تأليف د. عصام عبد الشافي
في أبريل 2014، صدر كتاب بعنوان "السياسة الأمريكية والثورة المصرية"، للدكتور عصام عبد الشافي، أستاذ العلوم السياسية الزائر في عدد من الجامعات المصرية، وفي مقدمة الكتاب ذكر المؤلف أنه خلال العقد الأخير من القرن العشرين، والسنوات القليلة الماضية من القرن الحادي والعشرين، حاولت الولايات المتحدة، ممارسة الضغط على البلدان الأخرى لتتبني وتطبق القيم والإجراءات الأمريكية، فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية؛ ومنع البلدان الأخرى من الحصول على قدرات عسكرية تمكنها من مواجهة التفوق الأمريكي؛ وتطبيق القانون الأمريكي في المجتمعات الأخرى؛ وتصنيف الدول وفقاً لالتزامها بالمعايير الأمريكية بخصوص حقوق الإنسان، والمخدرات، والإرهاب، وانتشار الأسلحة النووية والصواريخ والحرية الدينية؛ وفرض عقوبات على البلدان التي لا تطبق المعايير الأمريكية بخصوص هذه المسائل، ورفع شعارات حرية التجارة والأسواق المفتوحة؛ وتوجيه سياسة البنك الدولي وصندوق النقد العالمي بحيث ترسخ هذه الشعارات؛ والتدخل في النزاعات المحلية التي لها فيها مصالح مباشرة محدودة نسبياً؛ وإكراه دول أخرى على إتباع سياسات اقتصادية وسياسات اجتماعية تخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية.
إلا أن هذه التوجهات وتلك السياسات اصطدمت بالعديد من التحديات خلال السنوات القليلة الماضية من القرن الحادي والعشرين، كان من بينها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم التورط في حربي أفغانستان (2001) والعراق (2003) ثم الأزمة الاقتصادية العالمية (2008) وأخيراً وليس آخراً التحولات السياسية التي شهدتها الدول العربية مع نهاية العام 2010 وحتى الآن والتي أطلق عليها "الربيع العربي" أو الثورات العربية".
ومع أهمية هذه التحولات بصفة عامة، تأتي خصوصية التحولات التي شهدتها مصر منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، أمام طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية، وأهمية مصر في الإستراتيجية الأمريكية، واصبح السؤال الكبير الذي يسعي هذا الكتاب للإجابة عليه هو: ما طبيعة وأبعاد السياسة الأمريكية تجاه الثورة المصرية تأثيراً وتأثراً، بين يناير 2011 وحتي يناير 2014؟
وسعياً نحو الإجابة على هذا التساؤل تم تقسيم هذا الكتاب إلى بابين رئيسيين، الأول يتناول خصوصية النظام السياسي الأمريكي، والمؤسسات الفاعلة في عملية صنع السياسة الأمريكية، والثاني يتناول تطور وأبعاد السياسة الأمريكية تجاه الثورة المصرية، وبيان جدلية الفعل والفاعل والمفعول في هذه الثورة وتحولاتها بين الثورة الشعبية والثورة المضادة والانقلاب العسكري.
أولاً: محددات الموقف الأمريكي من الثورة المصرية
ارتبط الموقف الأمريكي تجاه الثورة المصرية وخاصة في مرحلتها الأولي بالعديد من العوامل والاعتبارات، من بينها:
العامل الأول: المفاجأة:
فالإدارة الأمريكية لم تكن تتوقع هذه المظاهرات بهذا الحجم، وبهذه التداعيات، كما لم تتوقع مثل هذا الانهيار السريع للقدرات الأمنية المصرية، فى ظل معرفتها بالطابع الأمني والاستبدادي للنظام المصري، وفي ظل التعاون الدائم والمستمر بين الأجهزة الأمنية والمخابراتية المصرية ونظيرتها فى الولايات المتحدة.
العامل الثاني: التحالف الإستراتيجي:
ويتمثل فى العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة ونظام مبارك، والذى شكل تابعاً حقيقياً وليس حليفاً إستراتيجياً فى كل القضايا التي تهم الولايات المتحدة فى المنطقة، فى ضرب إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 1988)، وفي ضرب العراق بعد الغزو العراقي للكويت (19901991)، وفي حصار العراق (بين عامي 1991ـ2002)، وفيما أطلقت عليه الولايات المتحدة "الحرب الدولية على الإرهاب" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي تعرضت لها الولايات المتحدة، وفي إطارها قامت بشن حربين عسكريتين الأولي على أفغانستان (في أكتوبر 2001)، والثانية ضد العراق فى مارس 2003، وفي تنفيذ الأجندة الأمريكية فيما يتعلق بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الضغط على إيران فى الملف النووي، وغيرها الكثير.
