|
الجزء الأول |
الجزء الثاني |
الجزء الثالث |
الجزء الرابع |
الجزء الخامس |
الجزء الأول
الإرهاب ليس أداة طارئة يستعملها الكيان الصهيوني في ظرف معين كرد فعل معين، الأمر عكس ذلك تماماً، إن الإرهاب في الكيان الصهيوني هو جزء عضوي داخلي، لا تتطور العضوية الاجتماعية إلا به. ولا يبقى الكيان إلا إذا اعتمد عليه، فإن زال الإرهاب زال الكيان، أي أن الإرهاب ضرورة داخلية غير مشروطة يعمل خارجي أو ظرف طارئ وتعود العلاقة العضوية بين الإرهاب والصهيونية إلى المرتبات الأيديولوجية للصهيونية من ناحية وإلى خصوصية المكان الذي قامت فيه كيانها من ناحية ثانية وإلى الوظيفة السياسية المناطة بالصهيونية في إطار تقسيم العمل الاستعماري من ناحية ثالثة .
الخصائص الدائمة
الدولة لا تقوم إذا مارست بشكل متصل مستمراً وإرهاباً منظماً ضد الشعب صاحب الأرض: الشعب الفلسطيني، كما أن الصهيونية لا تحقق جوهرها ووجودها إلا إذا كانت ذراعاً ضاربة ضد الخيار الوطني العربي، ومهما كانت طبيعة السلطة السياسية في الكيان الصهيوني، ومهما كان التحالف السياسي الذي يعلو السلطة فإن خصائص الصهيونية تظل ثابتة بلا تغير، وأهم هذه الخصائص هي العنصرية .
وهذه العنصرية الصهيونية ليست صفة طارئة ولا وليدة صدفة، فهي صادرة عن طبيعة الفكر الصهيوني النظرية وعن دوره السياسي ففي إطاره النظرية تبرز فكرة "شعب الله المختار"، وفي الدور السياسي مظهر دور الكيان الصهيوني كقلعة عسكرية متقدمة تحمي مصالح قوى الاحتكارات العالمية، أكثر من ذلك فإن الفترة التاريخية التي صعدت فيها الصهيونية منتصف القرن الثامن عشر، تعطيها مباشرة صفة العنصرية، لأن تلك الفترة هي ذروة الغزو الكولونيالي لـ"العالم الثالث" والذي كان يرفع شعارات عنصرية لإخفاء فيها مثل رسالة الإنسان الأبيض وتصدير الحضارة إلى البلدان المتخلفة وفرض حكمة الغرب ضد جهل الشرق .
وكان الغزو الصهيوني لفلسطين أحد مشتقات الغزو الأوروبي الاستعماري لـ"القارات الثلاث" لكنه كان يضيف إلى الخصائص الاستعمارية الكلاسيكية بعداً لاهوتياً جديداً، يجعل من فلسطين الأرض التي وعد الله بها "شعباً معيناً" هو "الشعب اليهودي"؟!
فالصهيونية استعمار استيطاني خاص يقيم الغزو على أساس الدين والسلالة، أو بشكل أدق على أساس الامتياز الديني – العنصري، فالأرض المستعمرة "وعد إلهي" والمستعمر" شعب خاص" مختلف عن الشعوب الأخرى ولا يقبل الاختلاط بها، كما لا يقبل أن يقاسمها الأرض، ونتج عن هذا الموقف ثلاث نتائج هي "الانغلاق العنصري والتمييز العنصري والتفوق العنصري.
الانغلاق العنصري ضرورة لتجميع "الشعب اليهودي" المزعوم تحت قيادة مؤسسة تقسيم العالم إلى: يهودية ولا سامية، وتعتبر الانغلاق العنصري ضرورة لتجميع اليهود في الشتات، إذ أن القول بالانفتاح يعني بقاء كل يهودي في البلد الذي هو فيه، مما يقوض مباشرة إمكانية التمثيل السياسي "للأمة اليهودية العامية" والتمثيل هو "الدولة" التي تمثل روح اليهود أينما كانوا، والانغلاق هو نقيض الاندماج وعدو فكرة "أحادية المواطنة" فدولة اليهود "الوحيدة" هي الكيان الصهيوني.
الانغلاق الشامل
لقد أكد جميع زعماء الصهيونية على فكرة الانغلاق الشامل واعتبروا أن الخطر الأساسي على الصهيونية هو الاندماج، أي تخلص اليهودي من عنصريته وذوبانه في المجتمعات الأخرى، ولهذا تروج الصهيونية لفكرة "اللاسامية" وتبالغ في أبعادها حتى تكاد "اللاسامية" أن تكون حلفاً صهيونياً اكثر مما هو حقيقية موضوعية، ويعني الاندماج في الرؤية الصهيوني فقدان "الهوية اليهودية" وتراجع "الأمة اليهودية العالمية" أي فقدان المبرر الشكلي لظهور الكيان الصهيوني وتطويره، ويكون الرد الصهيوني المباشر هو "الانغلاق اليهودي" والذي تعطيه الصهيونية معنيين: المعنى الأول هو حفظ "البقاء القومي" وتحقيق "الرسالة اليهودية في العالم" والمعنى الثاني هو حفظ "التميز اليهودي" وصيانة ما يجعل" الشعب اليهودي" شعباً "مختاراً أي شعباً له أعراف خاصة وتقاليد وعادات وثقافة حتى يصبح زواج اليهودي من غير اليهودية خيانة دينية وقومية يعاقب عليها القانون .
والانغلاق العنصري هو في الفكر الصهيوني في سبيل الصفاء العنصري، ولهذا فإن الانطواء الذاتي هو فضيلة يهودية، كما أن الانعزال عن الآخرين طقس ديني وبسبب هذا فإن "الجيتو الشهير" لا يعبر عن رفض المجتمع لليهود بل يستجيب لرغبات اليهودي الصالح، الذي لا يكون يهودياً إلا إذا رفض التعامل مع الإنسانية، وكي يصل "الانغلاق العنصري" إلى حدوده الكاملة عليه أن يقوم بعملين: العمل الأول هو إقناع كل يهودي بضرورة الانتقال من أرض "الشتات" إلى أرض "الوطن الموعود" والعمل الثاني: هو "ضرورة إجبار كل من ليس يهودياً على أن يغادر "الوطن الموعود" إلى المنفى وهو ما يجعل الصهيونية تمارس شكلين من القمع: الأول هو ممارسة الإرهاب على الفلسطينيين كي يتركوا الأرض نقية للعنصر اليهودي النقي، والثاني هو ممارسة الإكراه ضد كل يهودي لم يرجع من "المنفى" بعد .
الانغلاق العنصري إذاً هو أداة لحفظ الصفاء العنصري، والصفاء المزعوم ضرورة لحفظ تفوق العنصر اليهودي الذي يقوم بـ"رسالة تبشيرية كونية" وتحقيق الرسالة يستلزم "دولة يهودية" لكل اليهود ودولة يهودية من أجل اليهود" .
