د. عصام عبد الشافي
بالرغم من أن الدين لم يلعب دورًا هامًا فى التوجهات التى سادت دراسة العلاقات الدولية فى الفترة منذ الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، إلا أن مراجعة الكتابات الغربية فى المرحلة التالية توضح أن هناك تزايداً فى الاهتمام بدراسة دور الدين فى تحليل العلاقات الدولية، بل لقد جعل البعض من الدين أحد مصادر الإبداع النظرى فى العلاقات الدولية، والتى يمكن أن تساعد على بلورة نظرية لاختبار فروض معينة فى الواقع.
وقد ارتبط تحليل البعد الدينى فى مرحلة من مراحل تطور العلاقات الدولية، بدراسة وتحليل القيم، حيث أشار عدد من الباحثين والمحللين إلى أن فكرة القيم فى العلاقات الدولية فى الأدبيات الغربية تتنازعها مدرستان:
الأولى: ترى أنه من العبث التمسك بقيم فى عالم السياسة الدولية الذى لا يعرف إلا المصلحة، وأن تمسك دولة بالأخلاق يعنى استسلامها فى موقف ما للطرف الآخر الذى لن يتبع نفس قواعد السلوك، وفى هذا الإطار يري غيوم، أن مورجنثو، رائد الواقعية في العلاقات الدولية، يعتقد أن الأخلاق ضرورية فى العلاقات الدولية ولكنه يناهض المبرر الأخلاقى للسياسة الدولية، وهو ما يسميه بـ"أيديولوجية الأخلاق" أى أن المبادئ الأخلاقية تخفى وراءها المصالح الخاصة، كما يدين "ّالإطلاقية الأخلاقية Absolutism Morale" ويسميها "بالنزعة العاطفية Sentimentalism" لأنها تغطى طبيعة السياسى وتركز فقط على القيمة الأخلاقية على حساب القيم الأخرى. ويرى أنه يمكن عن طريق توازن القوى، تحقيق النظام والاستقرار للجميع، وإيجاد حالة تخلو من صراعات مسلحة، أى أن الأمر يتطلب أخلاقية المسؤولية و"المصلحة العليا للدولة". وعلى القادة أن يكونوا أخياراً إذا أمكن وأشراراً إذا استدعت الضرورة ذلك.
الثانية: وترى أن الحديث عن القيم لا يعنى تجاهل الواقع، بل ترشيده حتى لا ينغمس العاملون فى المجال السياسى فى الحسابات البراجماتية الوقتية متجاهلين السؤال الملح عند وضع السياسة الخارجية: من نحن؟ ماذا نريد أن تكون؟ وينتمى إلى هذه المدرسة عدد من الباحثين الغربيين الذين يوضحون أهمية دور القيم فى التفاعلات الدولية، من بينهم : ستانلى هوفمان Stanley Hoffmann وجوزيف ناى (Joseph S. Nye) وأرثر شلزنجر (Arthur M. Schlesinger)، وارنست هاس Ernest Haas.
ومن هذين التيارين، نجد أنه نظرًا للاختلافات الفكرية بين الباحثين المؤيدين لأهمية دور الدين (بأبعاده المختلفة ومنها القيم) فى العلاقات الدولية، فليس هناك تعريف مشترك لما هو أخلاقى كإطار عام للتحرك الدولي، أو حدًا أدنى من الاتفاق حول ماهية القيم التى يمكن أن تحكم العلاقات الدولية، كما أنه مع اعتراف البعض بأهمية القيم فى السياسة الخارجية، إلا أنهم يؤكدون أنه لا توجد مبادئ مجردة وعالمية (إلا فى بعض الحالات الاستثنائية) تحكم السياسة الخارجية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يثير البعد الدينى فى العلاقات الدولية قضية العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق الجماعية الدولية، وإمكانية قياس كل منها، وإثارة مشكلة القياس الجماعى والفردى ترتبط بغياب التنظيم الجماعى فى الثقافة المسيحية المستمدة من الدين المسيحي. أما الإسلام فقد نظم الاثنين كلاً على مستواه، وبالتالى لا توجد حاجة للقياس والخلط، فهناك الاثنان وكل منهما له قواعده.
ومن ناحية ثالثة يرى بعض المؤيدين للاهتمام بالبعد الدينى فى تحليل العلاقات الدولية أن الانتقال المنهجى يكون مما هو قائم إلى ما يجب أن يكون وليس العكس، فأخلاقية صانع القرار هى أخلاقية مسئولية وليست أخلاقية اقتناع، أى أن ما يقتنع أو يؤمن به السياسى يجب أن يخرج إلى حيز الواقع بعد مروره بحساب التكلفة، فما هو جيد فى الحسابات السياسية يرتبط بما هو ممكن.