العامل الثالث: الخوف من البديل:
عدم الثقة الأمريكية فى الأطراف البديلة التى يمكن أن تحل محل مبارك، لأنها على قناعة تامة بأنه لو أجريت انتخابات حرة ونزيهة، فلن يكون للحزب الوطني ولكل الأحزاب الرسمية القائمة الآن، الدور الفاعل، ولكنه سيكون للإخوان المسلمين.
العامل الرابع: جدوي الشعارات:
ويتمثل هذا العامل فى عدم جدية الولايات المتحدة فى تطبيق ما ترفعه من شعارات حول نشر الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، فى أية دولة أو أية منطقة فى العالم إلا بما يتفق ومصالحها، فهذه الشعارات ما هي إلا أداة من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
العامل الخامس: متغير القيادة:
فمن واقع تعاطي الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع تطورات الثورة المصرية، يمكن القول أن قرارات أوباما كان يدفعها شعور بأن هذه التحولات نتاج تراكمات سلبية عبر عدة سنوات، وأنه لا يمكن إيقافها أو إعادة الأمور فى مصر إلى الوراء، كما يعتقد أن الولايات المتحدة كراعية للديمقراطية كما يراها لا يمكن أن تكون استجابتها كغيرها من الدول، ويدرك أوباما من تجاربه أن التغيير فى البلدان النامية لا يمكن مواجهته أثناء اشتعاله بالقوة، وأنه ليس من الضرورى أن تتحول كل حركة شعبية إلى كارثة، فهناك نماذج إيجابية، تخلصت من نظم فاسدة وجاءت بنظم كان لها دور بارز فى التنمية والإصلاح.
ومن ناحية أخري، فإن خبرة أوباما الشخصية وتجربته فى الانتخابات الرئاسية التى فاز بها تتيح له فرصة متميزة للاتصال بجيل الشباب الذى يصنع الثورة المصرية، وأصبح التحدى الذي يواجهه هو كيفية استخدام خبرته الحياتية وقدرته الكبيرة على التواصل لدعم عملية التغيير، والموازنة بين التعاطف مع الثوار فى الشوارع، من ناحية وطمأنة العالم إلى أن القوة الأمريكية مستقرة فى مواجهة التحولات التي يشهدها العالم، من ناحية ثانية. وبين هذا وذاك جاء تعاطيه مع تداعيات الثورة وتحولاتها.
ثانياً: تحولات السياسة الامريكية تجاه الثورة في مصر
بعد استعراض للمواقف الأمريكية من الثورة المصرية، وفق المراحل الأربعة التي تناولها المؤلف (الأولي من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، والثانية من 12 فبراير 2011 إلي 30 يونيو 2012، والثالثة من 30 يونيو 2012 إلى 30 يونيو 2013، والرابعة من 3 يوليو 2013 إلى 25 يناير 2014) خلص المؤلف إلى عدة ملاحظات حول السياسة الأمريكية، منها:
1ـ أن الهدف الأول للولايات المتحدة هو البحث عن أدوات لممارسة النفوذ من أجل تشكيل مصر الثورة والضغط عليها، أدوات تسمح للولايات المتحدة بتشكيل حاضر مصر ومستقبلها محوراً للتحركات الأمريكية بعد الثورة المصرية.
2ـ إن الولايات المتحدة، من وجهة نظر البعض، لا يعنيها أيديولوجية النظام السياسى فى مصر بعد الثورة، ولا طبيعته، ولكن الأهم هو ألا يقاوم ذلك النظام المشروع الأمريكى ولا يتحدى المصالح الأمريكية، وهنا برز فى دوائر الحكم الأمريكية تياران: الأول، يميل لقبول نظام حكم ديمقراطى مدنى فى مصر بشرط امتلاك أدوات ضغط سياسية واقتصادية لتقويم الأداء المصرى إذا ما تعارض مع مصالح الولايات المتحدة. والثانى يفضل فى مصر نظاماً سياسياً لا ينسحب فيه العسكر من السياسة، وإنما يشتركون مع الإسلاميين فى الحكم، على غرار تركيا ما قبل انطلاقها الديمقراطى، أو حتى على غرار باكستان اليوم.
