ما بعد الحداثة


في الرابع عشر من أكتوبر عام 1979 نشر الكاتب الصحفي الفرنسي كريستيان دوكان في جريدة لوموند الفرنسية نص حديث أجراه مع المفكر الفرنسي جان فرنسوا ليوتار الذي كان يعمل في ذلك الحين أستاذا بجامعة باريس الثامنة, والذي يعتبر رائداً لحركة ما بعد الحداثة في فرنسا. وكان الحديث يدور حول الملامح الأساسية لتفكير ليوتار وآرائه في الحياة والثقافة والمجتمع, وارتياده لحركة ما بعد الحداثة, وإسهامه في تلك الحركة, ومدى تقبّل الفكر العالمي لها. وقد لاحظ ليوتار في بداية الحديث أن العالم يمر بمرحلة تتميز بما أسماه (الانفجار الاتصالي عن بعد), وأنه يشهد تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى في المعرفة الأدبية والعلمية, ويعاني من غياب أو اختفاء أنساق المعتقدات التي توجه الإنسان في تفكيره وقيمه وسلوكياته وعلاقاته بالآخرين, وأن هذه المظاهر كلها تعتبر أهم العناصر التي تميز فترة, أو مرحلة أو حتى حالة (ما بعد الحداثة).
وقد اعترف ليوتار في بداية المقابلة بأنه استعار مصطلح (ما بعد الحداثة) من الفكر الأمريكي لكي يصف حالة الثقافة في الوقت الراهن, وذلك على اعتبار أن المجتمعات (الحديثة) وهي التي بدأت في الظهور بعد نهاية العصور الوسطى - مجتمعات تربط خطاب الصدق وخطاب العدالة بعدد من (القصص) أو الحكايات التاريخية الكبرى وذلك على العكس من مرحلة ما بعد الحداثة التي نمر نحن بها الآن, فإنها تفتقر إلى مشروعية ما هو صادق وما هو عادل, وأن ذلك هو الذي أدى إلى ظهور واستفحال الحركات الإرهابية, كما دفع الكثيرين إلى اعتناق الستالينية والمادية وما إليهما, وإلى تعرّض رأس المال والرأسمالية إلى أزمة حقيقية طاحنة, كما أن التقدم يلاقي كثيراً من الصعوبات, بحيث يكاد يتوقف تماماً أو حتى ينحسر وينتكس إلى الوراء. ثم يردف ذلك بقوله إن الأزمة ليست في واقع الأمر مجرد أزمة ارتفاع أسعار البترول (كان ذلك في عام 1979) وإنما هي أزمة هذه القصص والحكايات الكبرى ذاتها.
وهذه العبارات المستمدة من الحديث تكشف لنا عن نمط التفكير الذي يسود في كثير من الكتابات في فرنسا وأمريكا خلال العقدين الماضيين, وهو نموذج لفكر ما بعد الحداثة الذي يثير حوله كثيراً من الحماسة والتأييد, كما يثير كثيراً من النقد, بل والسخرية في بعض الأحيان.
ولم يتفق المفكرون بعد على تعريف واحد واضح لما بعد الحداثة, ولكن الفكرة الأساسية وراء ذلك المفهوم تقوم على الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربي في الرؤية والمعرفة والتعبير طرأ عليها في السنوات الأخيرة تغيّر جذري نجم - في الأغلب - عن التقدم الهائل في وسائل الاعلام والاتصال والتواصل الجماهيري وتطور نظم المعلومات في العالم ككل مما ترتب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد على التصنيع, وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية, وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد.
وتمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على نقد, بل ورفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة, كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها هذه الحضارة, أو على الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها, ولذا يذهب الكثيرون من مفكري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية التي تعتبر هي الطابع الأساسي المميز لتلك الحضارة. بل إن البعض يرون أن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل, وأن ما بعد الحداثة تهييء (باعتبارها مفهوماً نقدياً للفكر السابق) لقيام مجتمع جديد يرتكز على أسس جديدة تماماً غير تلك التي عرفها المجتمع الغربي الحديث. ويبدو أن مفكري ما بعد الحداثة قد تأثروا في ذلك بأفكار بعض الفلاسفة الألمان بالذات مثل نيتشه وهايدجر اللذين كانا قد أثارا فكرة إمكان قيام أسس جديدة للفكر الإنساني الحديث والمعاصر.
