الثورة المكبوتة: عوائق التغيير الشامل في السعودية وسوريا
د. عصام عبد الشافي
شهدت المنطقة العربية في الشهور الأولي من عام 2011، عدداً من الثورات والانتفاضات والحركات الاجتماعية، التي تراوحت بين السلمية والعنيفة، سواء من جانب القائمين بها أو الداعين إليها، من ناحية، أو من جانب ردود الفعل الحكومية الرسمية من جانب النظم السياسية القائمة، من ناحية ثانية، ورغم تعدد الدعوات للتغيير والإصلاح في معظم ـ إن لم يكن كل الدول العربية ـ خلال الفترة محل التحليل، فإن هناك حالات لنظم عربية، يمكن وصفها بالكامنة، وهي تلك النظم التي تحمل في عواملها الهيكلية دواعي ومتطلبات التغيير، إلا أن آليات هذا التغيير، ومظاهره ما زالت كامنة، وغير واضحة المعالم، وغير محددة الأبعاد والخطوات. وإذا كانت "فلسفة اللا منطق"، هى التي حكمت الثورات والحركات الشعبية العربية فى هذه المرحلة، حيث لم تسقط النظم التى كان يتوقع الجميع سقوطها، منطقياً، وسقطت النظم غير المتوقعة، كما حدث في تونس ثم مصر، وربما تليهما ليبيا، فإن هذه الفلسفة لم تثبت فعاليتها في نظم مثل المملكة العربية السعودية وسوريا.
الأمر الذي يتطلب الوقوف على العوامل الهيكلية التي تحكم عملية التغيير السياسي في الدولتين، والنماذج المعروضة للتغيير في الحالتين، وكيفية التعامل مع مطالب التغيير المطروحة في كل منهما، والسيناريوهات المحتملة لمستقبل النظام السياسي في الدولتين، وذلك على النحو التالي:
أولا: العوامل الهيكلية التي تحكم عملية التغيير السياسي:
ترتبط هذه العوامل بطبيعة النظام السياسي ومقوماته الأساسية وما يقوم عليه من أركان، وما يحكمه من محددات من شأنها التأثير على عملية التغيير السياسي في الدولة، ويمكن تناول هذه العوامل في كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السعودية على النحو التالي:
1ـ المملكة العربية السعودية:
ترتبط العوامل الهيكلية في النظام السعودي، بعدة اعتبارات، في مقدمتها قضية الخلافة السياسية، وقضية التوجه السياسي وما يرتبط بها من دور رجال الدين، والموقف من قضايا الإصلاح، والتهديدات الداخلية والخارجية:
فيما يتعلق بقضية الخلافة السياسية، شهدت الساحة الداخلية السعودية حراكاً كبيراً، خلال الفترة الأخيرة، وخاصة بعد تدهور الحالة الصحية للملك عبد الله، وتعيين الأمير متعب، الابن الثالث لعبد الله، رئيساً للحرس الوطني وعضواً في مجلس الوزراء، وعودة الأمير بندر بن سلطان، بعد أشهر من الغياب القسري. والحديث عن وجود تصور لدى الملك عبد الله يقوم على تعيين خالد الفيصل نائباً ثانياً لرئيس الوزراء، بدلاً من الأمير نايف، مما يؤهله ليكون ولي العهد المقبل، وخالد بن سلطان وزيراً للدفاع، ومحمد بن نايف وزيراً للداخلية، وتركي الفيصل وزيراً للخارجية، وبندر بن سلطان رئيساً للاستخبارات.
إن السعودية وإن كانت مملكة، فإنها سياسياً أربع ممالك يقود الملك عبد الله واحدة منها فيما يقود الثلاث الأخريات السديريّون الثلاثة: نايف وسلطان وسلمان، وهذه الممالك الأخيرة، وإن كانت في صراع في ما بينها، لكنها متحالفة في وجه الملك عبد الله. فضلاً عن أن العائلة المالكة يعصف بها نوعان من الصراعات: الأول صراع أجيال بين أبناء الملك الراحل عبد العزيز آل سعود وبين أحفاده، والثاني صراع على النهج السياسي، بين تيار إصلاحي معتدل ومنفتح يقوده عبد الله، وآخر محافظ متشدد يقوده نايف وثالث مرتبط بأجهزة الاستخبارات الأميركية يتزعمه سلطان، أما أمير الرياض الأمير سلمان، ففي الوقت الذي يبدو كأنه صديق المثقفين، فإنه على صلة قوية بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وله دور مؤثر في قرار هيئة البيعة، ويحظى بتأييد العائلات الثرية وذات النفوذ التي استوطنت الرياض خلال السنوات الثلاثين الماضية.