هنا يظهر الفرق بين الصهيونية وبين أشكال الاستعمار الاستيطاني الأخرى، فالاستعمار الكلاسيكي يقول بـ"تفوق العنصر الأوروبي" ويمارس التفوق وفق منطق علاقات مرتبية وهرمية تؤكد سلطة الأبيض المطلقة، وتترك المكان الدوني لسكان البلاد الأصليين، أما الصهيونية فإنها ترفض مرتبية المجتمع، لأنها تطالب بنقاء المجتمع عنصرياً، ومن أجل تحقيق النقاء، تقوم
الصهيونية بعزل السكان مثل طردهم واضطهادهم ونفيهم وقتلهم وسجنهم.
إن نقاء الدولة والمجتمع في المنظور الصهيوني يجعل من ممارسة الإرهاب المستمر ضرورة حيوية ذات دينامية داخلية، لأن ممارسة الإرهاب لا علاقة له بوضع الفلسطينيين أو أفكارهم ومبادئهم، فالفلسطيني الوحيد الذي تقبل به الصهيونية هو الفلسطيني الغائب – الصامت، الذي لا يكدر فعلاً ولا قولاً أسطورة النقاء العنصري المرغوب .
لقد أخذت فكرة النقاء العنصري في الكيان الصهيوني أبعاداً لم تعرفها الدول العنصرية الأخرى مثل "جنوب أفريقيا وروديسيا" فالصهيونية لا تقبل الإخضاع الداخلي، إنما تقوم بالطرد المباشر خارج حدود الدولة، مبرهنة أن الصهيونية هي العنصرية الأكمل بين العنصريات المعاصرة .
فالصهيونية إذن هي استعمار استيطاني خاص من ناحية، وهي استعمار استيطاني عنصري خاص أيضاً فهي تستثمر البلد وتقيم فيه، تطرد سكان البلاد الأصليين وبذلك يكون الاستعمار الأبيض في جنوب أفريقيا استعماراً من الدرجة الثانية، إذا قيس بالحالة الصهيونية .
لم تتكون العنصرية الصهيونية خلال عملية غزو فلسطين، إنما جاءت متكونة قبل الغزو وبعده، ولهذا اختار المستعمرون الصهاينة منذ البداية أن يعزلوا أنفسهم عن المجتمع العربي في فلسطين، وأقاموا نقابات صهيونية، وطبقوا قانون العمل العبري وقاطعوا البضائع العربية واليد العاملة العربية، وكان هذا التمييز العنصري يتم تحت إشراف المؤسسات الصهيونية مثل الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي وصندوق مؤسسة فلسطين والاتحاد اليهودي للعمل .
وبعد تهيئة الظروف الملائمة لقيام الكيان الصهيوني، انتقل الصهاينة من المقاطعة إلى الطرد، ومن التعايش الإجباري إلى "الدول النقية" التي رفع الصهاينة شعارها منذ بداية القرن، فقد قال هرتزل في عام 1895: "يجب دفع السكان الأصليين المعدمين إلى النزوح عبر الحدود وذلك عن طريق حرمانهم من العمل، وأكد وايزمان القول في عام 1919، حين كان يحلم بدولة صهيونية، تكون يهودية بقدر ما هي انكلترا إنكليزية" .
ويحمل قول وايزمان كل سمات الفاشية المطلقة لأن الدولة اليهودية التي يحلم بها لا تقتضي طرد السكان الأصليين فقط، إنما تقتضي أيضاً بالضرورة طمس وتهديم وإلغاء كل التاريخ الثقافي العمراني الذي بناه الفلسطينيون في تاريخهم الطويل. وعلى هذا فإن الصهيونية تقوم بطرد شعب وبمسح آثاره التاريخية من الوجود، ممارسة بذلك شكلين من الإرهاب، إرهاب في الحاضر وإرهاب في الماضي، وتزوير الحاضر والماضي معاً، ونهب الحاضر والماضي معاً .
الصهيونية تساوي النازية
إن منطق الفاشية النظري يتعزز ويتكرس خلال الممارسة فالفاشية لا تسفر عن وجوهها الإجرامية كاملة إلا حين تترجم عملياً منطلقاتها النظرية، في محاولة تدمير الحاضر والماضي الفلسطيني، تلتقي الصهيونية مباشرة مع الفاشية الهتلرية التي كانت مهووسة بشعار "الحل النهائي" الذي يعني إعدام الخصم بلا محاكمة، فلقد كان هتلر المتسلح بوهم "تفوق العنصر الآري" يمارس الإجرام من أجل "ألمانيا بلا شوائب" أما الصهيونية فتعمل من أجل أرض موعودة بلا عرب يسكنها "شعب الله المختار" .
وإذا كان نضال الفلسطيني قد كسر الحلم الصهيوني حتى الآن وتمثل ذلك ببقاء جزء من الفلسطينيين في أرضهم فإن هذا لم يردع الفاشية الصهيونية عن متابعة مشروعها بشكل مختلف ومن أهم الأدوات التي تركن إليها شعار "منطقة الأمن" أو "مناطق الأمن" والذي يطبق على 90% من الفلسطينيين و"منطقة الأمن" ليست إلا الاسم المهذب للأحكام العرفية التي تجعل الفلسطيني متهماً مسبقاً وحيث يمكن تأويل أي عمل من أعماله "كتهديد لأمن الدولة" وهذا ما يجعل القرى العربية المتبقية مناطق محتلة والعرب أسرى حرب والإدارة المطبقة عليهم إدارة عسكرية مناطة بعدد من الضباط العسكريين الذين يعملون في وزارة الحرب والقانون المطبق هو قانون الطوارئ أو قانون الدفاع والمحاكم التي تتولى القضايا العربية محاكم عسكرية.
وينتج عن هذا الوضع سلسلة من الإجراءات القمعية مثل: نظام منع الانتقال الذي يجعل أو يحد من تنقل الفلسطينيين ويجعل مسافة التنقل جريمة يعاقب عليها القانون ومصادرة حق الفلسطينيين في التعبير والتجمع، وقمع العمل الثقافي، والحرمان من التعليم الجامعي، إلى تضييق مجال العمل الفلسطيني لربطه بالمهن الحقيرة، والحرمان من حق المساواة في الأجر، ومصادرة الأراضي والقرى بحجة مصلحة الدولة العليا مع رفض دفع الحقوق، مروراً بمنع الفلسطينيين من العمل في أي عمل حكومي .
إن وضع الفلسطينيين في فلسطين المحتلة هو صورة قريبة من "البانتوتيان" وهو الوضع الذي يعيش فيه السكان الأصليون في جنوب أفريقيا قبل مانديلا .
