لغتنا الجميلة!
على ضوء هبة الشعب التونسي من أجل التغيير والحرية ، هل تعود بعض المصطلحات التي لم نعد نسمعها إلا في مجالس خاصة وعلى صعيد فردي .
اللغة لم تكن أبداً (محايدة)، والكلمة الواحدة قد تستخدم في مجال يحمل كل معاني الجدّية، وأحياناً تصبح من كثرة استخدامها في غير موضعها، تحمل لدى الناس كل معاني السخرية، والكلمة في مجال قد يكون لها وزن الذهب، وقد يكون لها وزن الريشة.
ولعل سخاء اللغة العربية الشديد، هو الذي دفعنا نحن العرب إلى الإنفاق من هذه اللغة بإسراف شديد، فالكلمة الواحدة لها عشرات المترادفات، وإذا ألقينا كلمة في أتون الأحداث، واحترقت من فرط تكرارها دون معنى مقصود، فاللغة تسعفنا بعشرات المترادفات، فنحن لا نخشى عجزاً ما في هذا النوع من (العملة).
وإذا كانت الكلمات من (القاموس السياسي) للغة، فهي أكثر عرضة للتلف، ذلك أنها كثيراً ما تكون عرضة للاستخدام الخاطئ المتعمّد من رجال السياسة أو الكتابة، أو للاستخدام في مجرد تخدير الرأي العام، فتفقد أعزّ الكلمات معناها أو بمعنى أصح، تفقد (وقعها) على النفس، وهي القيمة الأساسية للكلمة.
ونأخذ على ذلك أمثلة من كلمات كبيرة مثل (الوحدة) أو (الثورة) أو (الديمقراطية).
كلمات كبيرة جداً لكن بعضها لحقه (الإجهاد) من كثرة الاستعمال اللغوي، وانعدام الاستعمال الفعلي!
قبل ثلاثين سنة - مثلاً - كانت كلمة (الوحدة) تحرّك أعمق المشاعر لدى الجماهير، ولكن الآن، وقد فشلت أكثر من وحدة، وصار كل تقارب يسمى وحدة، وليس على مستوى الأقطار فقط، ففي داخل القطر الواحد صار حتى تحقيق الوحدة الداخلية أمراً مطلوباً وعزيزاً أو صارت الوحدة الوطنية - لا القومية - بعيدة المنال كما في لبنان وغيرها.
وإذا تركنا الوحدة بمعناها السياسي الدولي، نجد أنه يكاد لا يوجد مشروع اقتصادي واحد، له طابع التكامل الوحدوي، رأى النور حتى الآن، رغم توقيعات الدول العربية المختلفة عليه.
وفي الخليج - مثلاً - نسمع دائماً عن وحدة العملة الخليجية، وهو أمر يكاد يكون بديهياً، خصوصاً من الناحية الاقتصادية المصلحية وليست السياسية، فدول الخليج روابطها وثيقة جداً، وأهلها أبناء عمومة بكل المعاني النفسية والتاريخية، واقتصادها كلها يقوم على سلعة أساسية واحدة هي البترول، فهذا نوع من الوحدة يتم بقرار لا غير.
لم تعد لكلمة (الوحدة) إذن سخونتها القديمة، صارت لا تحرّك شعرة في رأس مواطن عربي، الكل يتحدث عن الوحدة، فلا يوجد في الظاهر من هو معها ومن هو ضدها، لم تعد تثير نقاشاً ولا بحثاً ولا عراكاً، وضعت في الثلاجة العميقة، وهذا أحسن الممكن على أي حال، حتى تبقى صالحة للاستعمال ربما بعد وقت طويل، بدلاً من أن تفسد نهائياً.
والشيء نفسه، لحق كلمة (الثورة)، صارت في لغتنا وصفاً يطلق على أول دبابة تصل محطة الإذاعة، وتعلن البيان رقم واحد! وصارت في أفئدة الناس العاديين مرادفة لأي حكم عسكري!
وأيضاً كلمة ديمقراطية، ألا يوجد لها عشرون تطبيقاً على الأقل؟ هل يسمى أي نظام نفسه بغير هذا الوصف؟ وأنواع الديمقراطية لابدّ لها أن تتمدد، فلن يصلح للعالم كله ديمقراطية واحدة، ولكن ألا تحتاج كل (ديمقراطية) احتراماً للكلمة إلى تعريف وثيق لها في كل مكان، يمكن حساب أهلها عليه؟
على أنني أريد أن أقف أساساً في هذا الحديث، عند نوع آخر من الكلمات التي (فقدت سمعتها) بطريقة أخرى، بالطعن فيها والسخرية منها وتشويهها، هذه كلمات فقدت سمعتها بنوع من الإرهاب الفكري، حتى صارت خافضة جناحها من الذل أمام صيحات كصيحات الهنود الحمر، الذين إذا لاحت لهم، رشقوها بكل ما لديهم من سهام.
كلمات مثل: (الموضوعية) و (الواقعية) و (العقلانية).. هذه الكلمات - مع الأسف - فقدت سمعتها تحت وطأة الإرهاب الفكري الهائل.
