بين الصحيفة الورقية والإلكترونية .

حقيقة كون القطاع الأكثر إفادة من وسائل الإعلام آخذا في الاندثار تدعو إلى القلق، لكنها لا تدعو إلى الفزع. عام 1962 قال الكاتب الأميركي المسرحي آرثر ميلر "إن الصحيفة الجيدة، كما أعتقد، هي بمثابة أمة تتحدث إلى نفسها". وبعد عقد من ذلك، نشر مراسلان صحافيان من صحيفة الواشنطن بوست سلسلة مقالات أفضت في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ثم حلقت منزلة الصحافة المطبوعة لتطال العنان. وفي أفضل الأوضاع، تحمل الصحف الحكومات والشركات على الاضطلاع بمسؤولياتها. وعادة ما تضع الصحف أجندة الأخبار لوسائل الإعلام الأخرى كافة. لكن الصحف باتت الآن في العالم الثري فصيلة تحدق بها مخاطر الانقراض. ذلك أن النشاط التجاري القائم على بيع الكلمات للقراء وتسويق القراء على أصحاب الإعلانات، وهو ما حافظ على دور الصحف في المجتمع، آخذ الآن في التداعي.

من بين وسائل الإعلام "القديمة" كافة، تعتبر الصحف اكبر الخاسرين من انتشار الانترنت. وفي الأثناء، ما يزال انتشار الصحف في أميركا وأوروبا الغربية وأميركا اللاتينية واستراليا ونيوزيلندا آخذاً في الهبوط في العقود الراهنة (مع أن مبيعاتها آخذة في الصعود في أمكنة أخرى). وفي السنوات القليلة الماضية سرعت الشبكة العنكبوتية من وتيرة ذلك التداعي. وفي كتابه بعنوان "الصحيفة المتلاشية" يقول فيليب ماير إن الربع الأول من عام 2043 سيكون اللحظة التي تموت فيها الأخبار المطبوعة في أميركا حين يلقي آخر قارئ منهك جانبا بآخر طبعة متجعدة من صحيفة. وكان من شأن ذلك النوع من الكلام الفائض أن يولد رد فعل رافضا من قبل بيفربروك اوهيرست، لكن حتى أكثر بارونات الأخبار سخرية لا يستطيع استبعاد حقيقة أن عدداً أكبر من الشباب باتوا يملكون مداخل إلى خطوط الأخبار على شبكة الانترنت. ويقول بريطانيون تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين أنهم باتوا يصرفون على الأغلب 30% من الوقت أقل مما كانوا يصرفونه على قراءة الصحف المحلية بعد أن تحولوا إلى استخدام الانترنت.

إن الإعلان ما يزال يتبع القراء إلى خارج الباب. لكن هذه الاندفاعية غالباً ما تكون غير ظاهرة فيما يعود في جزء كبير منه إلى أن الانترنت قد بات وسيلة مغرية يفترض أن توفق بين المشترين والبائعين وتثبت لأصحاب الإعلانات بان نقودهم تنفق في الوجه الصحيح. وفي الغضون، فان الإعلانات المبوبة على وجه الخصوص تنتقل بسرعة عبر خطوط الانترنت. وكان روبرت مردوخ، وهو بفربروك وقتنا الراهن، قد وصف الإعلانات المبوبة ذات مرة بأنها أنهار الذهب للصناعة - لكنه قال في السنة الماضية "إن الأنهار تجف في بعض الأحيان". وقد خسرت الصحف في سويسرا وهولندا نصف حجم الإعلانات المبوبة لديها لصالح الانترنت.