اعتماداً على هذه الوقائع فإن الكيان الصهيوني الذي يدعى الديمقراطية يقسم المجتمع إلى جزئين جزء تطبق عليه "الديمقراطية الصهيونية" ويشمل اليهود وجزء يطبق عليه القمع العرب وبذلك تظل الصهيونية مخلصة لمعايير التمييز العنصري: الديمقراطية لليهود ولا ديمقراطية لغير اليهود، ومفهوم كهذا للديمقراطية هو نفي واضح وبسيط لكل المعايير الديمقراطية الصحيحة ومعنى هذا، أن الإرهاب الصهيوني ظاهرة مستمرة، منظمة تختلف أشكالها باختلاف الظروف دون أن تفقدها جوهرها أبداً، أضف إلى ذلك أنه من السذاجة تصور إمكانية انتهاء الإرهاب الصهيوني لأنه الأساس الذي يقوم عليه الكيان الصهيوني، فطالما ينادي هذا الكيان "بدولة نقية" وطالما بقي الشعب الفلسطيني موجوداً ومناضلاً فإن الإرهاب الصهيوني، كما المقاومة الفلسطينية، لا بداية لها ولا نهاية، فالوضع الصهيوني سياسية وجغرافية ووظيفة تقوم على تدمير الحقوق العربية، ومطاردة أي عمل لاستردادها، أي أن هذا الوضع يبدأ بالعنف من ناحية "اقتلاع الشعب الفلسطيني"، ويخلق من أجل استمرار بقائه دينامية مستمرة لتوليد العنف أو إعادة توليده فإرهاب الميلاد يخلق في منطقة التاريخي ضرورة تصاعده بلا نهاية .
أي أن الإرهاب الصهيوني الذي ألقى بذرة الكيان الأولى يستمر ما استمرت البذرة، فيكبر بكبرها ويكبر بتطور المقاومة الفلسطينية، ويكبر كلما شعر بأزمة داخلية، ويمتد كلما زادت يقظة الوعي العربي فهو إرهاب يتطور كسلسلة هندسية، ولهذا فإنه لا ينتهي إلا إذا وجد من يضع له نهاية، أكثر من ذلك فإن المنطق الداخلي لآلية الإرهاب الصهيوني، تجعل هذا الإرهاب لا يحافظ على نفسه إلا إذا تكاثر وتضاعف بلا نهاية، وهذا الآلية بقدر ما تشير إلى خطورة الإرهاب الصهيوني، تشير أيضاً إلى حدوده، فالظاهرة التي تتطور إلى ما لا نهاية لأن عليها أن تتحطم في مرحلة معينة من مراحل تطورها .
إن طبيعة الإرهاب الصهيوني، كجزء عضوي وداخلي من أبنية الصهيونية تكشف أوهام كل الداعين بإمكانية تغيير الطبيعة الصهيونية، لأن الصهيونية وكيانها يتناقضان بشكل جذري مع الحل النهائي للقضية الفلسطينية، والإرهاب لا ينتهي وفقاً لدروس التاريخ إلا إذا وجد من يستطيع أن يضع له نهاية .
عناصر الأيديولوجيا الصهيونية كأيديولوجيا إرهابية:
1- إلغاء الطرف الآخر
لا تعترف الصهيونية بالفلسطيني وتنكر وجوده، أو أنها تعترف به لأنها تزعم أنه غير موجود، وعندما تجده أو تصطدم به فإن دورها هو إلغاؤه وتدميره كي تبرهن أنه غير موجود فعلاً، أو أن فكرة عدم الاعتراف بالفلسطينيين تفرض على الصهيونية مطاردة الفلسطيني وملاحقته أينما وجد وكان، فالبرهنة على صحة الأفكار الصهيونية من ناحية وإمكانية تحقيق هذه الأفكار من ناحية ثانية يقومان أولاً على اجتثاث الوجود الفلسطيني، أو طرده وتهجيره، لأنها تدرك أن هذا الوجود هو نفي كامل وتأكيد على انهيار مزاعمها .
ولا تعترف الصهيونية بالفلسطيني إلا إذا كان خارج بلده، بلا هوية أو شخصية أي تعترف به إذا كان غير موجود قد وعت الصهيونية هذه الحقيقة منذ البداية، وركزت جهودها كي تتخلص من الفلسطيني أيضاً ثقافة وهوية، ويقول هيرتزل في مذكراته:"نحاول أن نخرج السكان المعدومين عبر الحدود بأن نجد لهم عملاً في البلاد التي نطردهم إليها وننكر عليه أي عمل في بلادنا" .
تقع الصهيونية دائماً في تناقضاتها، فهي تطرد السكان لأنها لا تعترف بوجودهم، لكنها لا تلبث أن تصطدم بهذا الوجود، فتبحث لهم عن عمل، وهذا يجب أن يكون مساوياً لمبدأ عدم الاعتراف ولهذا يقول هيرتزل:"إذا انتقلنا إلى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود: كالأفاعي الكبيرة مثلاً، فسأحاول أن استعمل السكان البدائيين للقضاء على هذه الحيوانات قبل أن أجد له عملاً في البلاد التي يعبرون إليها" .
يتم الاعتراف الفلسطيني بشرط واحد هو" تدميره، فلا يمكن القبول به كإنسان سوي في عمل سوي وفي شروط سوية ويجب بالتالي تدميره لأنه لا يستحق الاعتراف به، أو يجب الاعتراف به كمقدمة لإلغائه، وهنا تبرز وظيفة كلمة "بدائي" فالبدائي موجود. لكن شكل وجوده أي بدائية يبرر عدم الاعتراف به، واستعماله من أجل أغراض وأهداف من يفوقه في المرتبة الإنسانية، وتعطي الصهيونية صفة البدائية للفلسطيني كي يستعمل في اتقاء الحيوانات المفترسة مستعيدة هنا كل مواصفات الأيديولوجيا العرقية والعنصرية فكأنها تقول البقاء للأصلح والفلسطيني بدائي اليهودي متحضر، وباسم الحضارة يعمل الفلسطيني لمحاربة الأفاعي السامة وبعد استعماله يتم طرده خارج الحدود. إن قاعدة هيرتزل بسيطة وكاملة العنصرية فهي تطبق المبدأ الشهير: خلق صورة الأشياء بشكل يبرز تهديهما، والفلسطيني بدائي يحمل هدمه فيه، وهو في ذلك لا يبتعد كثيراً عن موقف الاستعماري الآخر بلفور الذي كان يقول:"في فلسطين نحن لا نفكر البتة أن نعمد إلى أي شكل من استشارة السكان الحاليين ومعرفة رغباتهم" .
يصدر عدم الاعتراف عند هيرتزل عن "الفروق بين الأجناس البشرية" وعن الصراع بين البدائي والمتحضر، وإتلاف الفكر البدائي خدمة للحضارة، وهكذا تجد الصهيونية ذرائع عديدة للقتل، فهي تقتل مرة باسم الرب، ومرة باسم الدافع الذاتي، مرة باسم الحضارة إن أكثر الجوانب إظلاماً وعدوانية وفاشية في الفكر الصهيوني ليس فكرة القتل فقط، بل تحويل القتل إلى فعل خفيف بلا دلالة، إلى فعل قليل الأهمية وهامشي، فالقتل من وجهة نظر منطقية يعني وجود قتيل يوقع عليه فعل مخالف للمعايير الإنسانية، أما حين يكون القتيل لا وجود له فإن الفعل لا يأخذ صفة القتل الذي يجب إدانته، فهو يصبح فعلاً تقنياً عادياً تأمر به لوازم الحياة العادية، وهذا ما يفسر قول غولدا مائير:"لا شيء اسمه الفلسطينيون لا وجود لهؤلاء" .
