التفكير في المستقبل .


التغيرات المتسارعة والمستجدات الطارئة التي يشهدها العالم في العقود الأخيرة, تثير كثيرا من علامات الاستفهام والتساؤلات عما سيكون عليه مستقبل المجتمع الإنساني, بل وعن مصير الإنسان نفسه إزاء ارتياد العلم الحديث مجالات من البحث, كان محرّما عليه الاقتراب منها بحكم التقاليد المتوارثة, والقيم الأخلاقية والعقائد الدينية, ولكنه استطاع في الآونة الأخيرة أن يحطم كثيرا من تلك القيود, ويتدخل في أدق عمليات التكوين الفسيولوجي والبيولوجي لدى الكائنات الحية, لكي يستنسخ منها كائنات جديدة لها مواصفات وقدرات مختارة, على أن تمتد هذه التجارب إلى الإنسان نفسه بعد التغلب على الاعتبارات الأخلاقية والدينية, التي لايزال الكثيرون يثيرونها احتراما لقداسة الكائن البشري. ويبدو أن العلم قد أسقط أخيرا من حسابه هذه الاعتبارات أيضا.


ولقد كان التفكير في المستقبل أحد أهم الهواجس التي شغلت فكر الإنسان منذ بداية ظهوره على سطح الأرض في العصور المبكرة جدا وخلال كل مراحل التاريخ. وكانت مواجهة ذلك الهاجس وراء كل ما أحرزه الجنس البشري من تقدم وتطور, فقد كان الإنسان يرصد دائما الأحداث التي تدور حوله, ويعمل على استشراف التغيرات المستقبلية الناجمة في معظم الأحيان عن أنشطته هو نفسه, في مختلف مجالات الحياة, ويستعين بالمستجدات التي تلازم ظهور هذه التغيرات في إحداث تغيرات ومستجدات أخرى وهكذا. ولكن لم يكن لهذه التغيرات المستمرة من التأثير في حياة الفرد والمجتمع ما يمكن مقارنته بالتأثيرات الجذرية العميقة الحالية التي تهز بقوة وعنف حياة الإنسان في كل مكان من العالم, نتيجة لتراكم المعلومات والخبرات وازدياد التواصل بين الشعوب والجماعات الإنسانية, التي كانت تعيش في عزلة نسبية بعضها عن بعضها الآخر. ولقد أسفرت الجهود المتواصلة للكشف عن أسرار الحياة والمواطن المجهولة من تكوين العالم وارتياد مناطق ومجالات جديدة من العلم والمعرفة عن نتائج تفوق كل التوقعات, التي كان يحلم بها ليس فقط الشخص العادي, بل وأيضا الكثيرون من المفكرين والمثقفين المهمومين بالوضع الإنساني بشكل عام, وتثير في نفوسهم غير قليل من الخوف من قدرات العقل البشري والقلق على مصير الإنسان ومكانته من الكون, بل وعلى مفهوم الإنسانية ذاته.


وقد كان من الطبيعي أن يكرّس الكثيرون من هؤلاء المفكرين والباحثين أنفسهم لتتبع مسار هذه الكشوف ورصد النتائج التي سوف تترتب عليها وتأثيرها في الثقافة والمجتمع, ووضع التصوّرات المحتملة لما قد يمكن أن يكون عليه الوضع الإنساني في المستقبل القريب والبعيد, واقتراح الوسائل والأساليب التي يمكن بها مواجهة هذه النتائج ومناوأتها أو التكيّف معها, وتسخير المستجدات الناجمة عنها لمصلحة الإنسان, وتقدم المجتمع, وأدى ذلك كله إلى قيام دراسة أو علم المستقبل, الذي يجد الآن إقبالا شديدا عليه في الغرب, وبخاصة في أمريكا, ليس فقط بين فئات معينة من العلماء الذين اتخذوا منه ميدانا للتخصص ومهنة للعمل يقدمون من خلالها الاستشارات والتوصيات للحكومات والمؤسسات العلمية, بل والشركات التجارية, وإنما أيضا من أعداد كبيرة من المثقفين العاديين بحيث بلغ عدد أعضاء (جمعية مستقبل العالم) الأمريكية أكثر من ثلاثين ألف عضو منهم ما يزيد على الألف عضو من العلماء الذين يعتبرون أنفسهم متخصصين فعلا في هذا المجال الجديد ويمارسون العمل فيه حسب قواعد ومناهج معينة تضفي عليه كثيرا من الموضوعية.