ويشعر الأمير نايف أن ثمة مؤامرة تحاك ضده لمنعه من الوصول إلى العرش، ولذلك سيعمل كل ما يمكنه من أجل تمهيد الطريق للعرش، وقد كشفت وثائق ويكيليكس أن الأمير نايف، وابنه الأمير محمد، المرشّح لتولي وزارة الداخلية، على استعداد لتسليم الأمريكيين مهمة إدارة الأمن في البلاد، وليس المنشئات الحيوية والنفطية فحسب، لتحقيق هذا الهدف.
أما عن التوجه السياسي، فيرتبط بالمؤسسة الدينية الوهابية، ويرفض المسؤولون التسليم بأن المذهب الوهابي، يقدم تبريراً دينياً للإرهاب، وذلك بسبب ما يدعو إليه من نبذ غير المسلمين. ورغم قيام الحكومة بإيقاف المئات من رجال الدين من التدريس، وتبني بعض الخطوات "لإعادة تأهيل" الإسلاميين المتطرفين، فإن التغيير المطلوب لهزيمة الفكر المتطرف، لم يبدأ بشكل كامل، كما أن رجال الدين المحافظين لا يزالون مؤثرين. حيث يسيطرون على التعليم والمنابر ووسائل الإعلام.
وبالنسبة لدور العوامل الخارجية، نجد أنه في الحالة السعودية، لا تملك الولايات المتحدة وأوربا خيار المساعدات الاقتصادية أو العسكرية، التي يمكن جعلها مشروطة بتطبيق إجراءات إصلاحية في المملكة، فالعكس هو الصحيح، حيث يعتمد الاقتصاد الغربي بدرجة كبيرة على النفط السعودي، وتعتبر المملكة الموازن الإستراتيجي في حالة الأزمات النفطية، ولذلك فدور العامل الخارجي من أجل الإصلاح في المملكة ذا تأثير محدود. بل لقد لجأت العائلة السعودية إلى أساليب التخويف، للغرب، بدعوى أن تحقيق إصلاحات سريعة غير مُراقَبَة سَتُضْعِفُ سلطتها وتؤدي إلى تولّي الجهاديين للسلطة.
وأمام هذا يبرز تأثير تهديد عامل، مثل القاعدة، والتي بما لديها من أيديولوجيات وإعجاب شديد من قبل الشباب الساخطين والمغتربين، لا تزال مكرسة لإطاحة نظام الحكم في السعودية، والتي تعتبره غير شرعي. وتحتفظ بالقدرة على شن هجوم حتى على الأمراء في منازلهم، ولا تزال مصدراً رئيسياً من مصادر التهديد لمكوّنات البنية التحتية الضعيفة في الاقتصاد السعودي، مثل المنشآت النفطية، حيث أن هجوماً ناجحاً موجّهاً توجيهاً جيداً يمكن أن يكون لها تأثير اقتصادي عالمي.
وشكَّل تهديد القاعدة، والخوف من انتشار التطرف والحاجة للحفاظ على المؤسسة الدينية المحافظة في المملكة، مفسراً لإجراءات الإصلاح السياسي والاجتماعي التى تبناها الملك عبد الله، إلا أن هناك من يري أن هذه الإجراءات مرتبطة بشخصية الملك عبدالله ، وبالتالي هناك شك في فرص استمرار التحول السياسي في المملكة إذا ما تغيرت الظروف، وتولي الحكم ملك جديد.
2ـ الجمهورية العربية السورية:
يقوم النظام السياسي السوري على الدستور الذى وضع عام 1973، حيث تنص المادة الثانية منه على أن "السيادة للشعب"، في حين تنص المادة الثامنة على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية". وتضم الجبهة الوطنية التقدمية (الائتلاف الحاكم) عشرة أحزاب تشارك في انتخابات مجلس الشعب، ومشاركتها في مسؤوليات الحكم محدودة، وليس لها الحق في تداول السلطة. وتتبع أحزاب الجبهة الوطنية قوانين حزب البعث العربي الاشتراكي، كقانون أمن حزب البعث رقم 53 لعام 1979. وبجانب الجبهة تأسست عدة أحزاب معارضة أبرزها التجمع الوطني الديمقراطي، وتمارس أحزاب المعارضة عملها دون أن يكون لها أي وضع قانوني، ولا تشارك في التمثيل البرلماني.
