الذاكرة الثقافية العربية بين العولمة والإقليمية
بقلم: د. محمد ناصر الخوالده
الذاكرة ومفهومها:
يتحدد تناول الذاكرة بالصورة التي تبرزها العلوم الإنسانية وتحديدا التاريخ والأنثروبولوجيا. والأخيرة هذه تهتم بالذاكرة الجماعية أكثر من اهتمامها بالذاكرة الفردية، والأولى هي التي تشغل اهتمامنا بالوقت الراهن الذي أصبحت فيه الشركات متعددة الجنسيات وثورة المعلومات تكتسح الحدود وتغزو العقول محطمة كل الحواجز التي كانت قائمة خاصة تلك التي لا تمتلك وسائل الدفاع القوية كما هو حال الأمة العربية. فالذاكرة هي خاصية حفظ المعلومات أو بعضها، وهي تحيل إلى جملة من الوظائف النفسية يستطيع الإنسان بفضلها استرجاع وأحياء انطباعات أو معلومات انقضت ومن ثم يتمثلها كما هي وما تعيشه الأمة العربية في ظروف العولمة والنظام العالمي الجديد، وبالذات منذ أوائل عقد التسعينات للقرن الماضي هو محاولة إفراغ قسري لمخزون ذاكرة هذه الأمة ووجود فقدان فردي لها تؤدي إلى اضطراب في الشخصية وتنسحب أيضا على الذاكرة الجمعية. فغياب أو فقدان الذاكرة الجمعية عند الأمم والشعوب طوعا أو قسرا من الممكن أن يقود إلى اضطرابات خطيرة وحادة في الهوية الجمعية ولأن تاريخ الذاكرة قد اعتمد في مراحله الأولى على التناقل ألشفاهي المؤسس على الأساطير وتحديدا أساطير الأصل أو البدء، وظهور الكتابة يرتبط بتحول عميق في الذاكرة الجمعية عندما أخذت شكل التدوين عبر النقوش وما تبعها والتي احتفظت بجزء مهم في الذاكرة التاريخية تمثلت في الحضارات القيمة في المنطقة العربية.
لقد أصبحت الذاكرة عندنا ركنا أساسيا من أركان الخطابة الأساسية التي يستعملها الحكام وبعض المثقفين في إشعال جذوة الحماس الوطني عند البسطاء من عامة الشعب لينسوا جوع بطونهم وجراح أجسادهم التي أنكتها صياد هؤلاء الخطباء العظام من زعماء القومية العربية وحماة الإسلام وهم يرددون " يا أبناء سبأ وحمير بابل وكنعان، ويا أحفاد صلاح الدين.. الخ " دون أن تعرف هذه الجماهير من هم هؤلاء الأجداد وماذا صنعوا في التاريخ حتى يكونوا نبراسا وقدوة لانطلاقة جديدة يقوم بها الأحفاد في بناء حضارة معاصرة تأخذ مكانتها بين الأمم على وجه هذه الأراضي التي يعيشون على سطحها، وحتى لا تتعرض للمسخ والمس عن طريق ما يبث من ثقافة ذات مضامين دعائية إعلانية متطورة تجعل الإنسان العربي يعيش حالة ذهول وانفصام بين الخطاب الحماسي والثقافة التابعة والقمع المنظم في الداخل والموروث منذ قرون وبين ما يأتيه عبر الأقمار الصناعية ووسائل الإعلام والاتصال المختلفة من غزو ثقافي.
والغريب والمريب... هو أمر أصحاب هذا الخطاب الثقافي المنحاز للسلطة والغزو الثقافي الذين يصرون على أن يمسكون بأساليب سلطوية في كل ظروف أصبح فيها التشبث بطوق النجاة الوهمي غير ذي جدوى، هذه الظروف التي أصبحت تخضع لتطور عالم معاصر يقع تحت ضغط التاريخ المباشر، وهو في الجزء منه يصنع بواسطة أشباه المثقفين ومروجي العولمة وينحو نحو الإنتاج المتعاظم للذاكرة الجمعية. ومن هنا نرى أن الغرب الاستعماري منذ بزوغ الدولة القومية هو الذي يعمل على تعزيز وتعميق التصنيفات النهائية للثقافات والحضارات، فهو حريص أن يبقي على فكر الآخر غير الأوروبي والأمريكي الشمالي محصور في الإناء القديم باسم الحفاظ على الخصوصية والهوية الثقافية. وفي حالة العرب والمسلمين مهم جدا حماية الهوية الثقافية والخصوصية العقائدية وغيرها من الخصوصيات التي ظلت سمات الإنسان العربي والمسلم لفترة تاريخية طويلة والتمسك بالحفاظ على التراث الثقافي والأدبي والثقافي بكل إنجازاته وبكل معطياته حتى يكون مرجعية وحافزا يمد الأمة بعزيمة البناء والتجديد والأخذ بأدوات التطور والإبداع الذي يقوي شكيمة الإسلام والعروبة حتى تجعلها في مقدمة الأمم لا أن تكون تابعة أو مستكينة.
