إن أخلاق الفهم المقصودة هي عبارة عن فن العيش مع الآخرين، وتتطلب الفهم بشكل نزيه، فهم أنفسنا وفهم الآخرين، وتقدير الاختلاف، بدلا من عزل الآخرين ولعنهم، لأن هذه الآلية لاتقود إلا إلى تضليلنا عن فهم عيوبنا وتضخيم عيوب الآخرين، وربما اختلاقها. أخلاق الفهم تقود إلى «أنسنة العلاقات الإنسانية»، لا إلى توحشها، وهذه الأنسنة هي طريق «التفكير الجيد»، الذي يسمح لنا بفهم الشروط الموضوعية والذاتية للسلوك الإنساني، سواء في الجانب السلبي أو الجانب الإيجابي، وبالتالي إتاحة الفرصة لإزالة السلبي وتأكيد الإيجابي، في أنفسنا وفي الآخرين. وهو شيء ضروري أن نلجأ جميعا إلى هذه الممارسة الذهنية المتجلية في الفحص الذاتي، لأن فهم نقاط ضعفنا الخاصة، أو نواقصنا هو السبيل نحو فهم نقاط ضعف ونواقص الآخرين، أو بمعنى أدق تفهمنا لضعف ونواقص الغير، في إطار أننا جميعا كائنات معرضة للخطأ، هشة وغير مكتفية بذاتها، وحينئذ يمكننا أن نكتشف حاجتنا المتبادلة للفهم. وحاجتنا المتبادلة للتعاون والتراحم. فهل تعلم مؤسساتنا التعليمية ذلك؟ وألا يكون مفيدا أن يتعلم أبناؤنا ذلك، عبر تأهيل هيئات التدريس ـ من روضة الأطفال حتى الجامعة ـ لنشر هذا النوع من الفهم -تربويا - أثناء تعلم المواد العقلية. إنه أمر مفيد بكل تأكيد، ومحصلته في حدها الأدنى تثمر في المستقبل القريب والبعيد أجيالا لاتنقاد إلى أنماط التمركز الذاتي المتعصب، ولا تنصاع لغوايات التطرف والعنف الأعمى.

إن فهم الغير يتطلب منا الوعي بالطابع المركب للإنسان، وعدم اختزال الإنسان في لحظة مجتزأة من كيانه كله، أو توصيفه بأسوأ لحظة في ماضيه، وما يسري على تقييم الأفراد يجوز على الشعوب والأمم، وبعبارة موجزة من أدبيات ديننا الحنيف، فإن هذا يمثل منهج الرحمة والتراحم، الذي ينبغي أن نلتفت إليه كثيرا في العملية التربوية، إضافة لما يقدمه الأدب والفن في هذا الاتجاه من أعمال تعلمنا الشفقة على معاناة كل المهانين .

ومن طريق آخر يمكننا أن نصل إلى هذا «الفهم» بما يسمَّى «استدخال التسامح»، فالتسامح الحقيقي، والذي لابد أنه المعني في حديثنا، ليس أبدًا نوعًا من اللامبالاة تجاه الأفكار المختلفة، بل يعني الاقتناع والاختيار الحقيقي لتقبل وجود الأفكار المختلفة، وفي هذا يقتضي التسامح الحقيقي قدرا من المعاناة في تحمل حق الآخرين في التعبير عن أفكار مخالفة لأفكارنا، وقد تبدو لنا سيئة، وهذا يقودنا إلى مستوى آخر هو صلب الديمقراطية التي تستـوعب، أو ينبغي أن تستوعب، وجود آراء مختلفة ومتناقضـة يلتزم الجميع باحترام حق التعبير عنها. ثم يأتي المستوى الأعمق للتسامح، والذي عبر عنه نيلز بوهر بالقول: «إن نقيض فكرة ما عميقة هو فكرة أخرى عميقة، وبصيغة أخرى الاعتراف بثمة حقيقة، أو على الأقل حقيقة محتملة، في الفكرة المناقضة لفكرتنا».

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 218 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

357,367