وفي أواخر عام 2005 أطلقت قوى المعارضة نداء "للتغيير الديمقراطي" عبر إعلان دمشق، وطالبت الحكومة بإصدار قانون يسمح بإنشاء أحزاب أخرى غير البعث وحلفائه. كما طالبت بإلغاء حالة الطوارئ المعمول بها منذ 8 مارس 1963 وهو تاريخ الانقلاب الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية والعسكرية، إضافة إلى إلغاء القانون 49 لعام 1980 الذي يعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين طبقا للمادة الأولى منه.
وترسيخا لهيمنة الحزب الحاكم، رصدت منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقاريرها وجود عشرات المعارضين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان فى السجون السورية، بسبب مطالبتهم بإنهاء حالة الطوارئ وإلغاء القوانين العسكرية وزيادة التعددية السياسية، كما تعانى الأقلية الكردية، التى تمثل 10% من إجمالى عدد السكان من إهمال سياسى واقتصادى واجتماعى واضح، لأنهم يمثلون المجتمع العرقى غير العربى الأكثر تلاحمًا، كما أن الأقلية الكردية هى الأقلية الوحيدة التى تستطيع تشكيل تهديد للمشروع البعثى, وخلال السنوات الأخيرة، حوكم بعض زعماء حزب الاتحاد الديمقراطى المحظور، بتهمة التحريض على الحرب الأهلية والصراع الطائفى.
وإلى جانب النظام البيروقراطى الهش الذى يشبه نسيج العنكبوت، تعانى البلاد من فساد مزمن، وأدرجت مؤسسة الشفافية الدولية، سوريا بين أكبر الدول فسادًا فى العالم، فالثروة التى جنتها البلاد خلال الأعوام الأخيرة لم يتم توزيعها توزيعًا منصفًا، والدليل على ذلك هو أن 30% من الشعب السورى هم أقارب وعشيرة المسئولين والذين يمثلون بدورهم النواة الصلبة للنظام.
وفى هذا الإطار يمكن رصد عدة عوامل رئيسة تحكم عملية التغيير في النظام السياسي السوري، من أهمها:
العامل الأول: تركيبة النظام: يقدم النظام السوري تركيبة معقدة لتشابك المصالح الطائفية والحزبية والبيروقراطية ورجال الأعمال والأقليات المتخوفة من فكرة التغيير، بجانب فئة المنتفعين من النظام، أو من بعض الشباب الذي نشأ في ظله، ولازال تحت تأثير دعاية أجهزته وخطابه. إن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية لمؤيدي النظام هم من الخلفيات الريفية والمدنية الحديثة، وكثير منهم من أبناء الأقليات، وبشكل خاص من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس السوري.
ومن هنا فإن أن الرئيس وبعض المتنفذين القريبين منه هم أكبر المستفيدين من استمرار الوضع الراهن، وهنا يمكن التمييز بين دائرتين، الدائرة الأولى، وهم أهل الثقة، وتشمل أقارب الرئيس من أصحاب المواقع الحساسة، والمتنفذون، وعلى رأسهم أخيه ماهر، رئيس الفرقة المكلفة بالحرس الجمهوري، وشقيقته بشرى، وزوجها اللواء آصف شوكت الذي يحتل منصب نائب رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة وبعض رؤساء الأجهزة الأمنية، والمسؤولين الأمنيين في القوات المسلحة من المنتمين لطائفة الرئيس، ويتمتعون بثقته. وكذلك ابن خال الرئيس ورجل الأعمال، رامي مخلوف، الذي يدير أموال العائلة الحاكمة، ويحتكر كثيراً من القطاعات الحيوية في القطاع الخاص والمخصخص.
أما الدائرة الثانية، فتضم بعض المسؤولين ممن هم في قمة هرم الدولة، كنائب الرئيس، والنائب الأول لرئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، وأغلب الوزراء، ورئيس مجلس الشعب، وبعض المسؤولين الحزبيين.