إن عدم الاعتراف أي حذف الصفات الإنسانية أولاً، يلغي أوتوماتيكياً مفاهيم القتل والإدانة والعقاب، بأن لم يفعل من هذا الفعل الآتي، "عملاً" إنسانياً نظيفاً، حتى تبرر الصهيونية إلغاء الفلسطيني، وتحتفظ بأصابعها نظيفة، فإنها تطرد الفلسطينيين من عالم الإنسان وعندها يصبح القتل مجرد مكافحة نظيفة لحشرات غريبة، وهذا يظهر واضحاً في جملة بيغن الشهيرة "الفلسطينيون مجرد صراصير ينبغي سحقها" .
لا تبتعد الصهيونية في ممارستها الإجرامية عن أي فكر عدواني فهي تجعل تنظيف المدن الفلسطينية من الإنسان الفلسطيني أمراً لا يختلف عن تنظيف الأمكنة الوعرة من الحشرات السامة، إنها تلغي بالقوة كل ما يمكن أن يسيء إلى صحة البشري المتحضر، وعلى هذا فإن الصراع لا يدور بين خصمين أو قوتين تنتميان إلى عالم واحد، بل بين عالمين مختلفين أو بين تاريخين مختلفين، يقول بيغن:"ينبغي أن ندرك أنه لا مكان في هذه البلاد لشعبين، إن الحل الوحيد هو فلسطين بلا عرب وليس هناك سبيل غير طرد العرب إلى البلدان المجاورة طردهم جميعاً بلا استثناء، وينبغي ألا تبقي هنا أية قرية ولا أية عشيرة" .
تعكس المفاهيم الصهيونية ذاتها حتى على مستوى الكلمات المفاهيم فبعد أن يقول بيغن بـ شعبين" لا يلبث أن يستدرك فيقول بـ"القرية" أو "العشيرة" وهما ينتميان إلى تاريخ اجتماعي ساذج ومختلف، أضف إلى ذلك أنه يستعمل كلمة طرد التي تتضمن معنيين: عدم إمكانية العيش من فرد أو قرية فلسطينية من ناحية ومعاقبة المطرود من ناحية ثانية، فهو غير مرغوب فيه وجدير بالعقاب والاضطهاد .
إن جملة:"لا مكان في هذه البلاد لشعبين" تشير منذ البدء إلى حقيقة المشروع الصهيوني الذي يلوح بصراع حتى الموت بين طرفين، بنفي كامل للطرف الآخر، بمجابهة مستمرة ينتصر فيها أحداً الطرفين، ويتضمن هذا النفي الكامل كل الإجراءات المتاحة والممكنة بدءاً بالترويع النفسي وانتهاء بالقتل المتعمد، وتظهر فكرة التناحر الكامل، التي يجب أن تحكم الصراع العربي الصهيوني .
صحيفة العرب اليوم الأردنية (5/3/1998)
الجزء الثاني
تظهر فكرة التناحر الكامل التي يجب أن تحكم الصراع العربي الصهيوني أيضاً عند يوسف واتيز الذي كتب في يومياته بتاريخ 9/12/1940 ما يلي:"لا يوجد مكان لشعبين في هذا البلد ولا يوجد سبيل بغير نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة" .
إن نقل الشعب تعني عدم الاعتراف بوطنه وإنكار إحساسه الإنساني إذ أن كلمة "نقل" التي تبدو في الجمل محايدة ومجرد فعل آلي ينقل شيئاً من مكان إلى آخر، هي المرادف الحقيقي لكلمة القهر أو الرعب أو الإجبار، أضف إلى ذلك أن استعمال كلمة "البلدان" المجاورة تتضمن بدورها المواصفات الأولى، إذ أن إجبار الفلسطيني على ترك أرضه تعني في ذات الوقت إجبار الدول المجاورة على القبول به، وبذلك ينقسم العالم إلى عالمين: عالم الإنسان الواعي والمخطط والذي يعرف ما يريد، وهو في هذه الحال اليهودي، وعالم الأشياء الجامدة التي تجبر على الرحيل، وتجبر على استقبال المرحلين، والعالم الثاني هو عالم العرب، إن الكلمات المحايدة التي تستعملها الأيديولوجيا الصهيونية لا تصبح حقيقة والصهيونية تعرف ذلك، إلا إذا لجأت إلى سلسلة من الوسائل اللامحايدة وأولها العنف والحرب والتدمير .
إن مشكلة الفكر الصهيوني الأولى هي الحفاظ على لعبة الوجه والقناع معاً التي تريد أن تحجب العدوانية باسم الحضارة والقتل باسم التوراة والتهجير الإجباري باسم النقل، وقد كانت لعبة الوجه والقناع ممكنة على الصعيد النظري، أما بعد قيام الكيان الصهيوني فقد اختلفت الشروط، أصبح الوجه بارزاً كل البروز وتراجعت مساحة القناع حتى أصبحت تكاد ولا ترى، ولهذا فإن الفكر الصهيوني الذي كان يتبجح بأنه سيمنح الوطن "للشعب" المبدع والمتحضر؟ ما لبث أن أصبح حليف أفريقيا الجنوبية وتشيلي والسلفادور، هذا الانتقال لا يعبر إلا عن زيف وهشاشة لعبة الوجه والقناع، الكيان الصهيوني لا يساوي الحضارة، بل يساوي فقط كل مساوئ العنصرية والفاشية والاستعمار مجتمعة، وإلا فكيف يمكن تمييز جملة "يوسف واتيز": ((لا خلاص لنا ما لم يجر تفريغ البلد من العرب، إن مسألة نقل السكان العرب وإعادة توطينهم في البلدان المجاورة أمر لا مفر منه)).
ينطلق الكاتب من كلمة إنسانية هي "الخلاص" وتعني انتقال الإنسان من وضع جديد، كي يتخلص من البؤس ويصل إلى السعادة: لكن الكاتب الباحث عن الخلاص لا يرى سعادته إلا في إنكار خلاص الآخرين بل لا يراه إلا في اقتلاعهم، ونقلهم من وضع السعادة إلى وضع البؤس، إن قلب المفاهيم بمثل هذا التعنت والهدوء يكشف عن زيف مفهوم الخلاص في الفكر الصهيوني، إن فكراً عنصرياً ضيف الأفق لا يعرف الطريق أصلاً إلى الخلاص، وخلاصه لن يكون إلا مهلكة متجددة، ترتبط مفاهيم الخلاص والسعادة والاستقلال والحرية بمفاهيم الحقيقة والعدالة والديمقراطية، وهي لا تكون صحيحة في المنطق والنتيجة إلا إذا استندت على المعطيات التاريخية، فتزوير التاريخ لم يعط انتصاراً لأحد .