ومع ذلك، فان الصحف لم تشرع بعد في إغلاق أبوابها بأعداد ضخمة، لكنها سائرة على الطريق، وتظل المسألة مسألة وقت. وخلال العقود القليلة المقبلة، قد تطوى نصف الصحف العامة في العالم الثري صفحاتها. وفي الأثناء، بدأت الوظائف الصحفية بالاختفاء. وطبقا لرابطة الصحف الأميركية، فقد هبط عدد الأشخاص العاملين في هذه الصناعة بواقع 18% بين عامي 1990 و2004، وتسبب هبوط أسهم المؤسسات الصحافية في غضب المستثمرين. وفي عام 2005، دفع مساهمون في مؤسسة "نايت ريدر" صاحبة عدة صحف أميركية يومية بالمؤسسة إلى بيع صحفها، وبالتالي إسدال الستار على تاريخ امتد لمدة مائة وأربعة عشر عاما. وفي هذه السنة، هاجم بنك مورغان ستانلي الاستثماري شركة النيويورك تايمز التي تعتبر أكثر الصحف الأميركية مهابة على الإطلاق لان سعر سهمها هبط بواقع النصف في غضون أربع سنوات.

بعد تجاهلها الحقيقة لأكثر من أربع سنوات، بدأت الصحف مؤخراً بمحاولة عمل شيء ما. وبغية خفض النفقات، بدأت فعلاً بإنفاق اقل على الصحافة. كما تحاول البعض منها أيضا اجتذاب قراء أكثر شبابا عبر تحويل مزيج قصصها إلى التركيز على التسلية واللايفستايل وموضوعات قد تبدو أكثر صلة بحيات  الناس اليومية مما هي عليه الشؤون الدولية والسياسية. وهي تحاول خلق نشاطات تجارية جديدة على خط الإنترنت وخارجه. كما بات المعنيون يستثمرون في صحف يومية حرة لا تستخدم أيا من مصادرها الضئيلة للإنفاق على المقالات الافتتاحية المختصة بكشف النقاب عن الفساد السياسي أو الاحتيال المؤسساتي. والى الآن، يبدو هذا النوع من النشاط غير مرجح لان ينقذ العديد من الصحف. وحتى لو فعل ذلك، فانه يضمر شرا للدور العام الذي تضطلع به السلطة الرابعة.

الإفلات بالجريمة

في المستقبل، وبينما تتلاشى الصحف وتتغير، هل سيقدم الساسة على السطو على مكاتب معارضيهم مفلتين من العقوبة، فيما يهتف الأشرار المتعاونون بينما يدوسون على ضحاياهم؟ وفي الأثناء, تشعر كليات الصحافة والمؤسسات الفكرية، وخاصة في أميركا، بالقلق من اثر تداعي السلطة الرابعة. فهل تكون المنظمات الإخبارية في الوقت الراهن على قدر "تحمل مسؤولية إدامة المواطنة الواعية التي يعتمد عليها بقاء الديمقراطية؟". هكذا تساءل عن الصحف تقرير حديث صدر عن مؤسسة كارنيجي في نيويورك، وهي مؤسسة أبحاث تمول بالتبرعات.

ربما لا ينبغي لأحد أن يبتهج لموت العناوين التي كانت كبيرة ذات يوم، لكن تداعي الصحف لن ينطوي على أذى للمجتمع مثلما يخشى البعض. فقد عملت الديمقراطية قبلاً، إن كنتم تذكرون، على إنقاذ الصحف من هبوط ضخم في التوزيع منذ الخمسينيات، وقد عاشت الصحف فيما نأى القراء بأنفسهم عن الصحف، كما تجنبت الصحف ما كان يظن في بعض الأوقات أنه يشكل أخباراً خطيرة. ومن المؤكد أنها ستنجو من الانحدار المقبل.

يعود ذلك في جزء منه إلى أن عددا قليلا من الصحف التي تستثمر في نوع القصص الحقيقية التي غالبا ما تفيد المجتمع أفضل ما يكون يتمتع بموقف جيد يمكنه من الاستمرار طالما آن أصحابها يقومون بمهمة كفئة للتواءم مع الظروف المتغيرة. ويجب أن تكون مطبوعات مثل النيويورك تايمز وول ستريت جورنال قادرة على رفع سعر صحافتها للتعويض عن عوائد الإعلانات التي فقدت لصالح الانترنت- خاصة وأنهما تصلان إلى قراء كونيين أكثر. وكما في العديد من الصناعات، فان أولئك الذين هم في منتصف الطريق -لا ذوو الحواجب العالية أو الشعبية العالية- هم الأكثر إمكانية للسقوط على جانب الطريق.

