إدارة أزمة مياه النيل ـ المحددات والسيناريوهات
رؤية توثيقية
د. عصام عبد الشافي
تعاني الإدارة العربية للأزمات القومية بالعديد من مظاهر العبثية، ومن بين هذه المظاهر، اللامبالاة، والسلبية، والإهمال والتجاهل، والتعتيم والتغييب، والشعارات الجوفاء، والخطب العصماء، إلخ، والقائمة تطول، وقد كانت الإدارة المصرية لقضية مياه النيل، وتحديداً فى السنوات العشر الأخيرة، تكريساً واضحاً لهذه المظاهر مجتمعة، وكانت المحصلة الطبيعية لذلك، مزيد من التجاهل من الدول الأخرى الأطراف فى الأزمة، لمصر، وقيام هذه الدول بتوقيع اتفاقية إطارية جديدة دون النظر للاعتراضات أو التحفظات المصرية، لتدخل السياسة الخارجية المصرية فى أزمة، كانت فى غني عنها، ولكنها أزمة شديدة الخطورة نظرا لارتباطها بأهم عنصر من عناصر النهضة والتنمية بل والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، وهو نهر النيل.
تبلغ مساحة حوض النيل 2.9 مليون كم2 أي 10% من مساحة إفريقيا، ويعتبر نهر النيل أطول أنهار العالم إذ يبلغ طوله نحو 6670 كم، ذلك إذا بدأنا من منابع نهر كاجيرا. وتشمل دول حوض النيل، تلك الدول التي يخترقها النهر وتقع في حوضه ولها مصلحة في مياهه وتستفيد منها بأي صورة من الصور وهي مصر والسودان وإثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندي وبوروندي بالإضافة إلى الكنغو الديمقراطية.
ويبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار على حوض النيل حوالي 900 مليار م3 سنوياً يمثل السريان السطحي منه 137 مليار م3، بينما إيراد النيل لا يتجاوز 84 مليار م3، يأتي 72 مليار م3، أي 87% من مياه النيل من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة (تانا) في أثيوبيا، بينما يأتي 13% من منطقة البحيرات العظمى أي حوالي 12 مليارم3.
وتنبع المشكلة المائية فى دول حوض النيل من أن هذه الدول تعاني من مخاطر مستقبلية نتيجة نقص المياه خصوصا دولتا المصب، مصر والسودان، اللتان تعتمدان علي مياه النيل اعتماداً شبه كلي. فمصر هي الدولة الأكبر سكاناً والأكثر اعتماداً على مياه النيل، والأمطار بها شبه معدومة، والمياه الجوفية غير متجددة، ومن هنا فإن مياه النيل تمثل حوالي 97% من موارد مصر المائية، وتبلغ حصة مصر 5، 55 مليار م3، والأرض المزروعة 3.6 مليون فدان، وهذا القدر من المياه لا يكفي لاحتياجات السكان، ولكي تحافظ مصر على نصيب الفرد من المياه فإنها بحاجة إلى نحو 77 مليار م3، وهو ما يعني وجود عجز 22 مليار م3.
أما السودان فتختلف التقديرات بشأن المساحة المزروعة من 1.1 إلى 1.3 مليون هكتار، في حين تتراوح تقديرات المياه المستخدمة ما بين 12 إلى 17 مليون هكتار. وتدعو الخطة الوطنية السودانية إلى استصلاح ما يقرب من 2.4 مليون هكتار جديدة من الأرض الزراعية وهي تتطلب 15 مليار م3 إضافية من المياه.
ولكن وسط وجنوب السودان لا يُحتاج كثيراً إلى المياه من نهر النيل؛ فمعدل مياه الأمطار يصل إلى 1500 ملم على الأغلب في العام. كما أن السودان حالياً يستغل فقط 13.5 مليار م3، من حصته في مياه النيل البالغة 18.5 ملياراً، إلا أن ما يزيد من وطأة الأزمة فى السودان، الحديث المتزايد عن انفصال جنوب السودان بحلول العام الحالي، والذي يسيطر علي قسم هام من مياه النيل ومصادره الأساسية، رغم أن جنوب السودان لا يحتاج لمياه بل يعاني منها بسبب انهمار الأمطار طوال شهور الصيف.