وإذا كان هذا عن التيارات الحاكمة للعلاقات الدولية في مرحلة ما قبل الحرب الباردة، وما يحكمها من توجهات، فإن التطورات التى شهدها العالم المعاصر وخاصة مع انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشيوعي، الذى عرف بطبيعته الإلحادية وتغييبه للجانب الدينى والقيمي، كانت دافعاً لتصاعد التيارات الفكرية المنادية بإعادة الاعتبار للأبعاد الدينية والقيمية فى دراسة العلاقات الدولية، وأصبح هناك ما يمكن أن نطلق عليه ـ ولو بتحفظ ـ المنظور الدينى The Religious Paradigm فى دراسة وتحليل العلاقات الدولية.
يدعم ذلك أنه من الصعب تجاهل تأثير المعتقدات الدينية التى يؤمن بها العديد من الباحثين على ما ينادون به من مقولات، وما يضعونه من مداخل واقترابات تحليلية فى مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، ومنها علم العلاقات الدولية، فهناك تأثير كبير للديانات السماوية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) على قطاع عريض من الباحثين والمحللين، فى حقل العلاقات الدولية، وجانب كبير من مقولاتهم الفكرية والتحليلية، تجد جذورها فى المعتقدات الدينية التى يؤمنون بها.
واستناداً لذلك، يمكن التمييز بين ثلاثة مداخل دينية أساسية، لدراسة العلاقات الدولية، يرتبط كل منها بديانة محددة، مع الأخذ فى الاعتبار احتمالات التداخل بين هذه المداخل، فى ظل ما ينادى به البعض من تراث حضارى مشترك، وموروث ثقافى متشابك، وتتمثل هذه المداخل، وفق الترتيب التاريخي لنزول الرسالات السماوية التي ترتكز إليها في:
أولاً: المنظور اليهودي الصهيوني:
يمكن التمييز فى إطار المرتكزات التوراتية التى تحكم الفكر السياسى المعاصر، ببن مجموعتين من المرتكزات:
الأولي: تلك التى نشأت عليها دولة إسرائيل، والتى تشكل جوهر العمل السياسى لكل التيارات والقوى الفكرية والسياسية الإسرائيلية، فالجميع توراتيون يتوافقون على مصلحة إسرائيل العليا ويعملون متحدين للوصول إلى غاياتهم السياسية الدينية، وتتمثل هذه المرتكزات التوراتية في: إنَّ اليهود هم شعب الله المختار وإن إسرائيل هى أمة الله المفضلة وإن الشعوب الأخرى يجب أن تكون عبيداً لهم وهم من الضالين عن معرفة الله، وأنّ القدس مدينة يهودية وهى عاصمة أبدية لدولة إسرائيل لأجل تحقيق الوعد التوراتى بظهور المخلص (المسيح). ويجب تدمير كل الأبنية والأماكن الغير مقدسة سواء فى القدس أو خارجها، أى الأماكن الغير اليهودية.
كما أن بناء الهيكل أمر أساسى وضرورى لأنه لا قدس دون الهيكل، وإن دولة إسرائيل هى دولة كل اليهود المنتشرين فى كل أنحاء العالم، وهى قد وجدت بأمر إلهى تحقيقاً للنبوءة التوراتية، وأنّ أرض فلسطين هى أرض الوعد وهى الأرض التى اختارها الله لشعبه المختار لكى يقيم عليها دولته التى ستمتد من الفرات إلى النيل.
الثانية: تلك السائدة فى الولايات المتحدة الأمريكية وتتمثل فى إنَّ اليهود هم شعب الله المختار، وإنَّ وعداً إلهياً يربطهم بالأرض المقدسة فى فلسطين ومن حقهم العودة إليها تنفيذاً لهذا الوعد، وإنهم قد انشأوا دولتهم إنتظاراً لقدم مخلصهم (المسيح) وعند المسيحية المتصهينة (عودة السيدة المسيح)، والمحافظة على إسرائيل ومساعدتها ودعمها وهذا يشكل عملاً دينياً إلهياً لأن إسرائيل تمثل قوى الحق الإلهى ويجب أن تربح صراعها لأن ذلك يحقق نبوءة الله.
وأمام هذا التوافق فى المرتكزات فإن اليهود يعملون على تحقيق أهدافهم بدعم أميركى شامل فالإدارة الأميركية فى مختلف عهودها ملتزمة بالنسبة لإسرائيل بثوابت أساسية لا تخرج عنها استناداً على مفهوم دينى توراتى يربطها بشكل مباشر وعميق بدولة إسرائيل، لهذا فإن الولايات المتحدة تتبنى بشكل دائم الموقف الإسرائيلى بخطوطه العامة وبتفاصيله المختلفة وتقوم بجميع الوسائل لأجل الوصول إلى الهدف الذى يخدم مصالح إسرائيل، كما تعمل على دعم القدرات العسكرية الإسرائيلية وتطويرها والمحافظة عليها على أساس أن أمن إسرائيل وسلامة المجتمع اليهودى هما فى أساس عمل الإدارة الأميركية، وكذلك تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، كما تدعم وبشكل دائم رفض إسرائيل تنفيذ مختلف القرارات الدولية على اعتبار أن اليهود هم شعب الله المختار مما يجعلهم غير خاضعين لأحكام وضعية من صنع البشر إنهم فقط ينفذون حكم الله ولا ينفذون حكم البشر.