ولكن هذا لا يمنع من وجود اتجاهات أخرى ترى أن الأمر لا يعدو أن يكون بعض التعديلات والتحويرات في بعض عناصر الثقافة الغربية (الحديثة) مثلما يحدث في كل الثقافات والحضارات خلال تاريخها, وأن هذه التعديلات والتحويرات نشأت نتيجة لتغير الظروف والأوضاع التي تحيط بتلك الثقافات, ولكنها مهما يبلغ من عمقها, فإنها لن تخرج عن أن تكون تغيرات هامشية لا تؤثر في جوهر الثقافة الغربية ومقوماتها الأساسية. وهذا معناه أن ثمة اختلافاً بين المفكرين حول إذا ما كانت ما بعد الحداثة تمثل مرحلة قائمة بذاتها ولها مقوماتها ومقتضياتها الخاصة, أم أنها مجرد استمرار لمرحلة الحداثة رغم كل ما طرأ عليها من تغيرات, وبذلك تكون مجرد حالة للفكر والثقافة تتميز بوجود أنماط ثقافية لم يتم الاتفاق بعد على تحديد ملامحها.
بل إن ثمة اختلافاً بين الكتاب حول المفكرين الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الحداثة لدرجة أن بعض الكتابات تعتبر مؤرخاً مثل أرنولد توينبي صاحب العمل الموسوعي الشهير (دراسة في التاريخ) أحد رواد هذا التيار الفكري أو الحركة الفكرية, ولا أقول النظرية أو المذهب, وربما يرجع ذلك إلى موقف توينبي من الحضارة الغربية في القرن العشرين, وعوامل التفكك التي تعتريها. بل لقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار ما بعد الحداثة تتمثل في الفجوة التي تفصل بين الثقافة الراقية الرفيعة التي كانت سائدة في الغرب, وبخاصة في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين, والثقافة الشعبية العامة أو على الأصح ثقافة الــ Pop, حسب التعبير الشائع في الغرب, مما يعني ضمناً أن ما بعد الحداثة تمثل حالة من التدهور والانحطاط الاجتماعي والثقافي, أي أن المسألة ليست مجرد تتابع زمني أو تاريخي بين الحداثة, ثم ما بعد الحداثة, وإنما المسألة هي اختلاف جوهري بين (حالتين) أو (وضعين) للثقافة لكل منهما خصائصه ومقوماته المتميزة والمميزة.
ولم يتفق مفكرو ما بعد الحداثة فيما بينهم على تحديد المسار الذي سوف تسلكه الثقافة الغربية, وما سوف تنتهي إليه في ظل التغيرات الهائلة التي يمر بها العالم الآن وبخاصة العالم الغربي بتحولاته السريعة والفجائية, كما أنهم لم يتفقوا حتى على تبيين معنى الثقافة في المستقبل وأهميتها بالنسبة لمجتمع الغد مما يعني أن الأمور لم تتضح تماماً في أذهان هؤلاء المفكرين وأنهم لايزالون في مرحلة استكشاف جوانب المشكلة ومحاولة تعرّف خصائصها وأبعادها. وهذا هو ما دفع أحد كتّاب ما بعد الحداثة في أمريكا إلى أن يقول إن المفهوم يتضمن (استحالة التحديد).
وقد تكون هذه الاستحالة راجعة إلى غموض المفهوم ذاته في أذهان أصحابه, ولكنه قد يكون مؤشراً على مدى اتساع مجاله بحيث يشمل كل ما يتعلق بالمعرفة الإنسانية بمختلف فروعها وتفرّعاتها وتنوّعها وما تحرزه من تقدم سريع بفضل التقدم التكنولوجي الهائل في مختلف المجالس, وليس فقط في المجال العلمي الدقيق.