إن فائدة الصحافة تذهب إلى آفاق اعرض من مجرد إجراء تحقيقات في الفساد أو حتى نشر أخبار عامة: إنها تكمن في تحميل الحكومات المسؤولية وجلبها للمثول أمام محاكم الشعب. ولم يكن أي باحث عن معلومات مجهزا بشكل أفضل مما هو عليه الآن، ولم يعد على الناس الوثوق بقبضة من الصحف المحلية، أو الأسوأ من ذلك، بصحف المدينة المحلية، إذ أصبحت مواقع تجميع الأخبار مثل غوغل نيوز تجمع معاً مصادر من مختلف أنحاء العالم. كما أن الموقع الالكتروني للغارديان البريطانية يملك حاليا في أميركا عدداً يساوي نصف عدد قرائه في الوطن تقريباً.

إلى ذلك، فإن ثمة قوة جديدة من صحافيي "مواطنة" وناشري إعلانات على الانترنت تتأهب لمساءلة الساسة. وقد فتحت الشبكة العنكبوتية العالم المغلق لمحررين ومراسلين محترفين أمام أي شخص لديه سطح مكتب (كيبورد) واتصال مع الانترنت. وقد تلقت عدة شركات رسائل تقريع من هواة هي ألسنة لهيب تخرج من جهاز حاسوب نقال أو من مصلحي تلفزيون الكيبل المستلقين على الأرائك. وسيكون كل ناشر إعلان قادراً على التحيز والتشهير، ولكن في حال النظر إليهم كمجموعة، فإن ناشري الإعلان يقدمون للباحث مادة غير محدودة لرؤية ما وراء الحقائق. ومن الطبيعي أن يكون الانترنت جالبا زبائن للعقول المقفلة، وهو ما تفعله الكثير من الصحف.

لتغطية الأخبار الصعبة - على عكس التعليق - فإن معطيات الصحافة الصافية تتميز، كما ينبغي الاعتراف، بأنها محدودة، حيث يشتغل معظم الناشرين من على مقاعدهم لا من الخطوط الأمامية، فيما يميل الصحافيون المواطنون إلى التمسك بالقضايا المحلية. ومع ذلك يبقى الوقت مبكراً على التقويم. وستنبع أنماط جديدة من خطوط الانترنت في الوقت الذي تتراجع فيه الصحف. وتعتزم مجموعة غير ربحية هي نيواساينمنت. نت الجمع بين عمل الهواة والمحترفين لإنتاج قصص تحقيقيه على الانترنت. وقد جاء مبلغ العشرة آلاف دولار نقداً تبرعاً للمشروع من مجموعة كريغ نيومارك من كريغزليس، وهي مجموعة للإعلانات المبوبة المجانية على المواقع الالكترونية عملت أكثر من أي شيء آخر على تحطيم دخل الصحف.

في المستقبل، كما يجادل كارنيجي، ستحظى بعض الصحافة عالية الجودة بالدعم من جانب منظمات غير ربحية. وهناك فعلياً عدد قليل من المنظمات الإخبارية المحترمة التي تقيم أودها بتلك الطريقة، بما فيها الغارديان وكريستيان ساينس مونيتور والراديو العام القومي. وهناك مجموعة منتقاة من الصحف الجادة متوفرة في كل مكان على خط الانترنت، إضافة إلى صحافة مستقلة مدعومة من قبل جمعيات خيرية وآلاف من ناشري الإعلانات المبعدين والصحافيين "المواطنين" واسعي الاطلاع. وهناك إشارات كبيرة على أن حديث ارثر ميللر القومي المذكور سيصبح مسموعاً بوتيرة أعلى من السابق.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 225 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

379,588