدلل الكاتب على هذه الحالة بإقرار القرار 1559 في ايلول/سبتمبر ،2004 والذي يعني التلاقي مع السياسة الأمريكية، الذي يعبر عن نفسه في العراق وفلسطين وايران والحرب ضد الارهاب لاحقا، وشيئا فشيئا يتحول الانقلاب الكبير من ممارسة إلى عقيدة”. ويقول الكاتب في المقدمة ان هذا التلاقي السياسي، عّبر عن نفسه مع “بدء الهجوم “الإسرائيلي” على لبنان في الثاني عشر من تموز/يوليو الماضي، بعد هجوم حزب الله على الخط الاخضر. حتى الاول من آب /اغسطس تسببت غارات الطيران “الإسرائيلي” في سقوط 600 مدني لبناني، وتدمير البنية التحتية للبلد... وأدت إلى تهجير نحو 800 الف لبناني. ورغم هذه الحصيلة المروعة لم يتحرك أحد. لامؤتمر قمة الدول الثماني، الذي انعقد في سان بطرسبورغ، ولا الجامعة العربية، ولا مجلس الامن الذي كانت تترأسه فرنسا في يوليو”. وينتقل للحديث عن مؤتمر روما الذي انعقد في 26 يوليو، والذي انتهى إلى “العمل حالا من اجل التوصل بسرعة إلى وقف اطلاق للنار”. لقد تبين ان المجتمع الدولي ومعه فرنسا اكتفى بالتفرج على “إسرائيل”، وهي تدمر لبنان بمباركة من واشنطن. ويشرح الكاتب كيفية وصوله إلى كتابة هذا الكتاب. ويقول “من اجل استيعاب هذا الانقلاب الفرنسي التقيت بكثير من الدبلوماسيين من اداريين وعسكريين فرنسيين واجانب، تحت الخدمة او في التقاعد. ولأسباب خاصة بهم رفضوا الاشارة اليهم صراحة، وبفضل هؤلاء يأتي الكتاب ليس كمحاولة او رواية، وانما كتحقيق”. ويشير الكاتب إلى شخصيات عربية قدمت له المساعدة على انجاز هذا الكتاب منها الشيخ “ددت” في حضرموت ووليد شرارة وميشال سماحة في لبنان.
فنجان شاي مع جميل السيد
يقيم الكاتب نوعاً من المقاربة بين اقتحام سجن اريحا في مارس/آذار الماضي من جانب القوات “الاسرائيلية”، واختطاف مجموعة من الموقوفين الفلسطينيين ومنهم الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين احمد سعدات، وبين اللقاء مع شخصية امنية عربية أراد الاستشهاد بآرائها. وهو بذلك يضع نوعاً من مخطط لاحداث سجن اريحا. ففي 8 مارس/آذار ارسلت وزيرة الخارجية الأمريكية ونظيرها البريطاني حينذاك جاك سترو برسالة إلى الامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان يعلمانه فيها، بقرارهما سحب مراقبيهما ال15 الموجودين في السجن منذ سنة ،2001 بناء على اتفاق رباعي فلسطيني “إسرائيلي” أمريكي بريطاني. والعذر الذي ساقته الرسالة هو ان المراقبين في خطر، في حين ان هؤلاء عبارة عن عناصر في الوحدات الخاصة. وتم ارسال نسخة من الرسالة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء “الاسرائيلي” إيهود أولمرت في نفس اليوم.وفي يوم 11 مارس/آذار لم يتفوه سترو بكلمة عن الامر خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في سالزبورغ، لكن الوزراء اعادوا التضامن مع ابو مازن من دون التطرق للقضية، هذا في الوقت الذي وصل فيه ابو مازن إلى فيينا كأول نقطة في جولته الاوروبية التي كانت تهدف إلى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، والبحث في وضع المساعدات الاوروبية للفلسطينيين، على ضوء الانتصار الذي احرزته حركة حماس في شهر يناير/كانون الثاني الماضي. وفي اليوم الموالي اضطر ابومازن لقطع زيارته إلى بروكسل، رغم ضغوط المفوض الاعلى للخارجية والامن في الاتحاد الاوروبي للبقاء، وذلك في الوقت الذي اعلن فيه الملحقان العسكريان الأمريكي والبريطاني عن بدء القوات “الاسرائيلية” للعملية.يكمل الكاتب سرد تفاصيل هذه القضية ليصل إلى المقاربة التي يقدمها محدثه، الذي هو عبارة عن رجل امن سابق ادار اجهزة الامن في بلاده لمدة 25 سنة قبل ان يصبح مستشاراً للامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.