والسؤال المهم الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل هذه التغيرات تعني أن عصر (الحداثة) قد انتهى إلى غير رجعة? وأن الحضارة (الحديثة) - أو حضارة الحداثة - قد زالت واندثرت? أو أنها بسبيلها إلى الزوال والاختفاء بكل ما أنجزته من تقدم في مجالات الفكر الإنساني والكشف العلمي والإبداع الفني? وأننا على أبواب حضارة أخرى جديدة هي حضارة وثقافة ما بعد الحداثة? وما مقومات هذه الثقافة وما أثرها على الإبداع وعلى طبيعة المجتمع ذاته بوجه عام? الواقع أنه حتى الآن لا توجد إجابة قاطعة وإنما تختلف وجهات النظر بين أنصار ومؤيدي ما بعد الحداثة من ناحية, ومعارضيها من الناحية الأخرى.
وأنصار وأتباع ما بعد الحداثة يوجهون كثيراً من الانتقادات إلى إنجازات عصر الحداثة وموقف (الحداثة) من الفكر والفن والسياسة والحياة, وهو موقف يعلي من شأن العقل ويرى فيه مصدر كل تقدم في المعرفة وفي المجتمع وأنه وحده هو مصدر الصدق وأساس المعرفة المنهجية. وأنه وحده هو القادر على اكتشاف المعايير النظرية والعملية التي يهتدي بها الفكر والفعل على السواء, وإن كانوا يعترفون في الوقت ذاته أن مبادئ فلسفة التنوير هي التي ساعدت على قيام الثورة الديمقراطية في فرنسا وأمريكا وزوال عهد الإقطاع وقيام النظام الاجتماعي الذي يؤمن بالعدل والمساواة, كما يعترفون بأن كثيراً من منجزات عصر الحداثة تغلغلت إلى كثير من جوانب حياة الإنسان الحديث ابتداء من التكنولوجيا المختلفة والسلع الاستهلاكية ووسائل النقل والمواصلات إلى ظهور النزعات الفردية والاتجاهات العلمانية والعقلانية والنظم البيروقراطية والاتجاه نحو التصنيع وزيادة معدلات التحضّر وما ارتبط بذلك من تفاضل ثقافي في المجتمع (الحديث). ومع ذلك, فإن ما بعد الحداثة ترى أن الزمن قد تغير, وأن الظروف العامة قد تجاوزت كل هذه الإنجازات نتيجة لتقدم أساليب الإعلام والإتصال بوجه خاص, وما أدى إليه من ظهور (حالة) جديدة من التاريخ تتطلب قيام نظريات ومفاهيم تتلاءم مع الأنماط المعرفية الجديدة والتطورات التي طرأت على النظام الرأسمالي نفسه بعد ازدياد الاتجاه نحو العولمة, وتعقد التجارب والخبرات الإنسانية, وتعدد الاتجاهات الثقافية وتنوع المواقف الفكرية, بل وظهور اتجاهات جديدة في الفن تجاوزت المدارس (الحديثة) مثل الانطباعية والتعبيرية والسريالية وما إليها, وتحررت من كل القيودالتقليدية وبخاصة في العمارة حيث يمكن الجمع بين عناصر غير متجانسة تخرج تماماً عن المألوف, وامتداد ذلك إلى بقية الفنون التعبيرية مثل الرقص والباليه بل والموسيقى والأفلام السينمائية.
وعلى ذلك, فقد يمكن القول إن ما بعد الحداثة تبدأ من التشكك أو عدم الوثوق في كثير من الأسس والمبادئ العامة الكلية الشاملة التي سادت في عصر التنوير ووجهت الفكر الحديث, أو حسب تعبير جان فرنسوا ليوتار إن ما بعد الحداثة تبدأ بالميل إلى التشكل فيما يسميه بالحكايات الثقافية العليا أو ما وراء الحكايات التي ورثها الفكر الحديث عن ذلك العصر, كما أنها ترفض التسليم بوجود أي مجموعة من المبادئ أو المعتقدات أو المسميات الفكرية العامة التي تسيطر على إبداعات مفكري عصر الحداثة. وإذا كانت الحداثة ترى أن النظرية العامة الشاملة الكلية تعكس الواقع, فإن ما بعد الحداثة ترى على العكس من ذلك أن النظرية لا تقدم في أفضل الأحوال سوى منظورات جزئية عن الموضوع الذي تدور حوله.
