"موت سريري"
________________________________________
الموتى
هناك أكثر من 150 ألف حالة "موت سريري" سنوياً في الولايات المتحدة وحدها، أولئك هم الذين توقفت أدمغتهم كلياً عن العمل فيما لا تزال الأعضاء الأساسية الأخرى للجسم، كالقلب والرئتين والكلى..، تعمل بواسطة الأجهزة والمعدات الطبية التي تنعشها.
الشائع هو أن عائلة المتوفى سريرياً ترفض في غالب الأحيان القبول بإيقاف عمل تلك الأجهزة لتعارض ذلك مع مشاعرها وأخلاقياتها ومعتقداتها الدينية. إذ يُعتبر الأمر كأنه يقترب من فعل القتل العمد لعزيزٍ لا يزالون يأملون بشفائه، على الرغم من تأكيد الطب، بما لا يقبل الشك، استحالة عودة المتوفى سريرياً إلى الحياة، بعد مرور ساعاتٍ قليلة، بسبب تلف خلايا الدماغ، وهو العضو المسؤول عن كافة أنشطة الجسم البشري. ويترتب على هذا الموقف من الأهل أعباء مالية كوارثية في كثير من الأحيان تؤدي إلى ضياع ممتلكات العائلة لتغطية تلك المصاريف.
إلا أن ما يُتكتـّم عليه في هذا الإطار هو وجود مؤسساتٍ طبية خاصة تقوم بحصر الأعضاء البشرية التي يكون المتوفى قد أعلن رغبته بالتبرّع بها بعد موته و"تسويقها" لإولئك المرضى الذين يحتاجونها وينتظرون على لوائح انتظارٍ طويلة للحصول على أعضاء بديلة. تمارس تلك المؤسسات سلطة معنوية لناحية القرار بعدم إيقاف الأجهزة الطبية المحافظة على إنعاش أعضاء جسم المتوفى سريرياً. إذ هي تعمل على "حصاد" أعضاء هؤلاء الموتى إحصائياً في بنوكٍ معلوماتية بدلاً من تكبّد كلفة استخراج تلك الأعضاء وحفظها في بنوك الأعضاء، حيث احتمالات التلف عالية مقارنة مع إبقائها "منعشة" في جسم المتوفى. ومن ثم تقوم تلك المؤسسات بإبلاغ المستشفيات والمراكز الطبية المنتشرة في جميع أنحاء الولايات والمدن الأميركية التي يتواجد فيها المرضى المنتظرون لاستبدال أعضائهم المريضة، بعد التأكد من مواءمة الأعضاء "المعروضة" بتلك "المطلوبة".
وتحصل هذه المؤسسات، مقابل "خدماتها" تلك، على عمولاتٍ كبيرة تصل إلى مئات ألوف الدولارات في بعض الحالات المستعصية، فيما يتم إلزام عائلة المتوفى سريرياً بكافة مصاريف إنعاش أعضائه أثناء فترة جمع ومعالجة ونشر المعلومات والبحث عن المتلقي المناسب وإجراءات المواءمة المخبرية، وهو ما قد يحتاج إلى فترة تتراوح بين ثلاثة أيام وعدة أسابيع. وحين تكتمل إجراءات نقل الأعضاء المطلوبة، يتم إبلاغ عائلة المتوفى بأنه ما من طائلٍ بعدُ في الإستمرار بإنعاش المتوفى، ويصل الأمر أحياناً إلى ممارسة الضغط عليهم بحجة تأمين المال اللازم لتغطية تلك النفقات الباهظة، التي تصل أحياناً إلى مئات ألوف الدولارات.
تمتلك هذه المؤسسات، إضافة إلى بنك المعلومات الفائق الدقة والمرتبط بشكل مباشر بغرف العمليات وأجنحة الطوارئ في المستشفيات، أسطولاً من طائرات الهليكوبتر والطائرات الصغيرة الخاصة المجهزة لنقل الأعضاء بسرعة قصوى من غرفة العمليات التي يتم انتزاع الأعضاء فيها إلى غرف العمليات المختلفة على بعد مئات أو حتى آلاف الكيلومترات حيث تتم عمليات الإستبدال.
ما من شكٍ في أن عمل هذه المؤسسات يعتبر من جانب الجهة المتلقية ذو قيمة لا يمكن المس أو التعرّض لها خاصة وأنها تعيد لهؤلاء المرضى نعمة الحياة بشكل شبه طبيعي بعد معاناتهم القاسية مع المرض واقترابهم من حافة الموت في معظم الأحيان. وهذا أمرٌ طبيعي ومنطقي. إلا أن ما يتم نسيانه والتغاضي عنه هو النتائج القاسية التي تترتب على ممارسات تلك المؤسسات تجاه الجهة المانحة، أو الذين ينوبون عنها، وهي نتائج تكاد تودي بالكثيرين منهم إلى المرض والموت لفداحتها!
أما النقطة الأخطر في هذا الأمر فهي ما يُثار، لكن على نطاقٍ ضيقٍ، عن دخول المال عاملاً مؤثراً في سرعة حصول المتلقين على الأعضاء، وهو ما يمثّل مشكلة أخلاقية وقانونية تضاف إلى مشكلة التعامل مع الجهة المانحة وقيمة العمولات التي تتقاضاها تلك المؤسسات، خاصة في الحالات النادرة.
يبقى السؤال، كيف تتم مقاربة هذه المسألة في العالم العربي، خاصة في ظل كثرة الحديث عن وجود مافيات للتجارة بالأعضاء في بعض البلدان الفقيرة أو التي لا رقابة فيها على الصحة العامة؟
ساحة النقاش