وفى إطار هذه الاعتبارات تقوم الرؤية الصهيونية فى النظر إلى إسرائيل والعلاقات الدولية على عدد من المقولات الأساسية، من بينها: إنّهم شعب الله المختار والمميز من بين كل شعوب الأرض، والرب قد اختار واصطاف، وأن فلسطين لا وجود لها فى تاريخ هذه الأرض، هى أرض إسرائيل وهى أرض الوعد التى وعدهم بها إلههم، وإسرائيل هى دولة كل اليهود، وإنّ يهود العالم يرتبطون بهذه الأرض دينياً وقومياً، والتوراة هى الكتاب السياسى لليهود ولدولة إسرائيل، وثروة الأمم يجب أن تكون لهم وحدهم، وهم الذين يوزعونها على الأمم الأخرى، وإنّهم على الأرض يمارسون عملهم وفق إرادة إلهية، ويعملون ما يأمرهم به إلههم.
كما يعتقدون أنّ القدس عاصمة دولة إسرائيل ولا يمكن أن تكون القدس إلاّ موحّدة، وفى مفهومهم، أن لا إسرائيل دون القدس، ولا قدس بدون الهيكل، وأنّ بناء الهيكل يجب أن يتم تمهيداً لظهور المخلص اليهودي، وأنّه لا أماكن مقدسة فى أرض الميعاد (فلسطين) إلا أماكنهم اليهودية فقط، فهم سكان أرض فلسطين، وكل من جاءها من شعوب أخرى هم من الدخلاء، كما أنهم لا يمكنهم أن يتجانسوا مع شعوب الأرض، فقد اختارهم يهوه ليكونوا له "خاصة من بين جميع شعوب الأرض، مملكة كهنة وأمة مقدسة".
وخلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، تلقى المشروع الصهيونى قوى دفع جديدة من بينها تصاعد أيديولوجية صهيونية صرفة فى الولايات المتحدة يقودها عدد من المفكرين الذين يعكسون بروز عقيدة اليهودى من ناحية, والاعتقاد فى استقرار الهيمنة الأمريكية وإمكان توظيفها دون حدود لنقل المشروع الصهيونى إلى مرحلة جديدة أكبر وأوسع من ناحية أخري.
ويعتقد عدد من المفكرين اليهود أن التحولات الجوهرية فى المركب الاقتصادى ـ الاجتماعى خلال عقد التسعينيات، تقود للانتقال إلى مجتمع تسمو فيه الثروة المنقولة والمنتجة عبر قطاعات الصناعة الأكثر تطورا والتكنولوجيات الحديثة على الثروة غير المنقولة، ويؤدى ذلك إلى انكماش قيمة السيطرة الفعلية المباشرة على الأرض المحتلة والعلاقة الاستعمارية الإحلالية، التى ميزت المشروع الصهيونى الكلاسيكى وتهدئة أو إنهاء التوترات مع البيئة المحيطة, وبالتوازى مع هذه التحولات تعاد صياغة الأطر الأيديولوجية للدولة, ومن ثم طبيعتها, بحيث تخفض النزعات العسكرية والاستبعادية فى مقابل إنتاج أيديولوجيا أكثر تواؤما مع الثقافة الليبرالية العالمية المعاصرة, وأكثر قبولا للاندماج مع الآخرين, وإنهاء أسطورة العداء أو الصراع الكونى بين اليهودي/ غير اليهودى .
لقد ساد اعتقاد أن التحول الداخلى إلى ما بعد الصهيونية يتوافق مع التحول إلى ما بعد الحداثة فى النسق الاقتصادى والسياسى للنظام الدولى فيما بعد نهاية الحرب الباردة، وقد أسهمت قوى الدفع الجديدة للمشروع الصهيونى فى إنهاء نظرية ما بعد الصهيونية إنهاء مبكرا. فإذا كان مصطلح "ما بعد الصهيونية" يعنى الانتقال إلى طور أعلى من المشروع الصهيونى يتعلق أكثر بإنتاج العقول وليس بمنتجات الأرض, فإن الواقع يقوم على أن "ما بعد الصهيونية" مثل "ما بعد الحداثة" أيديولوجية قابلة للتدهور إلى عنف ليست له مسوغات أخلاقية، ويحاول أنصارها إيجاد مثل هذه المسوغات، مثلما حاولت الصهيونية الكلاسيكية، فقد مثلت الصهيونية الكلاسيكية أيديولوجية مقبولة من جانب الغربيين لأنهم اعتقدوا أن لها عائدا تحريريًا وتقدميًا، ولكنها خسرت هذا التأييد لأنها صارت أيديولوجية عنفوية دون أى مسوغ معنوى أو أخلاقي.
ـــــــــــــــــــ
http://www.wahatalarab.com/asp/showArticle.aspx?Art_ID=168180&Upvisitedcount=true
ساحة النقاش