يصف الكاتب محدثه بأنه مثل أي رجل أمن عربي يتحدث بهدوء ويختار كلماته بعناية. وهو قرر أن يبدأ حديثه بالتعليق على احداث الامس القريب، مستنتجا من ذلك ان ذلك يقرع اجراس موسيقا تحذيرية، هي الاكثر سوداوية ليس فقط بالنسبة للشرق الاوسط، وانما ايضا للعالم ككل، للعالم ككل.ويقول الكاتب ان قضية سجن اريحا، تعكس بالنسبة لمحدثي اعراض احتقان مزمن بدأ يقسو اكثر منذ حرب العراق الثانية “إن الامر يشبه قصة الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية، حيث بوسع رسم ان يطلق عاصفة مدمرة، وهذا يعني انه حلت في مكان السياسة التقليدية مواجهة ثقافية مزعومة، وبالتالي يصبح كل غربي في البلدان العربية الاسلامية هدفا للرد او رهينة، وبالعكس يصبح العربي والمسلم خطراً في نظر الغرب، أو ارهابياً. وسوف نصبح بعد وقت غير بعيد غير قادرين على السفر والحركة والخروج من بيوتنا”. ويصل الكاتب بمعية محدثه إلى نتيجة وهي ان مزامير اريحا تقرع لترمز إلى عالم يتشظى ويبقى كل في مكانه.
تنتقل المحادثة فجأة إلى ضفاف بحيرة ليمان في جنيف، وتكون الجلسة ايضا مع رجل أمن آخر، يرى ان هناك ضرورة في “استعادة التاريخ اذا أردنا ان نمسك بخيوط قوة الشرق الجديد المعقد كثيراً”. ويواصل: لم نتمكن في الحقيقة من استيعاب إلى أي مدى ان ازمات الشرق الاوسط الراهن، هي نتاج تفكيك الامبراطورية العثمانية بسبب التمرد العربي سنة ،1916 ذلك بأنه منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اندلاع حرب سنة ،1967 ظل الشرق الاوسط يمثل مسرحاً استراتيجياً. وقد تم تجاوز مرحلة جديدة مع حرب سنة 1973 التي وضعت القوات النووية السوفييتية والأمريكية في حالة استنفار، ولذا اصبح الشرق الاوسط ساحة لتسابق التسلح على المستوى الاقليمي، الأمر الذي انعكس في تغييرات على مستوى البترول، وقد جاءت الصدمة البترولية بالتزامن مع المشاكل الكبرى التي يعانيها الاقتصاد الغربي، كالتضخم والانكماش والبطالة والعجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات.لقد بقيت النزاعات الشرق اوسطية على اجندة القوى العظمى، رغم خطورتها تأتي في المكانة الثانية، حتى نهاية الحرب الباردة. وكانت الاولوية للمسرح الاوروبي، وتم التركيز على جدار برلين، لكن بعد نهاية هذه الحرب طرح الشرق الاوسط نفسه كمحور أساسي، ولم يعد العالم يتحدث عن الصراع العربي “الاسرائيلي” وانما عن النزاع الفلسطيني “الاسرائيلي”.. وقد أخذ هذا النزاع أبعاداً مهمة بسبب تطور وسائل الاعلام في السنوات الاخيرة وخصوصاً قنوات التلفزيون.ويستمر الكاتب في عرض رؤيته الخاصة، ويلاحظ انه منذ انتهاء الحرب الباردة أصبح العامل المادي يلعب دوراً كبيراً، ويتوقف عند المشروع الأمريكي لتغيير بعض الحكومات، وتفجيرات 11 سبتمبر وصراع الحضارات، ويعود إلى خطاب دوفيلبان امام الامم المتحدة وتعلق الرأي العام به، ويصل إلى عدة استنتاجات جوهرية، منها ان الامم المتحدة تبقى ضرورية رغم الانتقادات الكثيرة التي يمكن ان نسوقها ضدها. وان الولايات المتحدة غير قادرة على السيطرة على الكون رغم نهاية حلف فرصوفيا والثنائية القطبية. والاستنتاج الثالث هو خطأ مقولة صراع الحضارات، لأن خلاف الثقافات وتنوعها لاينتهي على نحو قدري إلى مواجهة، ولابد من تقديم اجابة سياسية عن الفوضى الكونية الراهنة.