أما إثيوبيا التي توصف بأنها نافورة أفريقيا حيث ينبع من مرتفعاتها أحد عشر نهراً تتدفق عبر حدودها إلى الصومال والسودان وتصب هذه الأنهار 100 مليار م3، من الماء إلى جيران إثيوبيا والنيل الأزرق أكثر هذه الأنهار. وتتميز أنهار إثيوبيا التي تجري صوب الغرب بانحدارها الشاهق؛ فالنيل الأزرق ينحدر 1786 متراً عن مجراه الذي يبلغ 900 كم، وهذا الانحدار الشاهق لتلك الأنهار يجعل من إثيوبيا بلداً ضعيفاً جغرافياً في التحكم في جريان النهر.
ويمكن تناول أزمة مياه النيل، وما تشهده من تطورات وما تفرضه من تحديات، وكذلك السيناريوهات المستقبلية المحتملة لها، من خلال المحاور التالية:
أولاً: الإطار القانوني لتنظيم مياه النيل:
سعت مصر إلى تنظيم علاقتها بدول حوض النيل بالاتفاق على الأسلوب الأمثل لاستغلال مياه نهر النيل بما يعود بالنفع على كل دول الحوض مع الحفاظ على ما أسمته مصر "حقها التاريخي فى مياه نهر النيل". ونجحت مصر فى عقد العديد من الاتفاقيات سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي، وذلك على النحو التالي:
1ـ الاتفاقيات الثنائية:
أ ـ مع إثيوبيا: هناك خمسة اتفاقيات تنظم العلاقة بين مصر وإثيوبيا والتي يرد من هضبتها 85% من مجموع نصيب مصر من مياه النيل:
(1) بروتوكول روما (15 إبريل 1891): بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا فى ذلك الوقت بشأن تحديد مناطق نفوذ كل من الدولتين فى أفريقيا الشرقية، وتعهدت إيطاليا فى المادة الثالثة من الاتفاقية بعدم إقامة أية منشآت لأغراض الري على نهر عطبرة يمكن أن تؤثر على تصرفات النيل.
(2) اتفاقية أديس أبابا (15 مايو 1902): بين بريطانيا وإثيوبيا، وتعهد فيها الإمبراطور منيليك الثاني ملك إثيوبيا بعدم إقامة أو السماح بإقامة أي منشآت على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها أن تعترض سريان مياه النيل إلا بموافقة الحكومة البريطانية والحكومة السودانية مقدماً.
(3) اتفاقية لندن (13 ديسمبر 1906): بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وينص البند الرابع منها على أن تعمل هذه الدول معاً على تأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر.
(4) اتفاقية روما 1925: وهى عبارة عن مجموعة خطابات متبادلة بين بريطانيا وإيطاليا فى 1925، وتعترف فيها إيطاليا بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان فى مياه النيل الأزرق والأبيض وروافدهما، وتتعهد بعدم إجراء أى إشغالات عليهما من شأنها أن تنقص من كمية المياه المتجهة نحو النيل الرئيسى.
(5) إطار التعاون: الذى تم توقيعه فى القاهرة فى الأول من يوليو 1993 بين كل من الرئيس المصرى محمد حسنى مبارك ورئيس الوزراء الإثيوبى ميليس زيناوى، وكان لهذا الإطار دور كبير فى تحسين العلاقات المصرية الإثيوبية.
ب ـ اتفاقيات دول الهضبة الاستوائية: تعد الهضبة المصدر الثانى لمياه النيل حيث يصل 15% من مياهها إلى مياه النيل، وتضم ستة دول هى: كينيا، تنزانيا، أوغندا، الكونغو الديمقراطية، رواندا وبوروندى، وتنظم العلاقة المائية بينهم وبين مصر عدد من الاتفاقيات أهمها:
(1) اتفاقية لندن (مايو 1906): بين كل من بريطانيا والكونغو، وهى تعديل لاتفاقية كان قد سبق ووقعت بين ذات الطرفين فى 12 مايو 1894، وينص البند الثالث منها على أن تتعهد حكومة الكونغو بألا تقيم أو تسمح بقيام أى إشغالات على نهر السمليكى أو نهر أسانجو أو بجوارهما يكون من شأنها خفض حجم المياه التى تتدفق فى بحيرة ألبرت ما لم يتم الاتفاق مع حكومة السودان.