3ـ أن الإستراتيجية الأميركية فى التعامل مع الثورات العربية، قد حكمتها عدة مبادئ، أولها: مبدأ الترقب والانتظار ، وثانيها: مبدأ الفصل بين الثورات، وثالثها: مبدأ تغير الأساليب مع ثبات الأهداف الإستراتيجية.
ثالثاً: السياسة الأمريكية ومستقبل الثورة المصرية
في إطار رصده للسياسة الأمريكية ومستقبل الثورة المصرية، قام المؤلف بالتمييز بين عدة سيناريوهات:
الأول: تحفيز الصراع:
إن سيناريو إثارة الصراع مع النظام الجديد في مصر بعد الثورة ، قابل للتحقيق في حالة توفر عدة شروط منها:
1ـ قيام إسرائيل كطرف فاعل في المنطقة بممارسة دورها في الضغط على السياسة الغربية، وتوجيهها بما يتفق ومصالحها، والتي تتعارض في كثير من الحالات مع المصالح المصرية.
2ـ تبني مصر بعد الثورة سياسة خارجية تتعارض مع توجهات ومصالح الولايات المتحدة الغربية، وخاصة في القضايا ذات الاهتمام الغربي الرئيسي في المنطقة.
3ـ نزوع مصر بعد الثورة لتبني دور إقليمي نشط، يتعارض والتوجهات الأمريكية، التي لا تريد أن تبرز قوى تنافسها السيادة والهيمنة على مقدرات القوى والثروة والنفوذ في المناطق ذات الأهمية المحورية في السياسة الأمريكية.
4ـ الضغوط التي ستمارسها بعض القوي الإقليمية، على الولايات المتحدة الأمريكية، لتحجيم نفوذ مصر، واحتواء ثورتها، وتقييد حرية حركتها، في ظل المواقف الواضحة المضادة للثورة المصرية، وما حققته من نجاحات، وفي مقدمة هذه القوى المملكة العربية السعودية.
السيناريو الثاني: تحفيز التعاون:
يري المؤلف أن سيناريو تحفيز التعاون مع النظام المصري بعد الثورة، قابل للتحقيق في حالة توفر عدة شروط منها:
1ـ وجود الولايات المتحدة كطرف فاعل في مشروعات التعاون التي تتبناها أو تعلن عن تبنيها، سواء فنياً أو اقتصادياً أو إستراتيجياً، أو إشرافياً، وفتح المجال في هذه المشروعات أمام القوى الإقليمية، للدخول فيها مستقبلاً.
2ـ وصول بعض النخب أو التيارات السياسية، ذات الارتباط بالتوجهات والقيم الأمريكية إلى قمة النظام السياسي في مصر، وسعي الولايات المتحدة لدعمها، داخلياً وخارجياً.
3ـ وجود بعض الملفات الأكثر إلحاحا لدى الولايات المتحدة، والتي تسعي لقيام مصر بدور مهم فيها، فتتراجع في ضغوطها في ملفات أخرى أقل أهمية لصالح هذه الملفات، ولو بشكل جزئي أو مؤقت.
السيناريو الثالث: تجميد الوضع:
سيناريو تجميد الوضع الراهن، قابل للتحقيق حال توفر عدة شروط منها:
1ـ التحكم ببعض أوراق المساومة فى مواجهة كل الأطراف، وتحريكها في الوقت المناسب بما يتفق وتطورات الأوضاع في المنطقة، التي تمر بمرحلة حاسمة، قد تقود لتحولات ضخمة، تعجز الولايات المتحدة عن إدارتها بما يتفق ومصالحها.
2ـ الرغبة في تجاوز مرحلة الثورات الشعبية التي تجتاح المنطقة العربية، والتي يمكن أن تنال من كل النظم السياسية، المعروفة بولائها وتبعيتها للسياسة الأمريكية، ويدفع بالإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في كل توجهاتها وسياساتها الخارجية.
5ـ استهلاك الوقت في قضايا هامشية، وفرعية، حتى تكتمل بعض الملفات التي تتبناها الولايات المتحدة في المنطقة.
ومن خلال التمييز بين هذه السيناريوهات، تأني أهمية التأكيد على أن الولايات المتحدة، لا تتبني سيناريوهات أحادية، أو بدائل محددة، ولكنها تجمع بين العديد من السيناريوهات والبدائل، الجاهزة والقابلة للتنفيذ والتعديل وفقاً لمصالحها وأولويات اهتماماتها، ووفقاً لتحولات الأوضاع في المناطق محل الاهتمام، وفي القضايا ذات المحورية الرئيسية لها.
ساحة النقاش