المدخل إلى إعادة الحياة للذاكرة الثقافة العربية
لا يمكن أن توجد علاقة صحية بالحاضر في غيبة علاقة سوية بالماضي. وبالقدر نفسه لا يمكن أن تنطوي العلاقة بالحاضر على وعود إيجابية إلا إذا كانت هذه العلاقة تضع في اعتبارها إمكانات المستقبل الخلاقة وأفاقة المفتوحة إلى ما لا نهاية. فالمستقبل الأفضل هو الممكن الذي نسعى إليه بتطوير الحاضر، وهو الإطار المرجعي الذي لا بد أن يحكم تعاملنا مع معطيات الحاضر وشروطه.
فالحاضر الفاعل هو الحاضر الذي يعي أن علاقته الموجبة بماضيه هي دافع أصيل من دوافع تقدمه، شأنها في ذلك شأن علاقته الموجبة بمستقبله، خصوصا حين تتحول العلاقة الأخيرة إلى باعث على تطوير إمكانات الحاضر وتحقيق أحلامه.
ومن هذا المنظور، فإن استعادة الماضي، إبداعيا، هي الوجه الآخر من التطلع إلى المستقبل، في العملية نفسها التي يتولى بها الوعي الفاعل في الحاضر تطوير الاحتمالات الموجبة التي يراها، ومواجهة أوضاعه السالبة التي لا يغفل عنها.
وإذا كان التطلع إلى المستقبل يعني القياس على احتمالاته الموجبة، والفعل في الحاضر من منظور الأفق المفتوح لممكناته، فإن استعادة الماضي لا تعني التقليد الساذج، ولا ترادف الإتباع الجامد، فذلك إلغاء لاحتمالات التقدم في الماضي.
أن الإتباع الأعمى قرين التقليد الجامد، كلاهما مجلى للنقل الذي يخلو من العقل في الفكر والإبداع، وكلاهما سمة التخلف أو العقم الذي تنتهي إليه الذاكرة الثقافية. ويحدث ذلك حين تفتقر الذاكرة الثقافية إلى الدافع الخلاق للحركة إلى الأمام، وتغلق الأبواب المفتوحة للاجتهاد، وتحارب الابتكار الذي تصمه ببدعة الضلالة، أو تلقي به مع الإبداع في حمأة الإثم والمعصية.
وقد انهارت الثقافة العربية حين اغتربت عن عقلها الذي ألقت به في دورات متعاقبة من السجن والتشريد، فأصبح العقل مطاردا بالنقل، والإتباع بديلا عن الإبداع، والتقليد شعار السلامة والتصديق ملاذ المحكومين بالقمع الذي تعددت صوره وأشكاله، ابتداء من تسلط السلاطين وبطش جلاديهم، مرورا بفتاوى فقهاء، النقل والتقليد من أعداء العقل، وانتهاء بأصحاب الأقلام الذين دعوا إلى طاعة أولى الأمر في كل مجال. ومحاربة الابتداع الذي يتمرد على التقليد، والعداء للاجتهاد إلى درجة إلغائه.
من المؤكد أن إعادة النهضة للذاكرة الثقافية العربية إذا أريد لها الحضور الواعد، لا يتحقق إلا بانقطاعها عن تقاليد الإتباع الجامد، واستئنافها حركة العقل، والدعوة إلى إعادة الحياة للذاكرة الثقافية العربية بما يعيد إنتاجها من جديد، مقرون بأعمال العقل في مواجهة المشكلات الطارئة، والبحث عن حلول مبتكرة لمحدثات المتغيرات الجديدة. بتحرير تلك الذاكرة الثقافية عن هوة العقم والعودة بها. وبعد إحيائها بما يدفع حركة إعادة الذاكرة الثقافية العربية بما يدفع حركة الثقافة في طريق المستقبل الذي بدا واعداً.