(2) اتفاقية 1929: وهى عبارة عن خطابين متبادلين بين كل من رئيس الوزراء المصرى آنذاك محمد محمود وبين المندوب السامى البريطانى لويد)، وكلا الخطابين موقعين بتاريخ 7 مايو 1929 ومرفق بهما تقرير للجنة المياه الذى سبق إعداده فى عام 1925. ويعتبر هذا التقرير جزءاً من هذه الاتفاقية، وكان توقيع بريطانيا على هذه الاتفاقية نيابة عن كل من السودان وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا حالياً) وجميعها دول كانت تحتلها بريطانيا آنذاك.
(3) اتفاقية لندن (23 نوفمبر 1934): بين كل من بريطانيا نيابة عن تنجانيقا، تنزانيا حالياً، وبين بلجيكا نيابة عن رواندا وأوروندى (رواندا وبوروندى حالياً)، وتتعلق باستخدام كلا الدولتين لنهر كاجيرا.
(4) اتفاقية 1953: بين مصر وبريطانيا (نيابة عن أوغندا): بخصوص إنشاء خزان أوين عند مخرج بحيرة فيكتوريا، وهى عبارة عن مجموعة من الخطابات المتبادلة خلال عامى 1949 و1953 بين الحكومتين المصرية والبريطانية. ومن أهم نقاط تلك الاتفاقية: أشارت الاتفاقيات المتبادلة إلى اتفاقية 1929 وتعهدت بالالتزام بها ونصت على أن الاتفاق على بناء خزان أوين سيتم وفقاً لروح اتفاقية 1929، كما تعهدت بريطانيا فى تلك الاتفاقية نيابة عن أوغندا بأن إنشاء وتشغيل محطة توليد الكهرباء لن يكون من شأنها خفض كمية المياه التى تصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصولها إليها أو تخفيض منسوبها بما يسبب أى إضرار بمصلحة مصر.
(5) اتفاقية 1991: بين مصر وأوغندا التى وقعها الرئيس مبارك والرئيس الأوغندى موسيفينى، وفيها أكدت أوغندا احترامها لما ورد فى اتفاقية 1953 التى وقعتها بريطانيا نيابة عنها وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً باتفاقية 1929، كما نصت الاتفاقية على أن السياسة التنظيمية المائية لبحيرة فيكتوريا يجب أن تناقش وتراجع بين كل من مصر وأوغندا داخل الحدود الآمنة بما لا يؤثر على احتياجات مصر المائية.
ج ـ مع السودان: هناك اتفاقيتان لتنظيم العلاقة المائية بين مصر والسودان وهما:
(1) اتفاقية 1929: تنظم تلك الاتفاقية العلاقة المائية بين مصر ودول الهضبة الاستوائية، كما تضمنت بنوداً تخص العلاقة المائية بين مصر والسودان، من بينها:
ـ إن الحكومة المصرية شديدة الاهتمام بتعمير السودان وتوافق على زيادة الكميات التى يستخدمها السودان من مياه النيل دون الإضرار بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية فى تلك المياه.
ـ توافق الحكومة المصرية على ما جاء بتقرير لجنة مياه النيل عام 1925 وتعتبره جزءاً لا ينفصل من هذا الاتفاق.
ـ ألا تقام بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية أعمال رى أو توليد قوى أو أى إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التى تنبع سواء من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه الذى يصل لمصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أى وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر.
ـ تقدم جميع التسهيلات للحكومة المصرية لعمل الدراسات والبحوث المائية لنهر النيل فى السودان ويمكنها إقامة أعمال هناك لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر بالاتفاق مع السلطات المحلية.
2ـ اتفاقية 1959: وقعت بالقاهرة فى نوفمبر 1959 بين مصر والسودان، وجاءت مكملة لاتفاقية عام 1929وليست لاغية لها، حيث تشمل الضبط الكامل لمياه النيل الواصلة لكل من مصر والسودان فى ظل المتغيرات الجديدة التى ظهرت على الساحة آنذاك وهو الرغبة فى إنشاء السد العالى ومشروعات أعالى النيل لزيادة إيراد النهر وإقامة عدد من الخزانات فى أسوان.