يختتم الكاتب الفصل الاول الذي أراده ان يكون جولة افق حول الوضع الدولي، بالتغير الذي طرأ على السياسة الفرنسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وينطلق في صورة اساسية من تداعيات حرب العراق التي كانت سببا في الخلاف الأمريكي الفرنسي. ويكشف انه انطلاقا من هنا ايضا تمت المبادرة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه، وفق تفاهمات جديدة لا علاقة لها بالسياسة التقليدية الفرنسية، والعنصر الاساسي في هذه التفاهمات هو تخلي باريس عن مواقفها القديمة والشروع في السير على خط السياسة الأمريكية. وكانت البداية في هذا التلاقي الجديد في لبنان من حول القرار 1559 وفي طريقه إلى بيروت يطرح الكاتب سلسلة من التساؤلات: كيف انتقلت فرنسا من رفض الحرب على العراق إلى القرار 1559؟ كيف يستطيع شيراك إخراج مسألة السيادة اللبنانية من إطارها الاقليمي، وإبعادها عن التسوية الشاملة للنزاع العربي “الاسرائيلي”؟ لماذا تخلت باريس عن المطالبة بروزنامة لانسحاب القوات الأمريكية من العراق؟ لماذا وضعت الدبلوماسية الفرنسية مواقفها الشرق اوسطية تحت السجادة وهي تشارك في محادثات الترويكا الاوروبية التي تهدف إلى منع الخيار النووي الايراني؟ ويلاحظ بالاضافة إلى ذلك صمت باريس تجاه قضية اقامة الدولة الفلسطينية وقيام “إسرائيل” باجتياح غزة من جديد وشن حرب الصيف على لبنان، وكذلك اقحام شيراك لاستراتيجية الردع النووي في مواجهة “الدول المارقة” والارهاب، والتلاقي مع العقيدة الامريكية التي سادت بعد 11 سبتمبر، باختيار طريق الحرب في مواجهة الحرب.
اسئلة كثيرة بعضها يقدم الكاتب اجابات حولها من خلال معلومات خاصة، وبعضها تخونه الاجابة حينما يصر على البقاء في طرف واحد.
شاي مع جميل السيد
اختار الكاتب أن يبدأ الكتاب بفصل عنوانه “الدائرة اللبنانية” يتفرع عنه عنوان “شاي مع جميل السيد”، حيث يصف الكاتب رحلته إلى بيروت في 29 أغسطس/آب ،2005 وبعد ذلك يدخل إلى الموضوع الرئيسي وهو اللقاء مع المدير السابق للامن اللبناني العام جميل السيد، الذي تشاء المصادفات ان يتم ايقافه من قبل لجنة التحقيق الدولية في فجر الليلة نفسها، ومن هنا اهمية هذا اللقاء الذي يعتبر الأخير للسيد مع الاعلام من جهة، ومن جهة ثانية فهو يعكس حالته الذهنية في تلك اللحظة.يقول الكاتب قرأت في الطائرة حلقات الحوار التسع الذي اجرته معه صحيفة “الحياة”، وذلك في الوقت الذي كانت توجه إليه اصابع الاتهام في ما يتعلق بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.وقبل ان يدخل في التفاصيل يرسم صورة قلمية للسيد الذي يبلغ 64 سنة، تنطلق من ولادته في عائلة شيعية من البقاع ودراسته في بيروت وتطوعه في الجيش اللبناني في سلاح المدرعات، حيث خدم في الفرقة الاولى، التي كانت متمركزة في بيروت سنة 1967 وبعد ذلك يتولى مسؤولية مخابرات الفرقة الاولى، ومن ثم يصبح في 1982 مساعداً لمسؤول مخابرات الجيش في البقاع العقيد ميشيل رحباني، وفي نفس الفترة يتبع فترة تدريب (ستاج) في الولايات المتحدة (مخابرات عسكرية) في اريزونا، لمدة اربعة اشهر ضمن برنامج التعاون المشترك بين البلدين، وبعد عودته تعرض لعملية اغتيال قتل خلالها سائقه. ومنذ هذه اللحظة اصبح يبدأ التقرب من رئيس جهاز المخابرات السورية في لبنان غازي كنعان، وفي عام 1984 اصبح مسؤول امن البقاع بعد ان نقل الرحباني إلى بيروت، لكنه عين في سنة 1989 بالاتفاق مع دمشق مسؤولا لأمن الرئيس الياس الهراوي. وفي هذه المرحلة بدأ باعادة بناء جهاز مخابرات الجيش اللبناني بالتعاون مع سوريا، وتعين في هذه الفترة نائبا من جديد للرحباني. وفي ديسمبر/كانون الاول سنة 1998 عينه الرئيس اميل لحود مسؤولا للامن العام اللبناني. ويقول الكاتب ان السيد بدا في هذه الفترة على صلة بالمشهد السياسي اللبناني، حيث كان المسؤول الوحيد الذي رافق الرئيس لحود في زيارته الرسمية الأولى إلى دمشق. وهو بذلك اصبح مفتاح العلاقات بين بعبدا ودمشق، وبين الرئيس لحود وبعض معارضيه مثل الحريري ووليد جنبلاط.
