د.محمد ناصر

أزمة النشر في العالم الثالث شكلت الدول المتقدمة في السنين الأخيرة حوالي20% من مجموع السكان في العالم، لكنها أصدرت أكثر من 70% من الكتب في العالم، العالم الثالث الذي يشكل حوالي 80% من سكان العالم لكنه مع ذلك ينتج وينشر أقل من 30% من الكتب في العالم، في حين أن أوربا التي يسكنها 15% من سكان العالم فقط لكنها مع ذلك تنتج وتنشر أكثر من نصف الكتب الصادرة في العالم، إن معنى هذه الفروق واضح إلى حد كاف، فالتقدم والنمو ظاهرة شاملة للجميع، لكن التقدم العلمي والثقافي يتحقق بعيدا عن التقدم الفكري والمعنوي، ومن الدلائل المهمة للتقدم الفكري والمعنوي هو إصدار الكتب. إنّ التقدم الثقافي في العالم الثالث لم يبلغ الحد الذي يكون فيه ركيزة قوية للنشاطات العلمية والفنية والصناعية وغيرها، لكن الكتاب الذي يعتبر الركيزة الأساسية لها لا ينتج أو ينشر إلى الحد الضروري اللازم ولا يقرأ بشكل كاف، لذلك تلعب عملية العرض والطلب دورا في ركود وتدني مستوى التوزيع لكتاب ما بدلا من أن تؤدي إلى زيادة التوزيع حسب العلاقة الصحيحة بين العرض والطلب. إن عدد النسخ وارتياد المكتبات واقتناء الكتب منها هو المؤشر الرئيسي للمطالعة في المجتمع، فلا توجد في العالم الثالث مكتبات في الحدود الضرورية، كما أن المبالغ المخصصة لبناء وتحديث المكتبات محدودة وعادة ما تكون المكتبات عاجزة عن استقطاب ذلك العدد من المثقفين في المجتمع، ويعود فشل المكتبات في هذا المجال في النهوض بدور خلاق وحقيقي في إيجاد وتحكيم عادة المطالعة في المجتمع وفي إيجاد قراء دائمين للكتب، ويعود هذا الفشل إلى انزواء المكتبات وانعزالها عن المجتمع، وهذا ما يفقدها دورها المهم. إن انخفاض عدد قراء الكتب بسبب انخفاض الطلب على شراء الكتب، وهذه الحقيقة موجودة في جميع بلدان العالم الثالث، والأسباب الرئيسية لتدني نسبة المطالعة هي: - لا يلعب الكتاب دورا هاما في حياة أكثر الناس، لذلك فهو لا يعتبر سلعة ضرورية بحيث تخصص له العوائل قسما من ميزانيتها لشرائه. - انخفاض المستوى العلمي والثقافي بانخفاض مستوى التعليم لدى عامة الناس. - القراءة لأجل الاستطلاع والمعرفة والميل العلمي والبحث عن الحقيقة شيء نادر جدا.. منافسة الراديو والتلفزيون للكتاب خصوصا لسكان المدن في ملء الفراغ خاصة وان الحصول عليها سهلا. - إن نظام التربية والتعليم في هذه البلاد غير مبني على الاستقصاء والبحث حيث لا يتحول الكتاب إلى أداة ضرورية في التعليم والبحث. - يشكل الفقر العام ومشاكل الحياة ونمط الحياة القروية والبعد عن النشاطات والأخبار الثقافية وقضايا كثيرة أخرى موانع أمام النشر في العالم الثالث. - لا يسمح الوضع الاقتصادي في العالم الثالث لمؤلفين الكتاب أن يعتمدوا التأليف والكتابة كمصدر وحيد للعيش لتمشية أمورهم المادية وهذه المشكلة لا تساعد على جعل الكتابة والتأليف حرفة مستقلة، ولذا فان أكثر الكتاب يمارسون الكتابة كعمل ثانوي لهم. - لا يمتلك الكتاب رؤية واضحة من القراء، ولا يحصلون على التقييم اللازم والحقيقي لنتاجاتهم. - وجود الرقابة في أكثر بلدان العالم الثالث، وما يسفر عنها من آثار سلبية كالضغوط والتهديدات وسلب الحريات خصوصا حرية التعبير والفكر مما تؤدي بالكتاب إلى عدم الإفصاح عن أفكارهم، ومن ثم عدم إبداع آثار جديدة تلعب فيها الحرية دورا رئيسيا. - عدم وجود برامج وقوانين لتشجيع وحماية الكتاب المبدعين مما يفقدهم الشعور بالأمن والطمأنينة في العمل، إضافة إلى أنهم لا يجدون حوافز جديدة للإبداع ما دام المجتمع لا يعير لهم ولعملهم ودورهم أهمية تذكر خصوصا الشباب منهم. - إن مجموع هذه المشاكل يؤدي إلى أن لا يكون مستوى النشر جيدا من الناحية النوعية والكمية في بلدان العالم الثالث، وفضلا عن مشاكل القراءة والكتابة فان صناعة الكتاب تواجه مشاكل في العالم الثالث منها: - ان عدد المختصين والخبراء الفنيين في مجال صناعة الكتاب محدود وضئيل. - عدم وجود مراكز لإعداد وتدريب المتخصصين الفنيين والافتقار إلى الدورات التعليمية على مستوى الجامعات وبالدرجة الكافية. - تدني الأجور التي يتقاضاها المتخصصون الفنيون في حقل الكتاب إلى الحد الذي لا يشجعهم على العمل في إنتاج الكتاب. - عدم اهتمام القراء بالجوانب الفنية في الكتاب