وكما استعان فكر النهضة بميراثه العقلاني، مستبدلا أهل العقل بأهل النقل، والاجتهاد بالتقليد، فإن إعادة الحياة للذاكرة الثقافية العربية، لا بد له من الاستعانة بالميراث الثقافي الذي لم يخل من حضور العقل، متواصلاً مع قممه الإبداعية، فاتحا أفق إعادة الإنتاج الثقافي الذي لا يفارق معنى التواصل، بحيث يكون الهدف استعادة أمجاد الماضي الزاهر وتجاربه لتكون ذاكرة للحاضر وعبرة، وذلك في مواجهة التحديات التي أصبح يواجهها.
إن استعادة الماضي الزاهر، واستحضار تجاربه، وإحياء الدوافع الأبتكارية لهذه التجارب، الوسيلة الأولى في مجاوزة شروط التبعية المستكينة المقرونة بالإتباع الخانع، ولم يكن ذلك يعني البدء من حيث انتهت ضعف وعقم الثقافة، بل من حيث ابتدأت عناصر القوة والإبداع. وكان العنصر الفاعل في ذلك هو العقل، الذي تحرر من أغلب قيوده الثقيلة وأصبح مستعداً لوضع ماضيه الممتد موضع التأمل، كاشفاً أسباب القوة وأسباب الضعف.
إن تأسيس دلالة النهضة الثقافية بمدى انطلاقها من النقطة التي بدأ منها السابقون، ومنافستهم في المضمار الذي انطلقوا فيه، والمضي مع نقطة البداية إلى غايتها التي أصبحت سر صحوة الثقافة العربية الحديثة، بحيث تكون هذه الصحوة موصولة بمعنى البعث في الدلالة التي تحيي إعادة الحياة للذاكرة الثقافية العربية في الحاضر، كي تستمد منها الحاضر القوة التي تسمح بإطلاق سراح الدوافع التي تبدأ منها رغبة الابتكار. وعليه، فمن الضروري استعادة الثقافة العربية مكانتها التي أضاعتها، كما يستعيد المثقفون أدوارهم المرتبطة بإصلاح الحياة ودفعها إلى دروب التقدم، مشتبكين مع المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي، منحازين لقيمه الصاعدة: حق العقل، الانفتاح على الآخر مع الحفاظ على الملامح الأصلية للهوية، الدفاع عن المجتمع الصاعد في تنوعه البشري، استقبال مظاهر التحديث بوصفها علامات للتطور، وصل ما انقطع من رغبة معرفة ما يحدث في الدنيا التي لم تعد مقصورة على جنس واحد، استرجاع قيم التسامح في تواصل القيم الروحية السامية، تأكيد الحضور الثقافي وتأكيد هذا الحضور في مواجهة الثقافة الخارجية والتي تنقل عبر وسائل الاتصال في ظل تكنولوجيا المعلوماتية.
ولكن أمثال هذه الجوانب الإيجابية لم تمنع من وجود جوانب سلبية موازية، أو ملازمة. وهي جوانب انطوى عليها مفهوم الاستعادة حين انحصر في دائرة الاسترجاع، وأصبح مرادفا لمعنى البعث أو معنى الإحياء، أي عملية إحياء المبدأ الدافعي لحركة الحياة الثقافية العربية واسترجاع النتائج السلبية التي انتهت إليها الحياة الثقافية، بل التي انطوى عليها منذ أزمنة ازدهارها، ولم تفارق المبدأ الدافعي على امتداد هذه الثقافة التي تحولت من الصعود إلى الهبوط.
وإذا كان الوجه السالب من عملية الاستعادة للذاكرة الثقافية يتأخر في الظهور عادة، ولا يبرز للعيان إلا بعد ضيق دوائر المنافسة عبر الموجات المتتابعة من الممارسة، والتقلص التدريجي لروح الأصالة الثقافية، يظل ملازما قرينه الإيجابي في الثقافي نفسه، المتصل الذي يبدأ بالإيجاب وينتهي بالسلب.