مع ذلك فإن المفكر الصهيوني لا يبدأ بإنكار الفلسطيني حاضراً وماضياً ومستقبلاً، ينكر فيه تارة الأرض، وتارة الإنسان وتارة ثالثة التاريخ ولهذا يقول وزير التربية الصهيوني السابق "هارون يدلين" في تصريح له عام 1974:((من المهم أن يعرف الشباب أنه عندما رجعنا إلى هذا البلد لم نجد هنا أية أمة)) تغذية فكر الشباب الصهيوني بالحقائق الكاذبة إذاً ضرورة لمتابعة سير الكيان الصهيوني وبما أن هذا التزوير لا يستطيع أن ينكر وجود الشعب، فإنه يلجأ إلى مفهوم الأمة، معتقداً بذلك أنه يرفع قضية الصراع إلى مستوى نظري رصين، لكنه في هذا الطرح لا يقول شيئاً، هو يشير بلك إلى السيطرة العثمانية والإنجليزية والأجنبية التي عرفها الشعب الفلسطيني والجماهير العربية لكنه في ذلك يخلط بين مسألة الأمة ومسألة الدولة فعدم وجود دولة مستقلة لا يعني أبداً عدم وجود أمة، أضف إلى ذلك أن مشكلة الأمة لا تشمل الشعب الفلسطيني أو الشعب العربي، بل تشمل كل واقع العالم الثالث .
إن الأمم الحديثة لم توجد بل ولدت خلال الصراع ضد الاستعمار، وهي لم تصبح أمة أو في طريقها إلى التحول إلى أمة، إلا بسبب امتلاكها لعناصر ومكونات الأمة: الأرض، التاريخ، اللغة، الأعراف، النضال المشترك، وعلى الرغم من استخدامه لمفهوم الأمة، فإن الوزير الصهيوني ينسى أن يعرف لنا "الأمة اليهودية" التي لم تمتلك لا الأرض ولا اللغة ولا الأعراف، إن كشأن كل الصهاينة يلجأ إلى العلم حينما يريد، ويلجأ إلى التضليل حين يريد أيضاً، فهو يريد أن يطبق المعايير النظرية الصافية على الأمة "الأمة الفلسطينية" لكنه ينسى كلياً هذه المعايير إذ وصل الأمر إلى "الأمة اليهودية" المزعومة وبسبب هذا النسيان فإنه يعود ولا "يذهب" أو"يرجع" ولا"تحيل" بمعنى آخر إنه الحال الصحيحة التي تناقض حالاً خاطئة.
إن اللجوء إلى مفهوم الأمة الموجودة والأمم الغائبة هو ليس أكثر من تبرير كاذب لسياسة عدوانية، تكرر التضليل متمنية أن يصبح حقيقة، فلقد قال أول وزير للتعليم في وزارة "ديفيد بن غوريون" مؤسس الكيان الصهيوني، وهو الأستاذ الجامعي "بنزيون دينولا" في مقدمة "تاريخ الهاغاناه" الذي نشرته المنظمة الصهيونية العالمية أن:"لا مكان في بلادنا لغير اليهود وسنقول للعرب: هيا ارحلوا: فإن لم يقبلوا ذلك وقاموا، سنعمد إلى تهجيرهم بالقوة".
وكتب "جوزيف مائير" مدير إدارة الاستيطان في الوكالة اليهودية، في حزيران/ يونيو 1967 ((واضح بيننا أن لا مكان لشعبين في هذه البلاد، فالحل الوحيد هو وجود إسرائيل اليهودية التي تضم: إسرائيل الغربية"عربي نهر الأردن" على الأقل بدون العرب ولا مناص من نقل العرب إلى مكان آخر في بلدان مجاورة)).
إن كلمة النقل والبلد المجاور لا تعني إلا إشعال الحرب على الفلسطينيين والعرب، وإجبارهم على قبول القانون الصهيوني، الذي ينقل قوة الصهيوني من حالة الصمت إلى حالة الحركة المنتقلة .
2- التربية العدوانية:
لا يعني العدوان في الأيديولوجيا الصهيونية رد فعل ضد عدوان خارجي كما أنه ليس فعلاً غريزياً أنه قبل كل شيء نتيجة لتربية مخططة واضحة الأهداف، العدوان هو تجسيد لتربية واعية تشمل الطفل في المدرسة والمتدين في الكنيس والجندي في الجيش، والصهيونية هنا لا تشذ عن القواعد الكلاسيكية للتيارات الفاشية والعنصرية، التي ترى في المدرسة والكتاب المخططين قاعدة أولى لنقل الفكر العدواني من حالات فردية أو فئوية إلى ظاهرة اجتماعية .
يقول جابوتنسكي((لقد أفسدت أبناءكم وعلمتهم كيف يحطمون النظام (أوي أحياناً زجاج النوافذ)، وحاولت أن أعلمهم أن التربية الصحية أحياناً ليس تعلم كيف تقرأ، بل تعلم كيف تطلق الرصاص ولقد فعلت ذلك دائماً ولا شبهة لدي في أنني لم ألحق أي ضرر بهم لذلك أتوسل أن لا يمنعني القدر من القوة والشرف في أن أتابع نفس الأهداف لنهاية حياتي ككاتب وكمرشد)).
يظهر الموقف واضحاً كل الوضوح: فدور الكاتب والمرشد هو إتقان القتل، فمعنى التعليم هو تعلم القتل، الكاتب هو الرصاصة، والقارئ هو مطلق الرصاصة، ووظيفة القارئ والكتاب هي خلق فتيل وضحية يخلف هنا بمعنى المدرسة، فهي ليست أكثر من المكان الذي يصنع القبول إلى حالة التمرد وكسر زجاج النوافذ، لكن التمرد لا يعرف إلا طريقاً واحد: هو البندقية، وإطلاق الرصاص، أي يصبح التمرد هو"الإرهاب الذي يبحث بوعي كامل عن تدمير كامل تأخذ الدعوة إلى الإرهاب شكل الضرورة التي لا بديل عنها، فالإرهاب بديهة لا تحتاج إلى برهان، وذلك بسبب بسيط، تؤكده التربية أيضاً، هو أن "العودة إلى فلسطين" هي "بديهة لا تحتاج إلى برهان" وكما أن الانتقال من البديهة إلى البديهة لا يستدعى منطق العلة والمعلول، فإنه إشهار البندقية وإطلاق الرصاصة لا يحتاج إلى محاكمة واستدراك .
يقول بيغن:((تعلمت منذ حداثة سني عن أبي أننا نحن اليهود لا بد أن (نعود) لأرض إسرائيل، ولا يجوز مطلقاً القول: أن نذهب أو نسافر أو نأتي، بل بكل حزم أن نعود، وذلك هو الفارق الكبير، وهو فارق شامل كل الشمول)).