هذا بجانب تحول القطاع العام إلى بؤرة كبيرة للفساد، وإلى أحد العناصر المعيقة للإصلاح الاقتصادي، حيث يستنزف هذا القطاع جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة، كما تستنزف ميزانية الدفاع، بقسيمها المتعلق بالجيش، والأجهزة الأمنية جزءاً أكبر من ميزانية الدولة، الأمر الذي يجعل بعضاً من العاملين في هذه الأجهزة ضمن الدائرة الثانية الداعمة للنظام.
العامل الثاني: العامل الأمني: العمود الفقري في استمرار النظام هو الأجهزة الأمنية، واستعدادها لتوظيف القمع كأداة فعالة للتخلص من معارضيه وخصومه. وقد تمددت الأجهزة الأمنية في سوريا بفعل العقلية العسكرية/الأمنية التي سيطرت على النظام، بحكم خلفية قادة النظام الذين جاؤوا من المؤسسة العسكرية.
وحسب بعض المصادر فإن نسبة العاملين في الأجهزة الأمنية قياساً للسكان هي من أعلى النسب عالمياً، إذ يوجد عنصر مخابرات لكل 158 مواطن، عدا عن المتعاونين، وكتبة التقارير من الحزبيين وغيرهم. وخلال العقد الأخير قامت الأجهزة القمعية باعتقال رموز وقادة الحراك السياسي، كما قامت بإغلاق كافة المنتديات الحوارية، واللجوء إلى أساليب الترهيب، والتضييق، والمنع من السفر بحق كافة النشطاء من كافة الاتجاهات.
العامل الثالث: العامل الدولي: مع نهاية عام 2006، بدأ النظام السوري في الخروج من عزلته، نتيجة عدة عوامل، الأول، فشل المشروع الأميركي في العراق، وملأ الفراغ السياسي من قبل القوى الشيعية المؤيدة لإيران، حليفة النظام السوري. وفشل الحرب الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة في عامي 2006 و2009، الأمر الذي زاد من ثقة النظام في نفسه. ونجاح حلفاء النظام السوري، خاصة حزب الله، في توظيف سلاحه لفرض إرادته على خصومه، وفتح الباب للنفوذ السوري للعودة إلى لبنان. وكذلك الانفتاح السوري على تركيا، وقيام تركيا بوساطة بين سوريا وإسرائيل لإعادة المفاوضات غير المباشرة حول هضبة الجولان.
إلا أنه إذا كان استرجاع هضبة الجولان يزيد من شرعية النظام، فإنه في المقابل، ومن وجهة نظر البعض، يسحب من النظام مبررات الإبقاء على أجهزة الأمن القومي، وقوانين الطوارئ، وأجهزة المخابرات، وسيجد النظام نفسه أمام استحقاقات كبيرة، غير جاهز للتعاطي معها بفاعلية وشفافية في المرحلة الراهنة.
ثانيا: نموذج التغيير ومطالبه في الحالتين السعودية والسورية:
استنادا للاعتبارات السابقة، تفاوتت مطالب التغيير وكيفية الاستجابة له في الحالتين السعودية والسورية:
1ـ الحالة السعودية:
رفعت حركة "الشعب يريد إصلاح النظام"، الإلكترونية السعودية عدة مطالب أساسية، هي: ملكية دستورية تفصل بين الملك والحكم، ودستور مكتوب مقر من الشعب يقرر فصل السلطات، والشفافية ومحاسبة الفساد، حكومة في خدمة الشعب، انتخابات تشريعية، وحريات عامة واحترام حقوق الإنسان، مؤسسات مجتمع مدني فاعلة، مواطنة كاملة وإلغاء كافة أشكال التمييز، إقرار حقوق المرأة وعدم التمييز ضدها، وقضاء مستقل ونزيه، وتنمية متوازية وتوزيع عادل للثروة، ومعالجة جادة لمشكلة البطالة.