وقد يرى بعض الكتّاب أن الاختلافات بين الحداثة وما بعد الحداثة ليست اختلافات شاسعة, وأنها مجرد اختلاف في الدرجة وليس في النوع. بل إن بعض أنصار الحداثة يذهبون إلى أن ما بعد الحداثة ليست سوى نوع من الألعاب اللغوية أو التلاعب باللغة الذي يحذقه فلاسفة ومفكرو ما بعد البنائية. وليس من شك في أن مفكري ما بعد الحداثة استحدثوا كثيراً من المصطلحات التي لم يستقر بعضها في شكله الأخير أو في معناه النهائي. وبعض هذه المصطلحات مستمد من كتابات ما بعد البنائية مثل التفكيك والإرجاء, ولكن البعض الآخر جديد مثل اللغة الطفيلية والعقلية الجدلية المنطقية Dialogic والتركيبة الاجتماعية والميتاحكاية والميتالغة وما إليها, وأنه إذا كانت ما بعد الحداثة لعبة لغوية, فإنها لعبة قوية وفعّالة تهدف إلى توجيه الانتباه إلى أبعاد الحقيقة الإنسانية التي كثيراً ما نغفلها أو حتى ننكرها تماماً, كما ترمي إلى إبراز الديناميات التي حاولت الحداثة طمسها أو إخفاءها أو على الأقل عدم الاهتمام بها على أساس أن الذي يهم في المحل الأول هو الأحكام الكلية الشاملة.
ربما كانت كتابات جان فرنسوا ليوتار أفضل ما يكشف لنا عن كل هذه الخصائص, على الرغم مما يكتنف هذه الكتابات من غموض, وشأنها في ذلك شأن كل كتابات مفكري ما بعد الحداثة.
وقد بدأ اسم ليوتار يلمع في مجال الفكر الفلسفي منذ الخمسينيات حين ظهر كتابه عن (الفنومنولوجية عام 1954 وهو في الثلاثين من عمره, ولكن أهم كتاباته عن ما بعد الحداثة والتي وجهت إليه الأنظار ظهرت في فترة السبعينيات, وذلك حين صدر له كتابان كان لهما - ولايزال - شأن كبير في الكشف عن أبعاد هذه الحركة الفكرية, الكتاب الأول يحمل عنواناً غريبا هو (الاقتصاد الشهواني) أو الاقتصاد الشبقي, فقد استخدم في العنوان كلمة (الليبيدو) التي تشير إلى اللذة الجنسية, وقد ظهر هذا الكتاب عام 1971, والكتاب الثاني هو (الحالة ما بعد الحداثية) وقد ظهر عام 1979 ويحمل عنواناً فرعياً هو (تقرير عن المعرفة), وبين هذين التاريخين ظهرت له مجموعة أخرى من الكتب والمقالات المهمة, كما أنه تابع الكتابة في مختلف مجالات ما بعد الحداثة في الثمانينيات والتسعينيات, وصدر له عام 1992 كتاب آخر مهم هو (شرح ما بعد الحداثة), بل إنه نشر عام 1986 عملاً طريفاً بعنوان (شرح ما بعد الحداثة للأطفال) مما يعطي فكرة عن إيمانه العميق بأهمية هذه الحركة الفكرية والدور الذي تلعبه في تشكيل عقل الإنسان المعاصر, وهذا هو ما دفع بعض الكتّاب إلى القول إن أعمال ليوتار أرست أكثر من أعمال غيره من المفكرين قواعد ما بعد الحداثة في مجال النظرية ومجالات الأخلاق والسياسة والجماليات, وأنه كان على رأس المفكرين الذين قطعوا الصلة بنظرية الحداثة ومناهجها وعملوا على نشر (البدائل بعد الحداثية). وعلى أي حال, فإن ليوتار في كتابه عن (الاقتصاد الشهواني) يحاول أن يربط بين الاقتصاد السياسي والرغبة, وبين النظرية والمتعة, وبين الفن والغرائز والمشاعر والرغبات الدفينة العميقة, بينما في كتابه عن حالة ما بعد الحداثة, يحاول تحليل ظاهرة التفكك والتفسخ في المعلوماتية والسيبرينية وبنوك المعلومات, ويبين طبيعة التغيرات التي تحدث في الوقت الحالي في مجال تصنيف المعارف وأساليب الحصول عليها وطرق استخدامها, وأثر التسارع المتزايد في مجالات المعرفة في تغيير الحياة اليومية في المجتمع المعاصر.