لا تصدر التربية هنا عن مرشد يدعو إلى تعميم قانون القتل البديهي، بل عن الأب الذي غاص في مياه التعصب الصهيوني، حتى لم ير إلا ما تضعه الصهيونية في رأسه فالتعليم إذن هو تثبيت المسلمات الغيبية التي تلغي القول، وتجعل من تكرار الغيبيات قاعدة العقل الأولى، ولهذا فإن العقل المغلق على ذاته لا يقبل بـ"الذهاب" بـ"السفر" إذ أن هذا يعني الانتقال إلى مكان جديد، أما "العودة" فهي الذهاب إلى مكان مألوف أو موجود باستمرار في العقل، وفي "الروح" التي تخلقها الصهيونية وتعتقد أنها لم تفارق "أرض الميعاد" أبداً .
الانتقال إلى فلسفة اللامعقول لا يكترث بالمكان أو التاريخ، لأن الروح هي الحقيقة الوحيدة، "الروح اليهودية" لم تغادر "فلسطين" أبداً حتى عندما يكون الجسم اليهودي في نيويورك أو إيطاليا وغيرهما، ولهذا فإنها تعود ولا تذهب.
ولا تكترث التربية الفاشية بالحقائق التاريخية، فدورها هو إعادة كتابة التاريخ كما تريده الإرادة الإظلامية، فالعالم يجب أن يكون ما تريده الفكرة أن يكون، ووسيلتها إلى ذلك هو البندقية والبحث عن الضحية لكنها قبل أن تبحث عنها، تبحث عن صياغة وجه الضحية بشكل يبرر قتلها قبل الوصول إليها، يقول موشيه منوحن:((علمونا في الجمنازيوم أن نكره العرب، وأن نحتقرهم، وعلمونا فوق هذا كله أن نطردهم، على اعتبار أن فلسطين هي بلادنا لا بلادهم، وأن بوسعنا الإطلاع على التوراة بهذا الصدد)).
إن هوس العنف الذي يغذي الفكر الصهيوني هو الذي يجعله يقدس تعاليم الفكر اليهودي الأكثر إظلامية ويمجد كل ما جاء فيها مقدساً لرفع السيف، يقدس الفكر الصهيوني الموروث حين يكون مرآة كاملة للتربية التي تبحث الصهيونية عنها، فبالركون إليه يسوغ إظلامها بظلام قديم، أي أنه تتوسل مباركة التدمير بنصوص قديمة لها صفة القداسة، وحين يلتقي الفكر الصهيوني بالفكر التوراتي، ويجد فيه النصير والملاذ، يصبح النص التوراتي قاعدة تربوية، ومحضراً ثميناً على إنجاز كل المجازر الماضية والقادمة، جاء في سفر يوشع: (فهتف الشعب، وضربوا بالأبواق وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن هتف هتافاً عظيماً، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة، وحزوا كل ما المدينة، من رجل وامرأة، ومن طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، سفر يوشع 6/2) وجاء أيضاً:(وأخذ يوشع مقيدة في ذلك اليوم، وضربها بحد السيف وحرم ملكها، هو وكل نفس بها، ولم يبق شارد، وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا، ثم اجتاز يوشع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى لبنة، حارب لبنة، فضربها بحد السيف، وكل نفس بها ولم يبق شارداً وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا) سفر يوشع 10/28.
هذا النص النموذجي الذي يمجد العنف وحد السيف لا يقبع صامتاً في صفحات كتاب إظلامي قديم، بل هو المادة الأولى لتربية الشباب، حيث لا يصبح القتل أمراً مبرراً فقط بل يصبح هو الطموح الذي يسعى إليه الشباب بخط مستقيم كي يبرهن عن ولائه لتربيته ولثقافته الموروثة، ومن أجل أن تتأكد "الدولة الصهيونية" من الأثر الذي يخلقه هذا النص فإنها تجعله موضوعاً لامتحان التلاميذ، ولذلك طرحت في امتحانات المدارس الصهيونية السؤالين التاليين:
1- هل ترى في تصرف يوشع بن نون والإسرائيليين، تصرفاً صائباً أم خائباً، ولماذا؟
2- لنفترض أن الجيش الإسرائيلي احتل قرية عربية في الحرب، وفعل بسكانها ما فعله يوشع بشعب أريحا، فهل يكون تصرفه في رأيك، حسناً ولماذا؟
وقد برر البروفيسور الصهيوني جورج تامارين اختيار هذه الصيغة بقوله((إن ما قام به يوشع لم يكن المثال الوحيد لهذا النمط من الأعمال في التوراة، وقد وقع الاختيار عليه لأن سفر يوشع يحتل مكاناً مرموقاً وخاصة في نظام التعليم الإسرائيلي وقد أخذت الإجابة الطاغية عن هذا السؤال الشكل التالي: (كان الهدف من الحرب ينحصر في استيلاء الإسرائيليين على البلاد، ولذلك فإن الإسرائيليين أحسنوا صنعاً، إذا احتلوا المدينة وقضوا على سكانها، نحن لا نريد أن يكون في إسرائيل عنصر غريب).
ما تبحث عنه الأيديولوجية الصهيونية هو الفاعلية، لذلك فإنها لا تكتفي بالتعليم أو بالإرسال الإعلامي، بل تريد أن تكون متأكدة من شكل استقبال هذا التعليم، فتصبح تربية العنف مادة اختيارية، ويبدو نجاحها حيث يمتثل التلاميذ لها، أو حيث يصبح كل تلميذ صغير هو "يوشع بالقوة" ان انتقل إلى أرض المعركة أصبح يوشع بالفعل، لذلك فإن التلميذ اليافع يقر مسبقاً المجازر الواقعة، ويتعهد بأنه سيكررها من جديد حيث يدخل المعركة، أن يجعل "سفر يوشع" هو "الكتاب المرموق في نظام التعليم الصهيوني" على حد قول البروفيسور الصهيوني، يكشف من جديد عن علاقة الفكر الصهيوني بالموروث التوراتي، حيث تبدو التربية الحاضرة لا تنتمي إلى الفلسفات الكولونيالية الجديدة فقط، بل هي استمرار مخلص لكتاب قديم، وهذا ما جعل "جابوتنسكي" استمراراً وفياً لـ"يوشع" وفي هذا يصبح يوشع هو "البطل القومي" القديم الذي استعاد حياته في إسرائيل الجديدة يوشع هو البطل في الحاضر لأنه رمز البطولة في الماضي، إنه النموذج الذي يسعى أن يكونه كل صهيوني حقيقي، ولهذا يأخذ في المدارس مكاناً مرموقاً.
إن الصهيونية التي تلهج بلا تعب باسم "الأمة اليهودية" لا تستعيد صورة "سبينوزا" الفليسوف اليهودي العقلاني ولا تعاليم اينشتاين اليهودي المعاصر الذي رفض أن يكون رئيساً "لدولة إسرائيل بل تستعيد فقط يوشع النموذج الدموي الذي يندرج بسهولة ويسرف في تعاليمها العدوانية" .
التربية الصهيونية إذن هي التقاط كل جوانب الإظلامية البشرية بدءاً بـ"يوشع" الذي يمجد السيف انتهاء بـ"راعي البقر" الأمريكي الذي يقيض الهنود الحمر في سهولهم المسالمة.