وفي الثالث والعشرين من فبراير 2011، وجه عدد من المثقفين بياناً بعنوان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات"، تضمن عدة مطالب منها: أن يكون مجلس الشورى منتخباً بكامل أعضائه، وأن تكون له الصلاحية الكاملة في سنّ الأنظمة والرقابة على الجهات التنفيذية بما في ذلك الرقابة على المال العام وأداء الوزارات، وله حق مساءلة رئيس الوزراء ووزرائه، وفصل رئاسة الوزراء عن الملك، على أن يحظى رئيس مجلس الوزراء ووزارته بثقة مجلس الشورى، ومحاربةُ الفساد المالي والإداري، ومنع استغلال النفوذ أياً كان مصدره ومقاومة الإثراء غير المشروع وتفعيلُ هيئة مكافحة الفساد لتقوم بواجبها في الكشف عن الفساد ومساءلةُ من يقع منه ذلك وإحالته إلى القضاء.
وكذلك الإسراع بحلّ مشكلات الشباب والأسر ذات الدخل المحدود ووضع الحلول الجذرية للقضاء على البطالة والتضخم وإلغاء المحسوبيات والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص وتوفير المساكن وحل مشكلة الأراضي البيضاء وارتفاع غلاء المعيشة لتتحقق لهم بذلك الحياة الكريمة، وتشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وإزالة كافة العوائق التنظيمية التي تحول دون قيامها، والإفراج عن مساجين الرأي وعن كل من انتهت محكوميته أو لم يصدر بحقه حكم قضائي دون تأخير، وتفعيل "الأنظمة العدلية" بما فيها "نظام الإجراءات الجزائية" والتزام الأجهزة الأمنية و"المباحث العامة" بتلك الأنظمة في الإيقاف والتحقيق والسجن والمحاكمة وتمكين السجناء من اختيار محامين للدفاع عنهم وتيسير الاتصال بهم ومحاكمتهم محاكمة علنية حسب ما نصت عليه تلك الأنظمة.
وكذلك العمل على إصلاح القضاء وتطويره ومنحه الاستقلالية التامة، وزيادة عدد القضاة بما يتناسب مع ارتفاع عدد السكان وما يترتب على ذلك من كثرة القضايا، وإطلاق حرية التعبير المسئولة وفتح باب المشاركة العامة وإبداء الرأي، وتعديل أنظمة المطبوعات ولوائح النشر.
وفي الأول من مارس 2011، رفع نحو أكثر من 70 داعية وأكاديمي سعودي، خطابا إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز يتضمن بعض المطالب الإصلاحية، كتخليص المجتمع من المسؤولين الانتهازيين والفاسدين، وإيقاف مسلسل هدر المال العام وإخضاع العقود والصفقات الحكومية لديوان المراقبة أو غيره من جهات الاختصاص. ورفع الظلم عن المظلومين وإطلاق جميع الموقوفين، الذين لم يثبت في حقهم جُرم جنائي أو إخلال بالأمن، ورد الاعتبار لهم ولأسرهم، والقيام بإجراءات عاجلة للتخفيف من آثار البطالة في أوساط الشباب".
وكذلك "توفير الدعم الكافي للأفراد والعائلات الذين يعيشون تحت خط الفقر، وإلزام الجهات الأمنية وبالذات جهاز المباحث بنظام الإجراءات الجزائية". و"فتح أبواب الإعلام المقروء والمسموع والمرئي لأهل الخير والعقل والصلاح من أبناء هذا البلد بالضوابط الشرعية، ورفع وصاية الليبراليين على المؤسسات الإعلامية ومنافذ التعبير". وأيضاً: "التعامل مع الطوائف المخالفة"، وفق خطة مدروسة تحقق لهم المواطنة العادلة والحقوق التي كفلها الإسلام لمثلهم، وإيقافهم عن التجاوز الذي يشكل خطراً على دين البلاد ونظامها الإسلامي وأمنها".
وفي مواجهة هذه المطالب تعددت الإجراءات التي تبنتها الحكومة السعودية، وتوزعت بين، إجراءات سياسية ودينية واقتصادية وأمنية، سياسياً، أكد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أن الحوار هو أفضل سبيل للتغيير في المملكة. وقال إن الاحتجاجات لن تحقق الإصلاح. وحذر الفيصل من أن أي تدخل أجنبي في شئون المملكة سيواجه بشدة. وقال "سنقطع أي إصبع تأتي إلي المملكة".