ولذلك ما كان يمكن أن يظهر الوجه السلبي لفعل الاستعادة الإيحائي، وتظهر مثالبه، إلا بعد إكتمال جهود البحث من ناحية ووضع نتائج هذه الجهود موضع المساءلة، لاكتشاف ما لها وما عليها. ولكن مع ذلك كله، فإن إعادة الحياة للذاكرة الثقافية مرحلة لا بد منها، وبداية لا يمكن الانطلاق إلى ما بعدها إلا بعد ظهور ثمارها. أي أنه ما كان يمكن مجاوزة الانحدار السابق على إعادة الحياة للذاكرة الثقافية العربية إلا بالعودة على النقيض الذي يمثل المرتقى في الثقافي نفسه الذي تواجه به العناصر الموجبة عناصره السالبة، محررة الحاضر من أسر العناصر الجامدة التي حاولت عرقلة حركته، وإعاقة أهدافه.
وفي الوقت نفسه، فإن عملية إعادة الحياة للذاكرة الثقافية العربية مقدمة لما بعدها خصوصاً بعد أن ابتدأت بالإزاحة الضرورية لتراكمات العقم الثقافي، ومتابعة المواصلة بين عناصر الماضي الحي وعناصر الحاضر المتأهبة للتغيير.
المساحة بين العولمة والإقليمية ثقافيا، علاقة عداء أم علاقة حاجة؟
ليس أمام من يدرس ظاهرة العولمة، إلا السير بالاتجاه الذي يشكل الإطار الفكري لمفهوم العولمة، خاصة بعد أن أضحى هذا المصطلح هو مصطلح حقبة التسعينات وبداية العقد الحالي من الألفية الثالثة دون منازع، حيث تصاعد استخدامه فكان الشغل الشاغل لرجال السياسة، والإعلام، والأعمال، والاقتصاد والثقافة. حيث كان هناك فريقان، الأول يعده جزأً مما يشهده العالم من تطورات متسارعة، وهو بلا شك يأتي لبناء مجتمع جديد بهيكلية جديدة تنشر الخير وتحقق الرفاهية، والثاني يعدها محاولة خارجية تتبناها الدول الاستعمارية حيث تهدف بالدرجة الأولى الأساس إلى تسييد قيم ومفاهيم جديدة وإحلالها محل تلك التي كانت تسود المجتمعات القومية على مر العصور، وهي بالتالي تحمل تحت ستارها مفاهيم مختلفة، مثل الاستعباد، والسيطرة وتشويه الهوية القومية.
هذا التشابك الذي يرتبط بمفهوم العولمة، جعل من كل الموضوعات والأشياء والخطابات التي تتصل بالمفهوم العولمي، خاضعة للبحث والمحاكمة، والاستقصاء من طرف العلم والفلسفة والتقنية من جانب، فإن العولمة ما زالت لا تملك أي نظرية مقننة لأنها تضع لنفسها كشكل للحداثة الثانية أو ما بعد الحداثة.
وبتنا نواجه مع العولمة، عالماً زاخراً بالمتناقضات يتوازى فيه تكتل دولة مع تفتت دويلاته، ولا يفوق نمه الاقتصادي في شماله الغني إلا زيادة عدد فقرائه في الجنوب الفقير، وها هي شبكة الإنترنت التي أقيمت أصلا لاتقاء ضربة سوفيتية محتملة، يروج لها كأداة مثلى لإشاعة ثقافة السلام، الذي تلاحقه آثار (151 ) حرباً نشبت منذ الحرب العالمية الثانية، ويا له من مخاض عسير حقاً هذا الذي تمر به البشرية، حيث تنتصب العولمة كمفهوم يعني سيادة الأنموذج الحضاري الغربي المتمثل في هيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي ومؤسساتها الدولية، وسيادة الثقافة الغربية، وبالذات الطابع الثقافي الأمريكي، مما يجعل الثقافات الأخرى في موقع التابع.
إنها إذن تحيل إلى حضارة تعمل على إلغاء الآخر ونفي ثقافته وبسط نماذجها وأساليب تدخلها في الفضاء والزمن وأشكال تنظيمها للسياسة وللعلاقات الدولية.