وسواء أكان يوشع موجوداً أو غير موجود تاريخياً فإن الفكر الصهيوني لا يخلق نموذجاً إلا على صورة يوشع، فهو يقذف بأحقاده وهوسه الدموي ويصنع منها آلاف الكيانات والبشر، ويسلحها بأحدث الأسلحة التدميرية، ويجعل منها يوشع معاصراً، يدك بها القرى ويقتل السكان، إن التربية الفاشية لا تستدعي التراث بل تفضل استدعاء "روح الأجداد" لأن التراث يحمل الرفض والقبول، أما "روح الأجداد" فإنها موجودة في فلسفة هتلر في وهم (الآري النقي) وفي هوس موسوليني (الروماني الكامل) وفي شعارات الفاشي الفرنسي المعاصر جان ماري لوبن، الذي يتحدث عن (الحضارة الفرنسية النقية) .
كل فلسفة فاشية، والصهيونية منها، لا تعترف بالواقع، لأنها لا تستطيع إفراغ العقل وحشوه بالأوهام، إلا إذا أعادت خلق الواقع كما تريده هي أن يكون، وقاعدتها الذهبية دائماً هي خلق خطر وهمي وأعداء وهميين وذرائع وهمية ثم خلق العقول الملائمة لمحاربة الأوهام وتحقيق الأوهام أيضاً وبما أن الوهم لا حدود له فإن إمكانية نشر الحقد ضده أو الطموح إليه لا متناهية، ولذلك فإن التربية الصهيونية تخلق الأحلام بشعارات أساسها الهم، لكن ثمن تحقيق الوهم هو إسالة الدماء وتدمير البيوت واغتصاب الأراضي .
صحيفة العرب اليوم الأردنية (7/3/1998)
الجزء الثالث
3- فلسفة الرعب والقوة:
إن انطلاق الصهيونية من مفهوم التمييز العنصري وممارسته في أشكاله كلها يقودها أولاً إلى تسويغ إفناء الخصم وثانياً إلى اعتبار الإفناء القاعدة الذهبية التي تبرهن على صدق وصحة مفهوم التمييز، فالمتميز أو الأعلى يحق له بسبب الصفة التي يحملها أن يخضع من كان أقل منه كفاءة وصلاحية، ويكون بذلك يمارس حقه طبيعياً، ويستجيب بشكل مستقيم لقانون: البقاء للأقوى والفناء للأضعف، وهذا القانون استجابة لنداء الطبيعة لا أكثر ولا أقل إذ لم تتكئ الفلسفة الصهيونية عل قانون الطبيعة الأعمى اتكأت على قراءة زائفة لتاريخ الإنسان اليهودي فهي ترى في هذا التاريخ تاريخاً كاملاً لاضطهاد الإنسان اليهودي .
فاليهودي في المنظور الصهيوني قد عاش تحت سيف الإرهاب وشبح المطاردة وعليه بعد انتصاره وقبل هذا الانتصار أن يرفع السيف على من يفترضه عدواً ويجعل حياة الخصم سلسلة من القصاص والمطاردة، ويذهب مناحيم بيغن أكثر من ذك حيث يعتبر أن اليهودي لن يعيش كإنسان إلا إذا برهن أنه الأقوى باستمرار، واستل من قلبه كل معايير الرحمة وبرهن أيضاً أن الاعتراف بالرحمة ومعاييرها هو تهديد للوجود اليهودي .
وإذا لم تكتف الصهيونية بفلسفة الطبيعة وبقراءة التاريخ المزور لجأت مشتقات الفلسفة الفاشية، وهو تحقيق: المجال الحيوي، فالكيان الصهيوني لا يعيش: إلا إذا سور حدوده، أو خلق لنفسه حدوداً يمكن الدفاع عنها، أو إذا خلق امتداداً طبيعياً يسهل حركته السياسية والاقتصادية والفكرية، ومجال كهذا محاط بالعرب يفرض أولاً ضرورة إشهار السيف المستمر وإخبار الخصم أن عدم تلقي الرسالة الصهيونية بشكل صحيح يقود إلى قطع رأسه، ولما كانت الصهيونية والفلسفة اليهودية الإظلامية مرآة لأكثر التصورات إظلامية في كل التاريخ البشري فإن الممارسات الصهيونية يمكن لها أن تجد متكأ في الفكر الحديث وفي الفكر الديني القديم، فالموروث الديني اليهودي كما صاغه عتاة الكهنة، يظل مصدر وحي وإلهام لكل دعاة الرعب وتمجيد القوة .
يقول النبي حزقيال ((لا تشفق أعينكم، ولا تعفو الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء واقتلوا الهلاك))، ويقول التلمود ((من العدل أن يقتل اليهودي بيده كافراً، لأن من يسفك دم الكافر يقدم قرباناً لله)).
وجاء في التلمود أيضاً ((إن الكفار هم يسوع المسيح ومن اتبعه)) .
وقال؟(يهوذكيا): ((إن هذه الجملة تشمل الوثنيين عامة)).
أما قوله تعالى {لا تقتل} فقد فسرها "ميمانود" بقوله ((إن الله نهى عن قتل أي شخص من بني إسرائيل))، وأضاف ((اصفح عن الأمي وإذا جذف في حق الله أو قتل غير إسرائيلي أو زنا بامرأة يهودية ثم صار يهودياً)).
وهكذا نقف أمام صورتين لمعنى القتل أو ضرورته: تحض الصورة على القتل بدون النظر إلى مرجع أخلاقي مطلقاً، فالقتل عمل مباح لا يحتمل التحديد أو القيود، ينطبق على الرجل والمرأة، على الشاب والطفل، على الشيخ والعذراء النقية، تكمل الصورة الثانية الصورة الأولى: كل من كان غير يهودي يستحق القتل، والقتل هو القصاص الكافر وجزاؤه والمسيح اتباعه من الكفار، ثم يشمل ذلك كل من كان وثنياً ويصل في النهاية إلى كل إنسان يقف خارج الدائرة اليهودية، فالعالم ينقسم إذا إلى دائرتين: الأولى ويقف فيها اليهودي شاهراً سيفه والثانية يقف فيها اللايهودي ينتظر القتل، يبدو اليهودي مرآة الله على الأرض يفرق الحدود بين الإيمان والكفر بقدر ما يبدو هو الظل لله على الأرض أي أن اليهودي إله واحد ومتوحد لا يحتمل وجود غيره على الإطلاق .
لا يختلف جوهر هذه الصورة عن جوهر صورة "الآري" في فلسفة "رزنبوغ" الهتلرية،التي تقسم العالم إلى سواد وبياض إلى مملكة الإنسان وحقول الحيوان، ودور الإنسان هو تطهير الأرض كلها من كل حيوان أو متوحش أو بربري .