ودينياً، تعددت البيانات والفتاوى الصادرة عن المؤسسة الدينية ورجال الدين في المملكة، حول الموقف من المظاهرات، وفي هذا السياق شن مفتي عام المملكة هجوما على مثيري المظاهرات والمسيرات، واصفاً إياها بـ"المخططة والمدبرة" لتفكيك الدول العربية الإسلامية، وتحويلها من دول كبرى قوية إلى دول صغيرة "متخلفة". وقال: إن الغاية من تلك الإثارة بعيدة المدى لضرب الأمة في صميمها، وتشتيت شملها واقتصادها وتحويلها من دول كبيرة قوية إلى دول صغيرة "متخلفة" على حسب ما خطط لها أعداء الإسلام".
واقتصادياً، وافق مجلس الوزراء السعودي في (7/3/2011)، برئاسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز على مقترح من وزير المالية برفع نسبة الإعانة الزراعية من 25% إلى 70%، كما تم دعم صندوق التنمية العقارية بأربعين مليار ريال، وتحديد حد أدنى للأجور في القطاع الخاص قيمته 4 آلاف ريال، وتثبيت بدل غلاء في صورة زيادة قدرها 15% على رواتب موظفي الدولة، واستحداث 1200 وظيفة لدعم البرامج الرقابية، ودعم ميزانية الأسر المحتاجة في الجامعة، والإعفاء عن عدد كبير من سجناء الديون.
وكذلك وزيادة دعم الأندية الرياضية، ومنح عشرة ملايين ريال لكل جمعية مهنية، وإعانة مالية للباحثين عن العمل لعام واحد، وتخصيص عشرة ملايين ريال لكل ناد أدبي، وتقليص الاعتماد على العمالة الوافدة لتوفير فرص وظائف جديدة في القطاع الخاص للمواطنين برواتب مناسبة، ومنح عشرة ملايين ريال لكل جمعية مهنية، وإعانة مالية للباحثين عن العمل لعام واحد، وتخصيص عشرة ملايين ريال لكل ناد أدبي، ودعم أسعار المواد الغذائية الأساسية، وإعفاءً للقروض التي توفي أصحابها.
وأمنياً، أكد المتحدث الأمني باسم وزارة الداخلية السعودية (5 مارس 2011)، أن قوات الأمن مخولة نظامًا باتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن كل من يحاول الإخلال بالنظام بأي صورة كانت، وتطبيق الأنظمة بحقه. وأكد على منع المظاهرات والمسيرات والدعوة لها لتعارضها مع الشريعة الإسلامية.
كما قامت السلطات باحتجاز العشرات لمشاركتهم في مظاهرات الجمعة 11 مارس، كما فرضت حظرا للتجول في الوسط التجاري في مدينة الهفوف شرق المملكة، كما شهدت شوارع الرياض وجودا أمنيا مكثفا، وفي الشرق انتشرت عربات مدرعة وحافلات لنقل الجنود بكثافة في مدينة القطيف، وحلقت طائرات مروحية في سماء المنطقة.
2ـ الحالة السورية ومطالب الإصلاح:
في الحالة السورية، هناك طريقان للتغيير، الأول، إصلاحي يأخذ رأس النظام المبادرة فيه، ويقود عملية تغيير تدريجي تنتهي بنظام ديمقراطي، والثاني، طريق الثورة الشعبية، وهناك مؤشرات متناقضة حول استيعاب النظام السوري لخطورة المرحلة، فالرئيس السوري كان من أوائل من تحدث عن "تفهمه" للضغوط الشعبية، وضرورة تقديم تغييرات سريعة، لكن عند الحديث عن نوعية الإصلاحات التي وعد بها، بدا أنها من نوع التغييرات الشكلية التي لا تمس جوهر النظام أو الممارسة السياسية في سوريا.
كما قام النظام بمحاكمة المدونة "طل الملوحي"، والحكم عليها بالسجن، بتهمة التخابر لصالح وكالة الاستخبارات الأميركية، كما تم الاعتداء على بعض الشباب والشابات الذين قاموا بإشعال الشموع تضامناً مع الثورة المصرية، وقامت أجهزة الأمن باعتقال عدد من الناشطين السياسيين.