ينتقل الكاتب ليصف لقاءه بالسيد في صالون كبير مطل على البحر زينت جدرانه صور السيد مع البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته إلى لبنان ومع شيراك وحافظ الاسد ونجله بشار. هو رجل مربوع بعينين وقادتين. شاي أم عصير برتقال؟
جلس وهو يعقد يديه من حول ركبته في جلسة تعكس توتره في ذلك الوقت: “استمزجت بعض الآراء قبل أن التقي بك، لانكم كما ترون فالموقف في لبنان في طور التحول إلى حالة من الهستيريا في الوقت الراهن. هناك من يبحث عن أكباش فداء، ويبدو ان جهاز مخابرات هذا البلد في طور ان يوضع في هذا الموقع”. ويضيف الكاتب نقلاً عن السيد: “لاشك انكم كنتم على اطلاع على الوضع الذي ساد في لبنان قبل اغتيال الحريري، حيث كان الجو متوترا بين الرئيس لحود ورئيس الوزراء المستقيل الحريري: الرئيس لحود “مباع” إلى دمشق وجميع مساعديه من دون تمييز وضعوا في نفس السلة، في وجه معارضة “ديمقراطية” يجسدها رئيس الوزراء السابق وحلفاؤه. ومع ذلك فإن ردود الفعل الأولى التي تلت عملية الاغتيال كانت كاريكاتيرية، ولم تساهم الا في تضخيم اجواء عدم الاستقرار التي سادت لاكثر من سنة”.
ويواصل السيد حديثه: “وللاجابة عن الاتهامات التي وجهت لي بالمسؤولية وافقت على اجراء الحوار مع صحيفة “الحياة”، ولهذا السبب استقبلك اليوم”.
كان السؤال يتعلق بمسرح الجريمة والحديث الذي جرى عن احداث تغيير فيه من خلال التلاعب بالادلة واخفاء بعضها؟
يجيب السيد: “نمتلك في لبنان اربعة اجهزة مخابرات، قوى الامن الداخلي، مخابرات الجيش، أمن الدولة والامن العام. ولاصلة للجهازين الاخيرين بما يتعلق بمسرح الجريمة، وفي حال حصول جريمة كبيرة يعود للسلطات القضائية اتخاذ القرارات الاولى، وفي العادة تكلف قوى الأمن الداخلي القيام بالتحقيق، وهذا ما حصل. وفي العادة يجري التحقيق بمهنية، ولكن إزاء جريمة بهذا الحجم ليس من المستبعد حصول ارتباك نتيجة للسرعة. ولدي شعور انه لم تكن هناك نية مسبقة للتخريب على التحقيق، بقدر ما كانت هناك اخطاء أو اهمال يمكن تفسيره من خلال التسرع، وفي بعض الاحيان بسبب نقص التأهيل لدى الاشخاص الذين تولوا العملية. وباختصار إن عملية اغتيال الحريري قضية كبيرة بالنسبة لبلدنا الصغير، والاخطاء التي ارتكبت في بداية التحقيق تمت بسبب ضعف الامكانيات”. ويستطرد السيد: “في اليوم الثاني لحصول الجريمة قرأت في الصحف ان الآلية تمت ازالتها من مسرح الجريمة ليلاً، ولهذا اتصلت باللواء علي الحاج مسؤول قوى الامن الداخلي والى الضباط المسؤولين عن حراسة محيط الجريمة، وكانت الاجابات من الطرفين متناسقة، لقد اعطيت الاولوية للبحث عن المصابين، على امل العثور على بعض الاحياء. وقمت مباشرة بمهاتفة وزير الداخلية واخطرته بالاهمية القصوى لهذه الجريمة على المستوى الدولي، وطلبت منه ضرورة الاهتمام الشديد بحفظ مكان الجريمة بعيداً عن اي تدخل او تغيير. وللعلم فإني قمت بذلك من باب اسداء النصيحة لأنه لا صلة مباشرة لي في التحقيق القضائي. وقد كان الوزير فرنجية منشغلا بالأمر وطمأنني، بأنه سيتصرف ويتخذ الاجراءات الضرورية حالاً”.ومن الذي اعطى الاوامر إلى اللواء علي الحاج ليقوم باخلاء الآليات من مسرح الجريمة؟