ونظراً للمستجدات المستمرة ولطبيعة الدول العشر المشكلة لحوض النيل وما شهدته من تطورات بعد زوال الاستعمار، فقد أصبح من الضرورى إيجاد آليات جديدة للتعاون الإقليمى بين دول الحوض إلى جانب الاتفاقيات الثنائية الموقعة بينها، وقد بدأت بالفعل هذه الآليات منذ الستينيات من القرن العشرين على النحو التالى:
1ـ هيئة مياه النيل: تم إنشاء هيئة فنية دائمة مشتركة لمياه النيل بين مصر والسودان تحت مظلة اتفاقية 1959، تعمل على دراسة وإنشاء مشروعات زيادة إيراد النهر، وكان أهم دراساتها أربعة مشروعات تقع جميعها داخل حدود السودان وتوفر 18 مليار متر مكعب سنوياً بعد انتهائها. تمثلت هذه المشروعات في: مرحلة أولى من مشروع قناة جونجلى، مرحلة ثانية من مشروع قناة جونجلى، مشروع مشار، ومشروع بحر الغزال. وتضم هيئة مياه النيل لجنة فنية تجمع خبراء من مصر والسودان، وتجتمع دورياً لحل أى مشاكل تعترض تنفيذ اتفاقية 1959.
2ـ مشروع الهيدروميت: ويعنى بدراسة الأرصاد الجوية والمائية لحوض البحيرات الاستوائية، وقد انطلق هذا المشروع عام 1967 بمشاركة خمس دول فقط من دول الحوض العشر وهى مصر وكينيا وتنزانيا وأوغندا والسودان، وانضمت إليه بعد ذلك رواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية، ثم انضمت إثيوبيا بصفة مراقب. وبمقتضى هذا الاتفاق أقيمت محطات رصد فى مجمعات الأمطار الرئيسية – بحيرات فيكتوريا وكيوجا وألبرت وقد حظى بتمويل دولى من العديد من الدول المانحة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى ومنظمة الأرصاد العالمية، وقد تم هذا المشروع على ثلاثة مراحل: الأولى من 1967 وحتى 1972 بتمويل من برنامج الأمم المتحدة، والثانية من 1976 وحتى 1980 بتمويل من برنامج الأمم المتحدة، والثالثة من 1981وحتى 1992 بدعم من الدول المتشاطئة.
3ـ تجمع الأندوجو: "اندوجو" كلمة تعني "الإخاء"، باللغة السواحلية، وهو تجمع إقليمي للدول المطلة على نهر النيل، يهتم أساسًا بتنظيم الاستفادة من مياه النيل وتحقيق المصالح المشتركة بين دول الحوض في مياهه. وكانت مصر صاحبة فكرة إنشائه بتأييد من زائير والسودان، ويضم أغلب دول حوض النيل فى منطقة شرق ووسط أفريقيا، وقد أعلن عن إنشائه أثناء انعقاد المؤتمر الوزارى الأول لدول حوض النيل فى الخرطوم فى نوفمبر 1983، وكانت أهداف التجمع: التشاور والتنسيق فى المواقف بين دول المجموعة تجاه القضايا الإقليمية، ودعم التعاون بين دول المجموعة فى مجال التنمية، وتبادل الخبرات فى كافة المجالات بهدف دعم التعاون الإقليمى، على أن تنعقد اجتماعات الأندوجو فى إطار التعاون الإقليمى الوارد طبقاً لخطة عمل لاجوس الاقتصادية الصادرة فى 1980، سعياً نحو دعم التكامل الاقتصادى بين الدول الأعضاء فى الاتفاقية.
غير أن هذا التجمع صادفته كثير من العقبات التى حالت دون تحقيق أهدافه ومن أهم تلك العقبات: نقص التمويل الكافى لتمويل مشروعاته، والتنافس الدائم بين إثيوبيا والسودان على استضافة لجنة المتابعة الدائمة.
4ـ تجمع التيكونيل: وهو تجمع للتعاون الفنى بين دول حوض النيل للتنمية وحماية البيئة، وقد أنشئ هذا التجمع فى ديسمبر 1992 بمشاركة ست دول كأعضاء عاملين (هي: مصر، السودان، تنزانيا، أوغندا، رواندا، الكونغو الديمقراطية). وحصلت باقى الدول على صفة مراقب، واستمر مشروع التيكونيل خلال الفترة من 1992 وحتى 1998، بخطة شاملة تضمنت 22 مشروعاً من أهمها مشروع إعداد إطار للتعاون الإقليمى القانونى والمؤسسى بين دول حوض النيل الذى شكلت له لجنة فنية قانونية تضم ممثلين من دول حوض النيل تجتمع بشكل دورى عدة مرات كل عام، وقد تحولت تلك اللجنة عام 2002 إلى لجنة تفاوضية مشتركة.
