حتمية التغيير داخل الإخوان المسلمين
د. عصام عبد الشافي
ترددت كثيرا في الكتابة عن حتمية التغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين، أو حتى الانخراط في الجدل الدائر حالياً بين عدد من قياداتها، بصورة أصبحت أقرب لصراعات الأجنحة، في وقت من المفروض أن الجميع من رافضي ومقاومي الحكم العسكري في مصر، يحشدون كل الجهود والطاقات، استعداداً لإحياء الذكري الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
سبب التردد، ليس كما يتصور البعض، الخوف من الاتهام بالتحيز لطرف دون آخر، لأن هذا لا يعنيني من قريب أو بعيد، لأن انحيازي دائما لصالح قضايا وليس لصالح جماعات أو أحزاب أو تيارات أو أشخاص، ولكن سبب التردد الرئيس هو محاولة بذل كل الجهود الممكنة لاحتواء أية صراعات أو خلافات من شأن تسليط الضوء عليها أن تتفاقم، في ظل ترقب وتحفز من جانب معسكر الثورة المضاد والانقلاب العسكري للنيل من كل القوى الثورية، وبذل كل الجهود لتفكيكها وتدميرها. وتصورت أن هذا الصمت يمكن أن يكون مقبولاً في كثير من الحالات، إذا كان هناك همُ أكبر تتراجع في مواجهته كل الهموم الأخري.
أما وقد حدث ما كنت أتوقعه من سنوات، وما حذرت منه سراً وعلناً منذ سنوات أيضاً، للدرجة التي دفعتني في وقت من الأوقات لنشر مقالة بعنوان "حل جماعة الإخوان المسلمين"، وهل هذا الحل يمكن أن يشكل خياراً محتملاً في ظل التحولات التي تشهدها ليس فقط الجماعة، ولكن المنطقة بأسرها.
وخلال العامين الماضيين أُتيحت لي الفرصة عشرات المرات للقاء العديد من المحسوبين على الجماعة عن قرب، في العديد من المناسبات العامة، وأحياناً الخاصة، وفي كل مرة تتأكد لدى فرضية التغيير، ليس باب من باب احتمالية الحدوث ولكن من باب حتمية الوقوع.
فقد كشفت هذه اللقاءات عن فجوة جيلية من الصعب أن تصمد أمامها أية شخصيات أو قيادات أو كيانات، فجوة رسختها ممارسات هذه القيادات سواء في إدارتها للمشهد السياسي قبل الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، أو بعده، فجوة رسختها هوة سحيقة بين تطلعات وتوقعات في مقابل مظلوميات وانكسارات، ففي الوقت الذي تصاعدت فيه التوقعات بين شباب الجماعة بأن الدرس الدامي الذي تعرضت له بعد الانقلاب كان كفيلاً بحدوث تغيير جذري في المرجعيات والهيكليات والقيادات والممارسات، وجدوا أن ما يعايشونه بعد الإنقلاب أسوأ من الوضع قبله.
ومن هنا أجد أن حتمية التغيير داخل جماعة الإخوان المسملين، مردها العديد من العوامل والاعتبارات، لعل في مقدمتتها:
أولاً: السنة الكونية:
فالتغيير هو أحد السنن الكونية، في التجربة البشرية، التي لم تقف خلال عشرات العقود على دين واحد أو نبي واحد أو كتاب مقدس واحد أو إمبراطورية واحدة أو كيان واحد أو تنظيم واحد أو قائد واحد، مهما كان حجم أو وزن كل هؤلاء، ومن هنا تقتضي المنطقية والعقلانية والرشادة الأخذ بأسباب التغيير وليس قمع التغيير والتصدي له والوقوف أمام دعاته وكأنهم مارقين كافرين فاسدين.
ثانياً: الظرفية التاريخية:
فما تشهده المنطقة العربية، بل والعالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، يتجاوز الجميع، دولاً وشعوباً، جماعات ومنظمات، فما بالنا بالزعامات والقيادات، أيضاً مهما كان حجمها ووزنها، دون نيل أو تقليل أو تشويه أو تحقير من أى دولة أو شعب أو جماعة أو تنظيم أو شخصية، ولكنها الظرفية التي تتطلب أيضاً الرشادة والعقلانية في التعاطي معها بدلاً من السحق تحت أقدام من يحركونها.
ثالثاً: الثورة التقنية:
فارق كبير بل هائل في الأدوات والتقنيات، لن أقول بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بل بين العام الماضي والعام الحالي، وهذه الثورة التقنية، ليست الكيانات والشخصيات على نفس القدر من القدرة على التعاطي معها وإدارتها بما يضمن حسن الاستفادة منها، ولذا يكون منطقياً أن من نشأ وتربي في إطار هذه الثورة هو الأكثر قدرة على التعاطي معها وإدارتها بما يضمن تحقيق الأهداف الكبرى منها.
رابعاً: الممارسة السياسية:
لقد كشفت السنوات الخمس الماضية منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن عن "كوارث حقيقية"، في الممارسة السياسية لجماعة الإخوان سواء في ظل مرحلة المجلس العسكري الأولي (بين 11 فبراير 2011 و30 يونيو 2012)، أو خلال العام الأول حكم رئيسنا الشرعي الدكتور محمد مرسي (30 يونيو 2012 و3 يوليو 2013) أو بعد انقلاب 3 يوليو 2013. ولم تقف هذه الكوارث عند الممارسة السياسية، بل امتدت للممارسة الإعلامية والميدانية والحقوقية، وبالمجمل الثورية للتحولات التاريخية ليس فقط للدولة المصرية ولكن للعالمين العربي والإسلامي.