إرهاب فكري ساد فترة من الزمن خلاصته: أن من لا يتبع الرأي (السائد) إعلامياً فهو متخاذل! وأن المطلوب من الكتاب هو ترديد الشعارات دون محاولة الذهاب إلى أبعد من ذلك خشية (بلبلة الجماهير)، كأن الجماهير في مرحلة طفولة، ولابد من شغلها عمّا حولها بالزعيق والصراخ فهي لا تفرح أو لا تصلح إلا لهذه الألعاب النارية الملوّنة! وبالطبع: من يزيد في الضجة المتزايدة ومن يطلق فرقعات مدوية ملونة أكثر، هو الذي يفوز بأكبر عدد من المتجمعين في (مدينة الملاهي) الصاخبة!
في هذا الجو، كان لابد أن تداس بالأقدام كلمات مثل (الموضوعية) و (الواقعية) و (العقلانية).
وفي الوقت نفسه، لابد أن نسجل أن هذه الكلمات (فقدت سمعتها) بسبب نوع آخر مقابل من الممارسة الرديئة فعلاً.
فقد عرف التاريخ العربي الحديث طوال الخمسين عاماً الماضية - من قاموا فعلاً بأدوار الهزيمة والاستسلام والتقاعس، وأطلقوا على أفعالهم تلك كلمات (الواقعية) و (الموضوعية) و (العقلانية).
الأمر الذي هو كفيل - وحده - بأن يكفر الرأي العام بهذه الكلمات، أو يضعها في غير موضعها الصحيح من القاموس، ومعه الحق.
ولكن، هل معنى ذلك أن نسقط هذه الكلمات من قاموسنا، وننزع الصفحات التي تتكلم عنها من كتبنا، ونمحوها محواً من العقل العربي.
مستحيل.
وهذه معركة يجب أن يخوضها كل ذي مسئولية، وكل ذي فكر، حتى لو تعرّض لإطلاق النار من الجانبين في وقت واحد، من جانب الغوغائية والديماجوجية النشيطة، ومن جانب الانهزامية الحقيقية المتخاذلة، وأنا أقصد الغوغائية والانهزامية ليس في مجالاتها السياسية فقط كما يتبادر إلى الذهن، ولكن على كل مستويات الحياة العربية، من تقاليد وعادات وثقافة وتحوّل اجتماعي وتطوّر إنمائي وسياسي.
إن الشعب العربي هو الذي نزل القرآن بلغته، والقرآن أكثر كتاب مقدس وغير مقدس تحدث عن العقل والعلم والتفكير والتذكير، فمن المستحيل أن تكون هذه اللغة بالذات هي اللغة التي تفقد فيها هذه الكلمات سمعتها.
وما معنى العقلانية والموضوعية والواقعية وغيرها من المصطلحات الحديثة، إلا: استخدام العقل؟
إذا نزعنا عن هذه الكلمات أرديتها السيئة التي أساءت إلى سمعتها، وبحثنا في معانيها التي صكت من أجلها، فماذا نجد؟
أليست (الموضوعية) مثلاً، هي البدء في كل أمر بدراسة (الموضوع)؟ والموضوع بالنسبة للعالم حقيقة طبيعية مثلاً، وبالنسبة للقائد العسكري الخريطة الدقيقة لساحة المعركة بهضابها ووهادها، وتقدير قوته، وقوة العدو قبل الصدام؟ وبالنسبة للسياسي دراسة علاقات القوى السياسية في موقف ما، وحشد الطاقات المتوافرة لمواجهة هذا الموقف، ورسم خطة للتحرّك، إلى آخره.
وما معنى الواقعية إلا أنه يجب أن تكون دراستنا (للموضوع) دراسة واقعية، مستندة إلى الواقع لا إلى التمني، لأننا - ككل الناس - مرغمون على التعامل مع واقعهم وليس مع تمنياتهم.
والرضوخ للواقع أمر، وتغييره أمر آخر، وفي هذا يختلف فكر الناس، ومدى همتهم، وجدوى حساباتهم.
وأعظم الذين غيّروا وجه التاريخ، كانوا أعظم الواقعيين، لأن اختراق طرق التغيير يقتضي معرفة الطريق الممهد، من الطريق الوعر، ومن الطريق المسدود تماماً!
وقد يبدو تصدي هؤلاء لمهمة التغيير في البدء مستحيلة، ولكن المستحيل وقع، ذلك أنه لم يكن مستحيلاً، إنما العظماء الذين يغيّرون الواقع يرون من خبايا هذا الواقع وفي ثناياه مالا نراه، وبالتالي فهو ممكن، وعلى هذا الأساس ينهضون للعمل، ويقع المستحيل، الذي لم يكن مستحيلاً، لأن المستحيل حقّاً لا يقع.
إن اللغة تترك أثرها في ضمائر الناس، وتشكّل أحياناً طريقة تفكيرهم.
وقد ذهب كاتب عربي كبير - عبدالله القصيمي - إلى حد إصدار كتاب عنوانه (العرب ظاهرة صوتية!)، لا أوافقه عليه، ولكن الصحيح فيه ربما قول بعض المستشرقين أن العربي إذا (قال) شيئاً، تتحقق له راحة مَنْ (فَعَل) الشيء، وذلك موضوع لصيق بحديثنا، لكنه يحتاج تأملاً آخر.
إنما القضية المطلوبة هنا فقط أن نعيد للعقل مكانته في حياتنا العربية، ولا يمكن أن نعيد لعقل مكانته في نفوسنا، إذا بقينا نسخر من الكلمات الداعية إلى استعمال هذا العقل.
ساحة النقاش