5ـ مبادرة حوض النيل: تأسست عام 1999، بهدف وضع استراتيجية للتعاون بين الدول النيلية، ورفعت المبادرة شعار تحسين معدلات التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر. ولأول مرة انضمت كافة دول حوض النيل إلى آلية من آليات التعاون بينهم بصفة أعضاء عاملين باستثناء إريتريا التى اكتفت بصفة مراقب.
وقد بدأت محاولات الوصول إلي صيغة مشتركة للتعاون بين دول حوض النيل في 1993 من خلال إنشاء أجندة عمل مشتركة لهذه الدول للاستفادة من الإمكانيات التي يوفرها حوض النيل. في 1995 طلب مجلس وزراء مياه دول حوض النيل من البنك الدولي الإسهام في الأنشطة المقترحة، وأصبح البنك الدولي، وصندوق الأمم المتحدة الإنمائي والهيئة الكندية للتنمية الدولية شركاء لتفعيل التعاون ووضع آليات العمل بين دول حوض النيل.
وفي 1997 قامت دول حوض النيل بإنشاء منتدى للحوار من أجل الوصول لأفضل آلية مشتركة للتعاون فيما بينهم، وفي 1998 تم الاجتماع بين الدول المعنية (باستثناء إريتريا في هذا الوقت) على أجل إنشاء الآلية المشتركة فيما بينهم. وفي فبراير 1999 تم التوقيع علي هذه الاتفاقية بالأحرف الأولي في تنزانيا من جانب ممثلي هذه الدول، وتم تفعيلها لاحقا في مايو من نفس العام، وسميت باسم: "مبادرة حوض النيل".
واتفقت دول حوض النيل فى اجتماعها الوزارى فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا على ضرورة عقد اجتماعات وطنية بكل دولة من دول الحوض لتعرف بأهمية مبادرة آلية "نهر النيل الجديدة"، ومدى تقدم المشروعات الجارى العمل بها لصالح شعوبها والتى بدأت منذ ست سنوات وشرح الفائدة التى ستعود على كل شعب على أن تضم ممثلى الصحافة والبرلمان والمرأة والهيئات غير الحكومية والاجتماعية والأهلية والجمعيات الوطنية، وذلك لدرء أى محاولات للوقيعة بين شعوب وحكومات دول الحوض الذين اتفقوا فى اجتماعهم على البدء فى تنفيذ أول المشروعات المشتركة طبقًا للآلية الجديدة فى بداية شهر أكتوبر المقبل، والممولة من الجهات الدولية المانحة بمبلغ (25) مليون دولار على أن يتم طرحها على المكاتب الاستشارية الدولية.
وتمت اجتماعات بين الخبراء والفنيين بالتعاون مع خبراء البنك الدولى للإنشاء والتعمير والبرنامج الإنمائى للأمم المتحدة لتناقش الإطار المؤسسى والقانونى لدول الحوض والذى يتم من خلال مفاوضات الدول العشر لاقتسام مياه النيل. وتتم الاجتماعات بمشاركة ثلاثة خبراء على الأقل من الدول فى المجالين الفنى والقانونى وتتم على ضوء نتائج اجتماعات المائدة المستديرة مع حوض نهر السنغال والزمبيزى. كما اتفق وزراء دول حوض النيل الشرقى مصر والسودان وإثيوبيا اتفقوا على طرح مشروع حماية التربة والهضبة الحبشية من الانجراف على المكاتب الاستشارية، ووضع الدراسات والشروط المرجعية لمشروعى الربط الكهربى بين الدول الثلاث وتنمية المصادر المائية.
6ـ المكتب الفنى الإقليمى للنيل الشرقى (الإنترو): هو مكتب إقليمى تم تأسيسه فى مارس 2001 بالاتفاق بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا، مقره أديس أبابا بهدف بحث المشروعات المائية المشتركة والتى تم تجميعها فى {برنامج العمل لحوض النيل الشرقى.