يقول السيد: “لا أعلم شيئاً. لم اتلق اي نوع من التوضيح حول هذه النقطة لا من الرئاسة ولا من اي شخص آخر. من الطبيعي أن يعود اتخاذ قرار من هذا القبيل إلى وزير العدل. وهناك قاض عسكري يبحث الآن في ايجاد اجابة عن هذا السؤال. ومنذ الاستقلال في سنة 1943 فإن الامن العام لايتدخل في شؤون الجرائم، وعمله يتركز على الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكن كوني عسكرياً وبحكم مهنتي كرجل امن اهتممت بالانفجار وبمسرح الجريمة”. وينتقل السيد للحديث بعد ذلك عن طبيعة التفجير فيورد الاحتمالات التي تم تداولها في ذلك الوقت، والتي غلب بعضها ان تكون المتفجرة وضعت في نفق تحت الارض، ويكشف انه استعان بخبراء عسكريين أمريكيين تربطه بهم صلات شخصية، كانوا في طريقهم إلى بغداد، فأكد تقريرهم بنسبة 90 في المائة ان المتفجرة وضعت فوق سطح الارض، وهذا ما اكده خبراء سويسريون والمحقق فيتزجيرالد والقاضي ميليس، الذي قال في تقريره ان المتفجرة كانت موضوعة في سيارة.يصل السيد من عرض هذه المعلومات إلى استنتاج مفاده، ان الجو العام، من دون أية إثباتات، كان حافلا بالشائعات والتقديرات المختلفة والمتضاربة، والهدف من ذلك هو التلاعب بالتحقيق. في الوقت الذي يشكل فيه مسرح الجريمة ونوعية القنبلة عنصرا ثالثا لتضارب التفسيرات. ويتوقف السيد امام الشريط الذي بثته “قناة الجزيرة” الفضائية للمدعو ابو عدس، ويقول لا يمكن لأي ضابط تحقيق إلا ان يأخذ هذا في عين الاعتبار، وكل اعلانات التبني يجب ان تخضع لتحقيق خاص. إن الذي يقول بضرورة اخذ هذه الوثيقة في عين الاعتبار دون التأكد منها يخطئ، بقدر الذي يدعو إلى رفضها مباشرة. ان هذا يعكس ايضا جوا من محاولات التلاعب بالتحقيق في الجريمة من اجل تحميل المسؤولية لجهاز الامن اللبناني الذي ينسبون له التبعية لدمشق.ويستعرض السيد حكاية شريط الكاسيت منذ وصوله إلى مكتب “قناة الجزيرة” في بيروت، ويتوقف عند قصة الشاحنة، وهوية الشخص الذي كان يقودها. ويصل بذلك إلى الاستنتاج الذي ساقه في جريدة “الحياة”، وهو ان الذي يقف وراء الجريمة اما حمار او انشتاين. فإذا كان حمارا فهذا يعني انه الاجهزة اللبنانية والسورية، وإذا كان انشتاين فإن ذلك يستدعي عدم استبعاد أي احتمال بما في ذلك المعقد جدا والمثير للاستغراب.وفي رد على سؤال يتعلق بإفادات بعض الشهود والادلة المنسوبة إلى بطاقات الهاتف، يجيب السيد: “مثلما اشرت هناك اتجاه لتسييس التحقيق منذ البداية. ومنذ 14 فبراير بين البحر الذي يتفجر، والقلم الذي سجل المحادثة الاخيرة بين الحريري والرئيس السوري، والشاحنة المشتبه بها التي جاءت من الضاحية الجنوبية. كل ذلك عبارة عن شائعات اخذت طريقها إلى الصحافة والمحققين، وسنرى كيف سيتعامل معها تقرير لجنة التحقيق”.ويطرح الصحافي سؤالاً يتعلق بما اكتشفه المحققون من فساد يتعلق ببنك المدينة، وصلته بعملية الاغتيال؟ ويجيب السيد بقوله: “هذا سؤال يخص البنك المركزي، ولجنة الرقابة على البنوك. وهما يمتلكان كل التفاصيل ويعلم جميع الناس في بيروت ان لا علاقة لي بهذين الامرين. ان اتهامات الفساد في لبنان شائعة وهي تتبع حركة النشاط التجاري، فمرة ترمى التهمة على وزير الكهرباء ومرة اخرى على وزير الصحة أو الاتصالات وهكذا دواليك... وكثيراً ما تم اتهام شخصيات لبنانية وسورية، لكن ذلك لا علاقة له لا بالسياسة اللبنانية ولا السورية، وانما هو عبارة عن استغلال بعض الاشخاص لمراكزهم في السلطة اللبنانية والسورية، السياسية والاقتصادية، او من خلال العلاقات الخاصة”.ويطرح الصحافي السؤال بطريقة مختلفة: ألا ينعكس الاتهام بالفساد على السلطة السياسية في لبنان وسوريا المتهمتين بالاغتيال. ويرد السيد لاتوجد في لبنان سلطة سياسية، وانما سلطة سياسيين، وسوف اتكلم لاحقا عن ذلك. لكن دعنا نبق قليلا في السياق اللبناني، لأنه من خلال ذلك يمكن فهم عملية اغتيال الحريري. وهنا يشرح السيد ان الطوائف اللبنانية تتنازع الدولة وتسيطر عليها، وهذا ما يفسر انعدام التوازن على مستوى سير هذه الدولة. ويؤكد السيد ان الامر لايقتصر على زعيم طائفة وحدها، بل يشارك فيه جميع زعماء الطوائف. ولكن مجرد الاصطدام بين الدولة وهذا الزعيم نراه يستنفر طائفته التي تقوم بالانتصار له، وتتحول المسألة إلى خصومة بين الدولة وهذه الطائفة. ويضيف السيد بأن اتفاق الطائف 1989 وزع البلد بين الطوائف، الامر الذي خلق مصاعب كبيرة على مستوى ادارة الدولة، وهذا ما يفسر التضارب على مستويات كثيرة. ويضيف لقد انسحبت سوريا اليوم من لبنان، ولكن منطق التقسيم مستمر، من الاجهزة وحتى الطبقة السياسية. وقد ترتب على هذا المنطق انعكاسات خطيرة على مستوى الامن الداخلي والخارجي. وينفي السيد ان يكون الرئيس لحود استغل الوجود السوري من اجل تركيب الجيش على هواه، كما ينفي عن نفسه الامر ذاته في ما يتعلق بالامن الداخلي. ويقول السيد ان الضغوط ازدادت على الاجهزة الامنية بعد الانسحاب السوري، وذلك بسبب محاولات البعض استخدام هذه الاجهزة لمصالحه الشخصية، في حين ان هذه الاجهزة هي في خدمة الدولة والنظام العام والشعب، ويضيف من الطبيعي ان تبقى الاجهزة في خدمة السلطة السياسية، ولكن هل الهدف من ذلك الحفاظ على مصالح الدولة، أو بعض السياسيين الذين تحركهم مصالحهم الخاصة؟ إن العاملين في الاجهزة الامنية، كما هي حالتي يتصرفون امام أي جريمة بنفس رد الفعل، وهم لايفرقون بين جريمة وأخرى، وبالنسبة لهم لاتوجد جريمة ونصف جريمة وربع جريمة. هناك جريمة فقط. وحين يتم الابتعاد عن هذا المبدأ يضيع كل شيء. ولسوء الحظ فإن لبنان سار في هذا الاتجاه البشع، حيث يرى كل فرد المؤامرة في كل مكان، في وسط من الشائعات الذي يصل حتى قلب الدولة وغالبية الفاعلين الاساسيين. الكل ينتهي لأن يخاف من كل شيء، ويردد اي كلام في أي لحظة وفي اي مكان كان، وتصبح الحقيقة بالتالي أمراً صعباً، ويصير الناس يخافون حتى من لون السماء. ويضرب مثالا على هذا الانحراف، المتفجرة التي استهدفت السفارة الايطالية في بيروت في اكتوبر/تشرين الأول 2004. وقد قام البعض بحملة اعلامية هدفها التعريض بأجهزة الأمن. ويقول ان هذه القضية بدأت في ايطاليا في صيف 2004 حينما حضر إلى بيروت وفد امني ايطالي، ليتبادل معنا معلومات حول عملية تفجير محتملة سوف تستهدف السفارة الايطالية بنحو 330 كلغ من الديناميت. كان الايطاليون يمتلكون صورا التقطتها كاميرا المراقبة المثبتة على باب السفارة للشخص الذي تحوم حوله الشبهات، وقد تبين لنا ان اسمه احمد سليم ميقاتي.