يجعل الفكر اللاهوتي اليهودي القتل هو الجمال الوحيد في الوجود، فالجميل هو القاتل لأنه صورة الرب الصالحة، الجمال هو فعل القتل، ولا يصبح العالم جميلاً إلا إذا طهره السيف اليهودي من أعداء اليهود، وبسبب البحث عن هذا الجمال تعيد "بروتوكولات حكماء صهيون" شرح التعاليم الأولى، بلغة أكثر بساطة، ووضوحاً إنها تنقل الفكر الظالم إلى مستوى التعاليم الكنسية المجردة إلى واقع الفعل السياسي الذي يعتمد على الرعب، ولما كانت الأغلبية من البشر رعاعاً والندرة منهم ذوي التفوق والامتياز، فإن أقوم السبل لحكم العالم هو إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف لا الحكم القائم على النقاش الجماعي .
يستطيع الحكماء فرض معايير التمييز العنصري المطلق، فالعالم يقسم إلى رعاع وإلى متفوقين، وللمتفوق الشامل الحق في حكم العامل الشامل، ولهذا فإن الحكماء لا يتحدثون عن مملكة أورشليم أو أرض الميعاد أو المدينة الفاضلة، بل يقولون صراحة بـ"أقوم السبل لحكم العالم" فالمتميز يحكم العالم بأسره وسبيله في الحكم والسيطرة لا يقبل بالحوار وتبادل الرأي والمناظرة، بل يقبل بأحكام المتفوق وهي: التخويف والعنف، والسياسة الوحيدة هي إذا، القتل، أي أن سياسة الإنسان المتفوق الوحيدة هي: الحرب، والحرب لا تكمل السياسة بل هي بداية السياسة ونهايتها، أو بشكل آخر .
إن مفهوم والذي يقبل بالحوار، هو علامة الضعف والجنس الأسفل والأدنى، وكما يقسم العالم إلى أعلى وأدنى، فإنه يقسمه أيضاً إلى حرب وسياسة، والسياسة ترتبط بالأدنى دائماً .
ويعتقد حكماء صهيون إنهم ينهلون معرفتهم من التاريخ، ومن التجربة الإنسانية، فهم يعتقدون إنه وفي بداية تكوين المجتمعات خضع الناس للقوة الوحشية العمياء ثم خضعوا للقانون، وكلاهما واحد .
تعبر الصهيونية في هذا القول عن ثلاث حقائق: أولها أن القوة الوحشية جزء من الطبيعة الإنسانية الأولى، إنه الفطرة التي لازمت الإنسان منذ ولادته، والحقيقة الثانية أن الصهيونية لا تقبل من التاريخ الإنسان: إلا جانبه الوحشي، فهي تتعامل مع الفلسفة اليونانية المجمدة للجمال الإنساني، ولا تعترف بفلسفة الأنوار، التي تقول بحق جميع البشر بالعدل والمساواة، ولا تقترب إطلاقاً من الأفكار الإنسانية الحديثة التي دعا إليها "برتراندرسل" أو "البرت أنيشتاين" أو "كارل ماركس" بل تذهب إلى مرحلة الإنسان ما قبل الإنسانية أي أنها تجد غايتها الفلسفية بشكل واضح في مجتمعات "القطيع البشري" حيث كان الإنسان غريزياً وبعيداً كل البعد عن مراحل تطور الإنسانية العقلاني، تعترف الصهيونية بالغريزة العمياء وترجع إلى الزمن البدائي الذي كان أسيراً للغرائز، ولهذا فإنها لا تعترف بتطور المجتمعات الإنسانية عقلا وقيماً وثقافة .
تصدر الحقيقة الثالثة عن الحقيقة الثانية: إن عدم اعتراف الصهيونية بتقدم الفكر البشري يجعلها تساوي بين القانون بالمعنى الحديث وقانون القوة الوحشية القديم وبذلك تكمل دورتها الإظلامية، فهي مع الحرب ضد السياسة، ومع القمع ضد الحوار، ومع الغرائز ضد العقل، ومع القديم ضد الجديد، ومع اليهودي ضد من لا يكون خاضعاً لليهودي وتصل هذه الإظلامية إلى أعلى مراتبها حين يقول "الحكماء" "نحن مصدر الإرهاب الراعب في كل مكان، ويتهالك على خدمتنا أناس ينتمون إلى مختلف الملل والنحل"، أو يقولون: وأما شعارنا فهو القوة والرياء، ففي الأمور السياسية يكون النجاح وليد القوة، وبخاصة عندما تكون القوة اللازمة لرجل السياسة الحكم "مطلبه بالعبقرية ويجب أن يكون العنف مبدأ قاعدته الرياء والمكر".
لا ترفع الصهيونية راية الرعب والإرهاب والحرب والقوة فقط بل تستهزئ بكل المعايير الأخلاقية الإنسانية، مما يجعلها تمجد الرياء والمكر وترى فيهما صفات ملازمة للإنسان العبقري، على أية حال إن الفلسفة تضع الإنسانية كلها في دائرة الشر، وتتيح دمها ولا تستطيع أن تتقبل المعايير الإنسانية السوية بل إنها تنكر مفهوم الإنسانية أصلاُ، لأن هذا المفهوم يقول بوحدة المجتمع الإنساني، ويتطور العقل الإنساني وبارتقاء الثقافة الإنسانية، أما الفكر العنصري فإنه يطرد الإنسانية ويبرر ذبحها ويحتكر لذاته فقط صفة الإنسانية وإنه لا يعترف بالإنسانية إلا إذا اعتبرها مرتبة دونية، ورفع نفسه فوقها مراتب، وأخذ صفات الرب وأصبح رباً للبشرية .
ويعطي بن غوريون لفلسفة الرعب والقوة أساساً منطقياً، فكما الماء وجد من أجل الشراب والهواء من أجل التنفس فإن البندقية وجدت من أجل إطلاق الرصاص، والجندي من أجل القيام بفعل القتل: "يشكل الناس الذين يحملون السلاح وتوجد لهم قوة لا توجد للغير، خطراً على الجمهور وعلى أنفسهم وأعني بذلك الناس الذين يتمتعون بقوة تزيد عن غيرهم، وحين لا تكون هذه القوة خاضعة لسلطة عليا، فإنهم يشكلون خطراً جماهيرياً هؤلاء الناس الذين نمدهم بالسلاح، وظيفتهم أن يقتلوا وأن يتعرضوا للقتل، هذه هي وظيفة الجندي وهذه مهمة العضو في "الهاغاناه" ويجب رؤية الأمور بكامل وحشيتها ويجب أن لا ننسى أنه لا يوجد إنسان بصفات ملائكة، كل إنسان مكون من لحم ودم، معرض في ظروف معينة أن يستغل قوته الزائدة، إذا لم يكن تابعاً لإطار من شأنه أن يمنع هذا الاستقلال".
يعيد بن غوريون تعاليم "حكماء صهيون" ويعطيها طابعاً من الحكمة والمنطق، فهو يفترض أن الإنسان المسلح وجود طبيعي يخلق ويتطور كما تخلق وتتطور كل الظواهر الطبيعية الأخرى، فالسلاح جزء من الوجود، والجندي المقاتل ينمو كما تنمو النباتات وبعد أن يستند إلى الفلسفة الح
نشرت فى 22 يوليو 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
379,922
ساحة النقاش