وقد وُلد جان فرنسوا في فرساي في العاشر من أغسطس عام 1924 في عائلة متواضعة, ولكنه كان طيلة الوقت توّاقاً للكشف عن مصادر المعرفة وارتياد مجالاتها المختلفة المتنوعة, ولذا أراد في أول الأمر أن ينخرط في سلك الرهبنة, ثم اتجه إلى الفن لكي يصبح رسّاماً مصوّراً, وانتقل منه إلى التاريخ, ولكنه لم يفلح في أيّ من هذه الميادين. وكما يقول هو نفسه في ذلك إن رغباته الجنسية المتأججة منعته من الرهبنة, بل ودفعته دفعاً إلى الزواج, كما أن ملكاته وقدراته الفنية المتواضعة لم تكن تؤهله للاستمرار في الرسم والتصوير, كما أنه لم يكن يتمتع بقوة الذاكرة التي يحتاج إليها المؤرخون, ولذا اتجه في آخر الأمر إلى الفلسفة وحصل فيها على درجته الجامعية العليا من الإيلكول نورمال سوبيريو (مدرسة المعلمين العليا) عام 1958 ثم على دكتوراه الدولة من السوربون عام 1971 وهو في السابعة والأربعين من عمره, وكان يميل إلى فلسفة هيجل وهوسرل وهايدجر, كما كان مغرماً بكتابة الشعر.
وقد اشتغل جان فرنسوا ليوتار بتدريس الفلسفة في المدارس الثانوية بفرنسا لسنوات عدة, ورحل أثناء ذلك ومعه عائلته إلى الجزائر للتدريس, وظل هناك عامين بين 1950 و 1952, وكانت تجربته في الجزائر عاملاً مهماً في تشكيل ما يسمّيه هو نفسه (ضميره السياسي), إذ شاهد هناك عن قرب آثار الاستعمار والتفرقة العرقية والفقر, ودفعته هذه التجربة إلى الانضمام إلى الجماعة المعروفة باسم (الاشتراكية أو البربرية) أي الهمجية والتخلف والانحطاط, وهي الجماعة التي انحلّت عام 1966. وكان لذلك كله أثره في توجهه السياسي بحيث تعاطف وتجاوب مع حركة الطلاب والعمال في باريس عام 1968.
كذلك عمل لسنوات طويلة (حوالي عشرين سنة) في عدد من الجامعات الفرنسية لتدريس الفلسفة وانتهى به الأمر إلى أن يصبح أستاذاً متفرّغاً بجامعة باريس الثامنة, كما أصبح عضواً بمجلس الكلية الدولية للفلسفة, وذلك كله إلى جانب عمله لفترة من الفترات بتدريس اللغة الفرنسية في جامعة كاليفورنيا في إرفن بالولايات المتحدة, ومنها انتقل إلى تدريس الفلسفة واللغة الفرنسية بجامعة إيموري في أتلانتا عام 1995. وقد هاجمه مرض السرطان في السنوات الأخيرة, ولكنه ظل محتفظاً بقواه العقلية وبإنتاجه الفكري إلى أن توفى ليلة 20-21 أبريل من عام (1998).
وليس من السهل فهم كتابات ليوتارد, كما أنه ليس من السهل قبول بعض أفكاره, ولكنه كان يؤازر الدعوة إلى الاختلاف وإلى التعدد في كل المجالات النظرية ويحارب في غير هوادة النظريات والمناهج العامة الكلية أو الشمولية ويؤكد التغاير بين أنواع الخطاب المختلفة, وأن لكل منها قواعده ومعاييره ومناهجه الخاصة, كما أن للأحكام النظرية والعملية والجمالية استقلالها وقواعدها ومحكاتها المتميزة, كما كان يرفض الأفكار المتعلقة بإمكان قيام نظرية كلية شاملة أو أساسية أو وجود منهج أو مجموعة من المفاهيم تتمتع بمكانة متميزة في أي مجال من المجالات, وإذا كان العلم يتمتع بسلطة فائقة في العصر الحديث, فإن ذلك يرجع إلى استناده إلى قوة وفاعلية ما يسميه ليوتار أحياناً بالأساطير, وأحياناً أخرى بالحكايات والقصص العليا أو ما وراء الحكايات أو (الميتاحكايات), وقد شغل ليوتار نفسه بمحاولة الكشف عن هذه الأساطير وتحليلها وفحصها, وكان يقصد بالميتاحكايات التفسيرات والتكنولوجيات الميتافيزيقية العليا المسيطرة في تاريخ الجنس البشري.