لم يكن الايطاليون متأكدين من الامر وهم لايعرفون شيئا عن هوية هذا الشخص الذي يحملون صورته، نعرفه نحن وملفه لدينا حيث شارك في احداث الضنية في نهاية سنة ،1999 التي سقط فيه جرحى وقتلى من المهاجمين الذين نصبوا كمينا لقوات الجيش الذي خسر كذلك بعض القتلى والجرحى. وهو ينتمي إلى مجموعة سلفية قامت باختطاف مجموعة من العسكريين والنساء وقامت بإعدامهم. وحسب معلوماتنا فإن الشخص المعني فر وتحصن في مخيم عين الحلوة بالقرب من صيدا، لكن مع حضور الوفد الايطالي وتحريك القضية اكتشفنا انه موجود في بيروت فقمنا باعتقاله قبل 48 ساعة من عودة الوفد الايطالي. وعادة ما تتم عمليات من هذا النوع بالتعاون مع القضاء، لكن بسبب الطابع الخاص للعملية لم يعلم بها إلا بعد 48 ساعة. وفي هذه الاثناء صادف ان الجيش قام بمداهمات في البقاع لمصادرة متفجرات واسلحة وحصلت اشتباكات أدت إلى مصرع شخص يدعى اسماعيل الخطيب، فقام البعض بتصوير العمليتين على انهما عملية واحدة، وبدأت حملة للتنديد بأجهزة الامن التي تمارس التعذيب. وجرى الحديث عن قضية السفارة الايطالية كمناورة سياسية. وبالنسبة للايطاليين فإن التعاون حال دون تفجير سفارتهم حتى ان وزير الدفاع الايطالي اصدر بياناً رسمياً، يشكر فيه السلطات اللبنانية والسورية لتعاونهما في هذا الامر. هذه الحادثة حقيقية، ولكن هناك في بيروت من اعتبرها من تركيب واختراع الرئيس لحود. ويتساءل السيد عن كيفية اجراء تحقيق جاد في قضية اغتيال الحريري وسط اجواء من التشكيك والشائعات، وحتى لجنة التحقيق لم تسلم من الوقوع في “البازار اللبناني”، على حد تعبير جميل السيد.وينتقل السيد في ختام اللقاء إلى الحديث عن انتشار التنظيمات الاصولية في لبنان منذ 1998 على اطراف ثلاث مدن كبيرة هي بيروت وصيدا وطرابلس، وقد اتخذت من المخيمات الفلسطينية المحيطة قواعد لها. ويقول انه بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول، وسقوط نظام طالبان في افغانستان حصلت هجرة كبيرة من التنظيمات الجهادية باتجاه لبنان. ويؤكد ان عدة مناطق من لبنان اصبحت اليوم أراضي ملائمة لتطور الحركة السلفية. وينقل الكاتب عن نائب لبناني بقاعي سابق قوله ان هذا التيار بعيدا عن الحضور السوري، والمراقبة الدقيقة لاجهزة الامن اللبنانية، تمكن من انتزاع مواقع له وقام بإغلاقها. ويضيف الصحافي لقد تمكنا من معاينة حجم هذه الظاهرة بعد ان قمنا بجولة في منطقة مجدل عنجر.يقول الكاتب في ختام هذا الفصل الذي لم يأت بجديد على صعيد قضية جميل السيد، إنه في طريقه إلى الاشرفية ليلا حاول ان يضع النقاط على الحروف، فجميل السيد ليس اول مسؤول كبير ألتقيه، لكنه رجل على قدر كبير من الذكاء والجاذبية، بحيث يصعب على المرء ان يصدق مثلما شاع من اوساط التحقيق، ان يكون رجلا على هذا القدر من الاحتراف يمكن ان يشارك في ترتيب عملية اغتيال من هذا النوع.
_________________
مع أطيب تحيات
محمود كعوش
ساحة النقاش