إذن العولمة انفتاح أفق العالم أمام الأمركة، حيث الإنتاج المتخطي للحدود يتصل بعوالم الوعي والرموز الثقافية للثقافات المحلية، ليتوحد الجميع بناء على خطة مرسومة، ومن ثم إلغاء الهويات القومية والثقافات الإنسانية الأخرى بحيث تضحى الثقافات المحلية المعولمة، ثقافات لا ترتبط بأي مكان ولا بأي زمان فهي عديمة السياق، وخليط حقيقي من العناصر المتناقضة أحضرت كل مكان ومن لا مكان، لتفرض أنموذج الأمركة عبر ثورة الاتصالات والهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وأدوات ومؤسسات العولمة.انطلاقا من فرضية ( أن الحضارة الغربية حضارة كونية وليست مجرد إفرازات ونتائج لظروف تاريخية واجتماعية محددة لجماعة من الجماعات أو امة من الأمم، وهذه الفكرة كما يقول ( صمويل هانغتون ): ( فكرة غربية يروج لها مفكرو الغرب، ولذلك يرى دعاة العولمة أن الاندماج في العولمة لا يقتصر على اكتساب مهارات وقدرات جديدة، مثل إجادة علم الحاسوب وتقييم البرامج والعمل في شبكة الإنترنت وإجادة اللغة الإنجليزية، ولكن على الأفراد الذين يسعون إلى الاستفادة من العولمة وجني ثمارها أن يندمجوا في منظومتها الثقافية، وأن يقوموا بتكييف اتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم مع منظومة القيم وطرائق التفكير التي تتطلبها العولمة )، التي بهذا المفهوم لا تعدو أن تكون عملية هيمنة إعلامية وثقافية واقتصادية وحضارية، تقوم على أحادية في كل ذلك، وهذه الرؤية لها آثارها الاجتماعية والأمنية على الدول والمجتمعات.
أما آثارها السلبية على المجتمع العربي في مجال الثقافة:
تؤثر العولمة سلبا على عدد من فئات المجتمع: منها رجال الأعمال والمثقفين والفرد العادي.
فعلى مستوى الصفوة الاقتصادية نجحت العولمة في إيجاد نخبة من المنتفعين يكونون شبكة استثمارية ذات أهداف مشتركة تتجاوز في تطلعاتها ومصالحها كل الحواجز الاجتماعية وتحقق النجاح من خلال ارتباط مصالحها بمصالح الرأسمالية العالمية هذه النخبة موجودة في معظم الدول العربية.
وأما على مستوى الصفوة من المثقفين في العالم العربي فإنه وإن اتجه الكثير من هؤلاء إلى فقد العولمة بكافة جوانبها إلا أن الجانب الآخر منهم قَبلّْْ العولمة بدون تحفظ من منطلق أنها قد تخفف على المجتمع العربي ولو جزئيا من القهر الذي يعيش فيه، وهو ما يشكل أكبر الأخطار على المجتمع وفي النهاية على الأنظمة نفسها.
أن العولمة ليست قابلة للرفض أو للقبول بل يجب التعامل معها كنظام متشابك الأبعاد يجب فهمه والتعامل معه بشكل كلي فلا نقبل الجانب الاقتصادي منها كاملا مثلا ونتعامل مع جانبها السياسي بشكل حذر، الأمر الذي قد يؤدي إلى تبني وقبول جانبها الثقافي. ولأن العلاقة بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي هي علاقة ترابط عضوي لا يمكن لأحدهم أن يشد عن الآخر.
ولا شك من أن أولى خطوات حماية الثقافة الوطنية هو الارتكاز على بنية سياسية وإمكانات اقتصادية هي في الأساس موجودة ولكنها تتعرض للهدر والنهب المنظم.
وهنا نتسأل حول أهداف ومقاصد خطاب العولمة على خلفية من الغزو الثقافي فالحديث عن الغزو الثقافي في العلاقة مع الغرب قديم قدم العلاقة نفسها والمفاد الضمني لهذا الاعتقاد هو أن الغزو المبني على " أيديولوجية " العولمة إنما هو غزو ثقافي محض، تستهدف منه الدول وأفراد مجتمعاتها والقضاء على الثقافات المتدنية، وترسيخ ثقافة عالمية موحدة.
وهذا الاعتقاد أن الغزو الثقافي المحلي إنما هو حملة ضد القيم وأنماط وسلوكيات ثبت أنها مناهضة ومناقضة ومنافسة للثقافات الغربية التي أبانت عن حيويتها وديناميتها وإبداعها. وباختصار أيديولوجية تتبنى نظرية البقاء للأقوى، وتؤمن بأن الهدف الأسمى يجب أن يكمن في القضاء على هذه الثقافات والحد من خطورتها وتقويضها كمرحلة أساسية لتطويعها وتدجينها.