وقد ميّز ليوتار على الخصوص بين ثلاث من تلك الميتاحكايات وهي العلم الوضعي باعتباره مفتاحاً للتقدم البشري, على ما يقول ماخ, وهرمينوطيقا (المعنى) باعتبارها مفتاحاً للتكوين الذاتي البشري على ما يذهب إليه همبولت والمثالية الألمانية, والصراع الطبقي كمفتاح لخلاص الجنس البشري أو الإنسان على ما يقول ماركس. إلا أن هذه الميتاحكايات أو الأساطير الثلاث قد ظهر فسادها على الرغم من كل ما قدمته من قضايا ونظريات عامة كلية وشاملة, وهو الشمول الذي يرفضه ليوتار وفلاسفة ما بعد الحداثة, ويقفون منه موقف التشكيل والمعارضة. فمشروعية المعرفة في مجتمع ما بعد الحداثة تتم عن طريق أمور أخرى بعد أن فقدت هذه الأساطير مصداقيتها, ولم يعد هناك في نظر ليوتار أي أسطورة أو قصة أو حكاية عليا مسبقة, كما لم يعد هناك أي صورة واحدة أو صيغة واحدة للخطاب يمكن أن تقوم وتعلو وترتفع فوق غيرها من الصور أو الصيغ, كما أنه لم يعد هناك شكل واحد للمعرفة يمكن اعتباره أساساً لبقية أشكال المعرفة الأخرى, وإنما هناك بدلاً من ذلك أشكال وأنواع وصيغ متعددة لما يسميه (الألعاب اللغوية), وهو مصطلح مستمد من كتابات فتجنشتاين المتأخرة, وتقوم فكرته عند ليوتار على أساس أنه لكي نعرف معنى كلمة أو عبارة ما فلابد من أن نعرف طريقة استخدامها وكيف تؤدي دورها في التفاعل بين الناس. وعلى ذلك, فليس هناك لغة عليا (أو ميتالغة) واحدة يمكن أن تضم كل أشكال وألوان العبارات والتعبيرات وتؤلف خلفية أو أرضية لها كلها. وإذا كان العلم يصدر أحكاماً وتعبيرات معرفية, فإن هناك أنواعاً أخرى كثيرة من التعبيرات تخرج عن نطاق العلم مثل التعبيرات الأدائية, فحين يعلن رئيس جامعة - مثلاً - أن العام الدراسي قد بدأ, فإن هذه العبارة لا تؤلف تعبيراً أو حكماً معرفياً, وإنما هي تعبير عن فعل أدائي فحسب. وعلى ذلك فإن قواعد وشروط الخطاب ليست مقررة سلفاً, وإنما هي تظهر وتتضح أثناء الحديث نفسه. ولذا فقد يكون من التعسف محاولة إقرار وفرض نوع واحد أو شكل واحد من أشكال الخطاب أو التفكير, وليوتار يصف مثل هذه المحاولات بأنها (شمولية) أو (فاشية) أو حتى (إرهابية) خليقة بأن تقابل بالرفض لأنها تهدف إلى تحطيم الآخر. والخلاصة من هذا كله, هي عدم وجود قاعدة عامة أو دستور أو قانون كلي Code مطلق للمعرفة وعدم وجود أي معيار كلي مطلق للصدق, وأن ما بعد الحداثة تؤلف من الناحية المعرفية البحتة الخطوة أو الحركة الأخيرة في (الحرب ضد الشمولية) والكلية والعمومية التي كانت تسيطر على الفكر الغربي الحديث حتى منذ ما قبل أيام ماكس فيبر.

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 165 مشاهدة
نشرت فى 24 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

379,584