وهذا لا يعني أن الاهتمام باستشراف المستقبل مسألة مقصورة على المجتمعات الغربية أو على العصر الحديث. فقد كان للثقافات والمجتمعات اللاغربية ولع شديد دائما بتعرف مستقبلها وما يخبئه القدر لأعضائها, وكانت لها وسائلها البسيطة, التي تعتبر الآن وسائل ساذجة وغيبية مثل التنجيم والسحر والشعوذة والتحديق في الكرات البللورية وغير ذلك من الوسائل التي لا تتفق مع العلم الموضوعي الحديث, ولكنها تعتبر في نظر أصحابها نوعا من (العلم), خاصة أن قدرا من التنبؤات التي يصل إليها استخدام هذه الوسائل تتحقق بالفعل على مستوى الواقع. وعلماء الأنثربولوجيا الذين يهتمون بدراسة أنماط الفكر في الجماعات والثقافات اللاغربية يسمون هذه الممارسات (العلم الزائف) الذي يتناسب مع الحال المعرفية, التي تعيش فيها هذه الجماعات التي تستخدم ذلك (العلم) في استشراف المستقبل وتسخير النتائج التي تصل إليها بهذه الوسائل لمصلحتها الخاصة, تماما مثلما يعمل المجتمع الحديث على استشراف وتعرف مستقبله, باستخدام علومه الحديثة المتقدمة, وتطويع هذه المعرفة لمصلحته وتحقيق مزيد من التقدم. وفي كلتا الحالتين تتعرض محاولات استشراف المستقبل للخطأ, ولكن بنسب متفاوتة ومتباينة - لأنه يداخلها قدر من الظن والتخمين, كما قد تظهر عوامل جديدة مفاجئة لم تكن في الحسبان تقلب كل الأوضاع وتفسد الجهود التي بذلت, للوصول إلى نتائج يمكن الركون إلى صحتها والاطمئنان إليها. وهذا يلقي بعض الظلال على مدى علمية (علم) المستقبل.


وثمة كتابات قديمة نسبيا - يرجع معظمها إلى القرن الثامن عشر في أوربا - كانت تتوقع أو تتنبأ بوقوع أحداث معينة في القرون التالية, وفي القرن العشرين على وجه الخصوص, وبعض هذه الكتابات له طابع منهجي وشبه علمي واضح. ومن أطرف هذه الكتابات كتاب أصدره أحد رجال الدين في بريطانيا ويدعى صامويل مادن تحت عنوان (ذكريات القرن العشرين)., وقد صدر الكتاب عام 1730 في شكل مجموعة من المراسلات الرسمية, التي تنبأ المؤلف بصدورها جميعا في عهد الملك جورج السادس ملك بريطانيا. وتبدأ هذه المراسلات أو الرسائل الرسمية بخطاب صادر من القسطنطينية عام 1997, وفيه يظهر جورج السادس على أنه مثال للإمبراطور القوي الذي يسيطر على أقدار العالم كله. ولكن مما يؤسف له أن معظم الأحداث التي تصور الأسقف مادن أنها (حدثت/ستحدث) في القرن العشرين كانت من الأحداث المألوفة التي وقعت بالفعل في القرن الثامن عشر على أيامه هو, ولكنه مع ذلك (تنبأ) بظهور أمور أخرى تحققت بالفعل, مثل إنشاء صوامع للغلال في كل قرى بريطانيا, وسن بعض القوانين والتشريعات الخاصة بحقوق المرأة ومكانتها في المجتمع. ويعتبر الكثيرون من المهتمين بالدراسات المستقبلية, أن كتاب مادن هو البداية الحقيقية الممهدة لظهور (علم المستقبل).


وقد ظهر بعد ذلك عدد آخر من الكتب التي سارت على المنوال نفسه, ولكن بطريقة أكثر دقة ومنطقية وأشد تطلعا. والطريف أنها كانت كلها تشير إلى أن هذه التغيرات سوف تحدث في فترة حكم جورج السادس. من ذلك - مثلا - كتاب أصدره الأسقف (الفيلسوف) جوزيف جلانفيل - وهو أحد مؤسسي الجمعية الملكية - يذكر فيه أنه سوف يأتي اليوم الذي يستخدم فيه المرء للتحرك والانتقال من مكان لآخر جناحين يساعدانه على الطيران, بدلا من أن يسير على الأرض, وحينئذ سوف يشتري الشخص لنفسه زوجا من الأجنحة بدلا من أن يشتري زوجا من الأحذية, كما أنه سوف يأتي وقت يستطيع فيه سكان بريطانيا التحدث مع جزر الأنديز من خلال تبادل الأفكار بدلا من إرسال الخطابات بالبريد العادي, وأن يتمكن الناس من السفر إلى القمر بالسهولة نفسها التي يسافرون بها إلى أمريكا, بل وأن يسترد المرء لون شعره الأسود الأصلي بعد أن يكون الشيب قد غطى رأسه, كما يستعيد نخاع عظامه قوته التي فقدها بتقدم السن وهكذا. ومن الطبيعي أن يدخل في هذه الكتابات المبكرة كثير من الخيال الذي لم يتحقق بعد. ولكن بعضها أفلح في تقديم صورة من تغيرات وقعت بالفعل, مثل انتشار وتشعب الطرق المائية بين القرى, في وقت لم تكن السكك الحديدية قد عرفت بعد, ونمو حجم القرى بحيث يتحول كثير منها إلى مدن, وظهور المدن الكبيرة أو العملاقة.