يعتبر عاملا غير مشجع للمتخصصين لبذل المزيد من الاهتمام بتلك الجوانب. - النقص في الأجهزة والمواد واللوازم الداخلة في الطباعة والنشر، وعدم كفاءة المطابع وقدمها هي أيضا من الموانع المهمة في طريق النشر. - إن مجموع العوامل الفنية يشدد من أزمة النشر في العالم الثالث أما العوامل الأخرى في أزمة النشر فتدخل في مجال النشر، التوزيع، الدعاية والتسويق ومن أهمها يمكن ذكر النقاط التالية: - لا يمتلك أصحاب دور النشر في العالم الثالث الاختصاصات والكفاءات اللازمة لعملهم في هذه الدول. - في بلدان العالم الثالث أعمال النشر والطباعة والتوزيع بشكل مفكك، كما أن أغلب الناشرين هم ليسوا ناشرين بمعنى الكلمة. - محدودية الرساميل المستثمرة في مجال النشر حيث لا توفر البنوك والمؤسسات المالية تسهيلات في ذلك المجال كما أن مؤسسات التأمين لا تقدم الضمانات اللازمة لدعم هذه الصناعة والمشتغلين فيها بشكل جاد. - إن تمويل مؤسسات النشر في العالم الثالث هو عمل غير مضمون بسبب المشاكل الاقتصادية والسياسية وانعدام الاستقرار السياسي والاستبدال المستمر للمسئولين وعدم توفر الدعم الكافي من قبل المؤسسات الحكومية والقضائية حيث لا توفر تلك المؤسسات الشجاعة الكافية لدى الناشرين لتمويل النشر بلا خوف من الإفلاس والمطاردة والتبعات الأخرى. - الدعاية للكتاب ضعيفة بحيث لا يتمكن الناس من الاطلاع بسهولة على آخر ما تصدره دور النشر. - لا توجد في العالم الثالث - كما في الدول المتقدمة - جمعيات ونوادي للكتاب تلعب دورا هاما في عمليات الترويج والترغيب والدعاية والتسويق، وحتى في حالة وجودها، فهي غير فاعلة فلا توزع الكتب في جميع أنحاء البلاد ولا تصل إلى جميع القراء وبذلك يتدني مستوى البيع بشدة. تفتقر بلدان العالم الثالث المكتبات الكبيرة الاختصاصية لبيع الكتب، كما أن توزيع محلات البيع لا يتناسب مع الكثافة السكانية ولا يتناسب مع مراكز النشاطات العلمية والثقافية. - لا توجد تسهيلات لإيصال الكتب إلى المناطق النائية. إن مجموع هذه المشاكل يجعل عمليات النشر والتوزيع والدعاية وبيع الكتب في العالم الثالث تواجه مجموعة أخرى من العقبات والمشاكل، فبالإضافة إلى العقبات والمشاكل الرئيسية تلك يمكننا أن نشير إلى مشاكل جانبية أخرى تقف بشكل أو بآخر في طريق النشر في العالم الثالث، أهمها: افتقار بلدان العالم الثالث إلى سياسة متكاملة موثقة ودقيقة ومتوازنة في مجال النشر فالسياسة الصحيحة يمكنها أن تؤدي إلى تحسين الوضع الموجود وتؤدي إلى تضافر الجهود في هذا المجال. لقد أدى الافتقار إلى مثل تلك السياسة إلى عدم العثور على نماذج مشتركة لسياسة النشر في العالم الثالث، فسياسة النشر وحسب طبيعتها ترتبط بالسياسات الأخرى: الثقافية، العلمية، الاتصالات، الأخبار، البحث، التعليم، الفن وغير ذلك. وفي حالات كثيرة يكون ارتباطها ببعض هذه السياسات وثيقا مما يجعلها تتأثر بالتغييرات التي تطرأ على تلك السياسات، وبما أن العالم الثالث وبلدانه يندر أن يتمتع بسياسات ثابتة ومستقرة شأنها شأن السياسات الأخرى التي لا تتبنى خطط وبرامج محددة، لا يمكن أن تؤدي رسالتها. إن إنتاج الكتب في العالم الثالث أقل من مستوى الطلب الداخلي، فسوق الكتاب هنا مثل بقية الأسواق يعتمد على ما ينشر في الخارج وخصوصا الدول المتقدمة،إن نظرة سريعة إلى الإحصائيات حول مشتريات دول العالم من الكتب من الخارج وخاصة بالنسبة للكتب المدرسية والجامعية والاختصاصية والمراجع تبين الثروة الهائلة التي تخرج من خزائن تلك البلدان لذلك الغرض، حيث تكشف تلك الإحصائيات مدى تبعية بلدان العالم الثالث في الوقت الذي تواجه جميع بلدان العالم الثالث مشاكل في الحصول على العملة الصعبة. إن أزمة النشر في العالم الثالث قد تكون من حيث النوعية هي نفس أزمة التنمية في دول العالم الثالث. لذا فان تلك الدول عندما تتمكن من تخليص نفسها من قيود التخلف وتنطلق في طريق التقدم والنمو فان ذلك يعني إن التغيير والتطور يشمل جميع أوجه المجتمع، وبالتأكيد فان النشر هو أحد تلك الأوجه ولكنه يمتاز عنها بأنه أكثر أهمية وذا تأثير أكثر وأعمق.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 154 مشاهدة
نشرت فى 11 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

361,861