خامساً: جوهر النهضة:
إن مجرد الحديث عن النهضة ووضع برنامج للنهضة، في مجمله اعتراف صريح بأن ما قبل البرنامج كان به العديد من الاختلالات، وهناك عشرات الشهادات التاريخية، من قيادات الجماعة أنفسهم، وعشرات الممارسات الفعلية التي رسختها الوقائع أن حديث النهضة لم يكن يستهدف فقط الدولة المصرية بعدما تولي الإخوان قيادتها، وإنما يستهدف بالأساس الجماعة وقيادتها، وإلا كيف لمن لا يؤمنون بفكر النهضة وجوهر التغيير أن يحققوا نهضة أو يقودوا تغييراً.
لذلك لم أقف كثيراً أمام عشرات النداءات التي طالبت الجماعة ب"العودة إلى الخلف" تارة أو التنحي جانباً تارة ثانية، أو تجنب المشهد، تارة ثالثة، أو الفصل بين مقوماتها، تارة رابعة، لأن النهضة الحقيقية تتطلب التقدم للأمام، تتطلب تولي زمام القيادة، تتطلب الإقدام والمبادرة، تتطلب التكاملية والشمولية بين الفكر والحركة، بين الدعوة والسياسة، بين الماضي والحاضر، في إطار من رؤية واضحة للمستقبل.
سادساً: الفجوات الميدانية:
لقد أكدت السنوات الخمس الماضية أن هناك فجوات ميدانية حقيقية داخل الجماعة، وبين مكوناتها المختلفة، فشبابها كانوا في مقدمة الصفوف في 25 يناير، في وقت كان التردد ما زال حاضراً بين بعض قادتها ورموزها، وشبابها كانوا في مقدمة الصفوف في محمد محمود الأولي والثانية، في وقت كان التردد بل والتخاذل أيضاً قائماً بين بعض قادتها ورموزها، وبعد الانقلاب كان الإقدام وإعلام التحدي وإبداع المقاومة حاضرا مزدهراً في نفوس كثير من شبابها، في وقت كان فكر المظلومية وفقه الصبر على المحن هو الحاكم لبعض رموزها وقياداته، لا يعني هذا تجاهل كم المظالم التي تعرضت له الجماعة وأبنائها، قيادات وغير قيادات، أو التشويه من قيمة وعظمة الصبر، ولكن كما نقول لكل حدث حديث، وحديث الثورة جوهره الإقدام والإبداع، ورد الصاع بالصاع، وصون الحقوق والحريات والكرامات، ودفع الأذي عن المقدسات، والقصاص لحقوق الشهداء والمعتقلين والمشردين في مواجهة نظام فاشي، تدعمه منظومة فاسدة داخلياً وخارجياً.
سابعاً: فجوة التوقعات:
إذا كانت الثورات الشعبية تصاحبها ثورتان، ثورة مضادة تحاول النيل منها والقضاء عليها، وثورة توقعات تفجرها الآمال والطموحات، فإن ما شهدته الجماعة خلال السنوات الخمس الماضية كشف عن فجوة كبيرة في التوقعات، فهناك ثورة حقيقية في الآمال والطموحات والرهانات بين شباب الجماعة، في مقابل هرمية وتقليدية وروتينية وتراتبية كبيرة بين الكثيرين من قادتها وشخصياتها، وكانت الغلبة ميدانياً للشباب وللقواعد الذين أصبحوا أقرب للسيوف المسلطة على رقاب الكثيرين إذا وجدوا فيهم تخاذلاً أو تقاعساً أو تراجعاً عن المسار الذي رسمه الشباب لأنفسهم، في ظل ثورة توقعاتهم من جماعتهم وتنظيمهم.
ثامناً: رهانات المستقبل:
لقد عشت طوال حياتي أراهن على المستقبل دائماً، مع تقدير كامل للماضي لأنه يشكل الأسس والجذور والأعمدة التي نرتكز عليها في حركتنا، ومع إدراك كامل للحاضر بكل مصادر قوته وضعفه، بكل فرصه وتحدياته، والرهان على المستقبل لن يكون إلا بإعداد حقيقي وتأهيل متميز للشباب، الرهان على المستقبل هو رهان على الشباب، على قدراتهم، على طموحاتهم، على إبداعاتهم، وإذا لم يُحسن شيوخ الماضي وقادة الحاضر، إعداد وتربية وتأهيل قادة المستقبل، فيقيناً سيكون الانهيار والاندثار حتمياً.
وبعد ..
قبل ثورة يناير 2011، كانت رهاناتي كبيرة على جماعة الإخوان المسلمين، لما تملكه من مصادر كبيرة للقوة، أن تقود عملية التغيير ليس فقط في مصر، ولكن في العالمين العربي والإسلامي، وتعززت هذه الرهانات بعد ثورة يناير، ولكن في قلب هذه الرهانات يبقي الرهان الأكبر، بعد توفيق الله سبحانه وتعالي، على شباب الجماعة، لأنهم روحها النابض، لأنهم مفجرو ثورتها الحقيقية، لأنهم حقاً وصدقاً، نواتها الصلبة فكرا وحركة، إدارة وتنظيماً، ساحة وميداناً. وهنا يكون النداء لهؤلاء الشباب أن يكونوا أهلا للتحدي، أهلا للرهان عليهم، أهلًا للثقة فيهم، أهلاً للمنشود منهم.
وفي مقابل الرهان على الشباب يبقي الرهان على القادة والرموز، على الكيانات والتنظيمات، أن تعي وتدرك هذه الحتمية وأبعادها، وإلا فلا يلومون إلا أنفسهم، لأن الزمان سيتجاوز جميع من يقف ضد سننه، ضد كل من لا يتسلح بجوهر التغيير الحقيقي في زمن الثورات، نعم في زمن الثورات، وضع تحت هذه الكلمة عشرات بل مئات الخطوط الحمراء.
ساحة النقاش