وبالنسبة لنا نحن نعتقد بمصداقية هذا الطرح المُغَيَّب لحقيقة الغزو ولا سيما في شكله الجديد، الشكل الثقافي. لكننا لا نتبناه كهدف بقدر ما نُطالب بضرورة التعامل معها كوسيلة. فليس هناك فيما نعتقد، غزو من أجل الغزو، ولا هيمنة ثقافية من أجل الهيمنة. وبالتالي، فما يروج له من طروحات وأفكار حول " الغزو الثقافي " أو " الاختراق الثقافي " أو " الهيمنة الثقافية " أو " علاقة ألعداء الثقافي "... الخ. لا يتعامل، إلا فيما ندر مع هذه الظاهرة ظاهرة الغزو، على أنها وسيلة لأهداف، مع التسليم بوجودها بطبيعة الحال. ومن هنا لا بد أن نميز بين نموذجين من الخطاب السائد حول إشكالية الغزو الثقافي على ضوء المتغيرات التكنولوجية والمؤسساتية التي ميزت ولا تزال العالم منذ حوالي عقدين من ألزمن أو أكثر:
النموذج الأول: ويتبنى الخطاب الغربي تماماً. وهو خطاب إحدى خصائصه الانبهار والإيمان بعالمية العلم والمعرفة، ولا وجود في خطابه السائد لغزو ثقافي.
النموذج الثاني: يتولى خطاب المواجهة باعتباره إحدى وسائل الدفاع عن الثقافة والهوية. والمثقفون الذين نعنيهم هنا، هم العاملون بالكلمة بشتى أشكالها ألمنطوقة أو المكتوبة أو المصورة أو المغناة... المؤثرين بها على وعي الناس المتلقين.
والنموذج الأول من هؤلاء هم الملصقون بشكل الخطاب الثقافي الغربي وبنيته، وتراهم يتبنون انطلاقاً من واقع بلدانهم المتخلف والمتردي، مصطلحات العولمة والشمولية والعالمية والكوكبية... تماما كما ينظر لها بدراية وعن قصد، مثقفو الغرب. فهم إذن يفكرون بأدوات الآخر، ويتكلمون بمنطق الآخر، ويفسرون الظواهر بمصطلحات الآخر. ولكونهم يؤمنون أشد ما يكون الإيمان بعالمية الثقافة، فقلما تجدهم يعيرون أدنى اهتمام لمسألة الغزو الثقافي، فينطبق عليهم بالتالي نعت " المثقفين اللقطاء " الذي صاغه الجابري، كونهم لا يشاركون الآمة همومها بحكم انغماسهم في نمط الحياة الاستهلاكية وانصرافهم شبه التام عن دورهم التثقيفي باستثناء اهتمامهم بالثقافة المحققة للعيش الرغيد، ثقافة التضليل المعرفي.
أما النموذج الثاني من المثقفين، فهو ملتزم بهموم شعبه ولا يهمه في ذلك إغراء السلطة أو المال أو المنصب، وتشبته بالكلمة الصادقة بجميع أنواعها.
هذا النموذج من المثقفين لا يؤمن بعالمية الثقافة ولا بإمكانية عولمتها.
والنموذج الثاني: بقدر ما أنه لا يؤمن بعالمية الثقافة، بقدر ما يطرح المسالة الثقافية في ارتباط وثيق بمسألتي الخصوصية والهوية، باعتبار أن الثقافة هي، في حد ذاتها، مجموعة منظومات ومعايير وأنساق متداخلة ومتكاملة، منظومات المعايير، منظومات التعبير. من هنا فالاختراق أو الغزو الثقافي إنما يستهدف اختراق الهوية الحضارية الأمم والشعوب من خلال اختراق المنظومات المكونة لثقافتها.
إن الاختراق أو الغزو الثقافي ليس بالضرورة مفروضاً... فقد يكون في المستقبل عن طيبة خاطر، وقد يتسارع بانتقال بعض المثقفين من النموذج الثاني إلى النموذج الأول. فما الفائدة إذن من الحديث عن ضرورة خطاب وممارسة إحياء الثقافة العربية ؟ ذلك لأن الثقافة هي، بكل بساطة، أخر قلاع المقاومة ضد استباحة الهوية والخصوصية.
ساحة النقاش