والاهتمام المتزايد الآن بعلم المستقبل أو الدراسات المستقبلية مؤشر واضح على التغير الجذري, الذي طرأ على موقف الإنسان من الحياة ودوره الإيجابي في تشكيل الواقع, حسب تصوّر محدد لما ينبغي أن تكون عليه حياته وعلاقته بالعالم الذي يحيط به, والذي يعمل هو نفسه على تشكيله بما يتفق بقدر الإمكان مع ذلك التصور ومع مصالح الإنسان نفسه. فالإنسان هو الذي يصنع مستقبله بنفسه, وقد كان ذلك هو الوضع دائما ولكنه, ازداد وضوحا في العصر الحديث نتيجة لحسن استخدام وتسخير المعرفة المتراكمة والتقدم التكنولوجي الهائل الناجم عن توظيف هذه المعرفة لتحقيق إنجازات معينة. وبقول آخر فإن المستقبل هو - إلى حد كبير - ما يتصوره الإنسان وما يعمل على صنعه وإبداعه وتحقيقه. وتتزايد فاعلية هذه القدرة الإبداعية - التي يتمتع بها الإنسان والنتائج المترتبة عليها - مع حسن الإفادة بشكل عقلاني من إنجازات العلم والتقدم التكنولوجي والتراكم المعرفي في مختلف المجالات.



ولقد ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي أسماء كثيرة لها شهرتها في مجالات متنوعة من المعرفة, ولكن كان لها أيضا في الوقت ذاته آراء وأفكار ناضجة عمّا سيكون عليه الوضع العالمي في المستقبل, وبخاصة في مجالات تخصصاتهم, وذلك بالإضافة إلى كتابات العلماء المتخصصين أصلا في علم المستقبل أو الدراسات المستقبلية. وربما كان أشهر هؤلاء المفكرين المهتمين بالموضوع - على الأقل بالنسبة للقارئ العربي - هو ألفين توفلر صاحب كتاب (صدمة المستقبل) الذي صدر عام 1970 وكان له صدى واسع في الأوساط العلمية والإعلامية, سواء بالنسبة لآرائه وتصوّراته المستقبلية, أو بالنسبة للنظرة المنهجية الكلية الشاملة التي تناول بها المشكلات التي يدور حولها الكتاب. ولم يذهب أحد من هؤلاء الكتاب المفكرين, أو من المتخصصين في علم المستقبل, إلى ادّعاء أن ما يصدر عنهم من آراء أو توقعات هي (نبوءات) وأحكام أخيرة قاطعة, بل كانوا يدركون دائما أنها مجرد احتمالات أمكن الاستدلال عليها من القراءة العقلانية المتأنية لسير الأحداث ومتابعة الأوضاع والظروف العامة المحيطة بالمجتمع العالمي, وانعكاس هذه الأوضاع والظروف على الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية المختلفة. فالباحث أو العالم المتخصص في علم المستقبل يعيش بذهنه في ذلك المستقبل وينظر إلى الغد على أنه تاريخ يمكن قراءة اتجاهاته الرئيسية, كما أنه (أي العالم المستقبلي) يعمل جاهدا وبأسلوب علمي دقيق على اللحاق بالغد, والسيطرة عليه وتوجيهه قبل أن يفاجئه ذلك الغد بحقائقه ووقائعه فيتحكم في حياته ويسلبه حريته في التفكير والعمل. كذلك يتمتع الباحث أو العالم المستقبلي بقدرة فائقة على الإحاطة الشاملة بالأوضاع السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه, وفي فرع تخصصه المعرفي الدقيق وتحليل هذه المعطيات في ضوء الاتجاهات العالمية, حتى يمكنه إعداد الأذهان للمتغيرات والمستجدات المتوقعة, ووضع الخطط الملائمة للتعامل معها على المدى القريب والمدى البعيد, مع الاستناد إلى دراسات ميدانية دقيقة وعدم الركون إلى الظن والتخمين إلا في الحدود التي تسمح له بها المعلومات المؤكدة اليقينية.


وقد قطع العالم الغربي شوطا هائلا في هذا المضمار وأقام - ويقيم - علاقاته السياسية وأنشطته الاقتصادية وإسهاماته وإنجازاته العلمية من خلال الاسترشاد بنتائج أبحاثه وتوقعاته المستقبلية في مختلف المجالات. وهذا هو ما يجب أن تأخذ مجتمعات العالم الثالث به, بحيث ترتفع بنفسها عن مستوى الأفكار السطحية الصادرة عن انطباعات سريعة لا تستند إلى موقف علمي موضوعي واضح صارم, وذلك حتى تلحق بالتقدم العلمي والثقافي الهائل, الذي يعمل حثيثا على تغيير ملامح الحياة على وجه الأرض.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 554 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

379,595