وسعياً نحو التهدئة أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوماً يقضى بمنح عفو عام عن الجرائم المرتكبة في سورية قبل تاريخ السابع من مارس 2011، ويعفو المرسوم عن كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي المنصوص عليها في المادة 100 من قانون العقوبات العسكري، كما يعفو عن كامل العقوبة المؤقتة للمحكوم الذي أتم السبعين من العمر بتاريخ صدور المرسوم، وعن كامل العقوبة المؤقتة أو عن العقوبة المؤبدة للمحكوم المصاب بتاريخ صدور هذا المرسوم التشريعي بمرض عضال غير قابل للشفاء.
ثالثا: السعودية وسوريا وما بعد مطالب التغيير:
لقد ظلت المصادر التقليدية للاستقرار في المملكة هي الأسرة المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية واللتان ترتبطان ببعضهما بصورة وثيقة، وبرغم ذلك فإن المحكومين في المملكة ينظرون بصورة متزايدة للعائلة المالكة على أنها مسرفة وفاسدة وغير قادرة على الحكم بكفاءة، برغم تطبيق المؤسسة الدينية لنهج من الإسلام يتسم بصرامته إلا أنه ينظر إليها بصورة متزايدة على أنها تتاجر بنفسها باستخدامها للدين لتأييد كل ما تريده العائلة المالكة.
وعلى مدى عقود طويلة ظلت العائلة المالكة، تتخلل كل مناحي الحياة في المملكة، فمعظم الأعمال التجارية والسياسية في المملكة، تخضع لرئاسة فعلية أو صورية من قبل أحد الأمراء، والعائلة المالكة التي كانت موحدة نسبيا عند اتخاذ القرارات من قبل حفنة من الأمراء الأكبر سنا أصبحت الآن كبيرة الحجم لدرجة بعيدة ومنقسمة، وأصبحت بعض عناصرها تسعى لتحقيق أجندة متضاربة، ومما يفاقم المشكلة أن الأمراء الذين يحكمون المملكة معمرون ويعانون من مشاكل صحية ومنفصلون عن الواقع.
ومع تطورات الوضع في مصر أقر بعض الأمراء الشباب بضرورة الحد من الفساد وتقديم خدمات أفضل للمواطنين وإجراء إصلاحات في البيروقراطية الحكومية التي تعاني خللا وظيفيا في كل القطاعات. وفي المقابل فإن هناك نسبة واسعة من المواطنين العاديين يخشون أن تؤدي الأوضاع الراهنة إلى انقسامات قبلية، مقترنة بانعدام المنظمات الاجتماعية والسياسية إلى الفوضى أو إلى مزيد من الهيمنة من قبل المؤسسة الدينية المحافظة المنظمة بشكل جيد من خلال أنشطتها الواسعة في المملكة.
وبين هذا وذاك نجد أن التغيير الثورى أو الجذري، وفقا للمنطق السياسي، صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، يدعم ذلك عدم وجود ـ أو ضعف ـ المعارضة الفعلية المنظمة، ووجود معظمها في الخارج، مما يفقدها الكثير من مصداقيتها، وكذلك الاستخدام المكثف للورقة الاقتصادية في إسكات الأصوات المعارضة أو المنددة بالفساد، وأيضاً غياب التأثير الفاعل للعامل الخارجي، أمام الاستخدام السعودي لورقة النفط.
أما في الحالة السورية، فالأمور تبدو متشابهة، من حيث هيمنة الأجهزة الأمنية، وتركيبة النظام السياسي، الذي تسيطر عناصره الأساسية على كل مفاصل النظام، كما يتشابهان في غياب المعارضة القوية والفاعلة، ولكنهما يختلفان في تأثير العامل الخارجي، والذي يمكن أن يكون محل ضغط وعنصر حسم في الحالة السورية، خلافاً للحالة السعودية.
وفي ظل هذه الاعتبارات، تبقي الرهان على حدوث حالة من اللامنطق السياسي، كما حدث في تونس ومصر وليبيا، وفي هذه الحالة، ستفقد كل العوامل والاعتبارات السابقة، والمعوقة للتغيير في الدولتين قيمتها، وسنجد أنفسنا أمام وضع جديد، ونظم سياسية، تختلف جذرياً عما هو قائم.
منشور بمجلة السياسة الدولية، عدد 185، أبريل 2011، رابط الملخص:
http://www.siyassa.org.eg/asiyassa/ahram/2011/4/1/MALF10.HTM
ساحة النقاش