الأزمة الراهنة وتطوراتها:
تميزت العلاقات المائية بين دول حوض نهر النيل بالاستقرار النسبي نتيجة للعديد من الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة بينها، والتي تنظم استفادة كل منها من مياه النهر. إلا أن الوضع لا يخلو من بعض التوتر بين الحين والآخر؛ وخاصة من جانب إثيوبيا التي تتحكم بحوالي 85% من مصادر مياه النهر.
واستخدمت مياه النيل كمادة للصراع السياسي وخاصة في اتجاه مصر من قبل إثيوبيا بشكل رئيسي والسودان في بعض الأحيان. فهناك قضية السدود الإثيوبية التي تطرح بين الحين والآخر ومطالبتها بسحب امتيازات الحق التاريخي التي تتمتع بها مصر، ومحاولات الإيحاء بالقدرة على التأثير في حصة مصر من المياه، وموقفها الرافض للاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959م، وهو الأمر الذي يطرح مسألة جدية التلويح أو المخاطر التي تحوم بحصة مصر من النهر. أما بالنسبة للسودان فموقفها يتلخص في استخدامها لورقة المياه كورقة ضغط على مصر؛ ولذا لا يتم الإعلان عنها إلا في فترات التوتر وآخرها ما حدث من خلال اتفاقها مع إثيوبيا عام 1993م الخاص بالتعاون المشترك في استخدام مياه النيل.
وتبدو إثيوبيا الأكثر رغبة في تغيير الواقع القائم وتحديه؛ حيث تري أن الدور البريطاني وسياساته تجاه مياه النيل وارتباط مصر بهذه السياسة، قد أفرز الكثير من التعقيدات والحساسيات التي وجدت سبيلها إلى جملة التفاعلات السياسية في منطقة حوض النيل؛ بحيث لم يشكل قيام ثورة يوليو 1952م بداية مرحلة جديدة، بقدر ما تأثر بتاريخ تلك العلاقات وما أفرزته من حساسيات وخاصة بالنسبة لإثيوبيا، كما كان لإقدام مصر على اتخاذ قرار بناء السد العالي دون استشارة دول المنبع أثره الواضح في إقرار العديد من التعقيدات والهواجس التي وجدت سبيلها في الظهور مرة أخرى مع توقيع مصر والسودان لاتفاقية 1959م.
وهذا ما سعت معه إثيوبيا لاتخاذ مجموعة من الإجراءات المقابلة التي يأتي في مقدمتها عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة تقدم بمقتضاها الخبرة بعمل دراسة شاملة عن نهر النيل في إثيوبيا لبحث إمكانية إقامة السدود والزراعة وتوليد الطاقة، كما سعت إلى تطوير علاقتها مع إسرائيل بقبول استقدام قنصل عام لإسرائيل في أديس أبابا عام 1956م، لتدخل العلاقات الثنائية منحى جديداً تستخدم فيه ورقة المياه كأداة ضغط وتوتر متبادل على الرغم من أن بناء السد لم يكن ليؤثر في قدرة إثيوبيا على استخدام مواردها من المياه ولا على مشروعاتها التي لم تكتمل بسبب قصور إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية.
أما بالنسبة للسودان، فتتلخص جملة اعتراضات بعض قطاعات السودانيين حول قانونية وشرعية اتفاقية 1959م، وأن الاتفاقية التي أبرمت في عهد الحكم العسكري (حكومة إبراهيم عبود) قد افتقرت إلى التفويض الشعبي، وأنها غير عادلة سواء بالنسبة للحصة التي حصل عليها السودان من المياه، أو بالنسبة للتعويض المالي نتيجة غمر أراض عزيزة وغالية من أرض السودان (حلفا).
وفي إطار هذه الاعتبارات تعددت مستويات الصراع بين دول حوض النيل، ومن ذلك:
1ـ الخلافات المصرية السودانية: في عام 1929م توصلت بريطانيا ومصر إلى اتفاق أخذ شكل مذكرات تبادلية بين رئيس الوزراء المصري والمندوب السياسي البريطاني، وتُعد بريطانيا في هذه الاتفاقية نائبة عن السودان وكينيا وأوغندا وتنزانيا، ونصت الاتفاقية على عدم قيام أعمال ري، أو توليد طاقة هيدروكهربائية على النيل أو فروعه، أو على البحيرات التي تنبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه الذي يصل إلى مصر، كما نصت على حق مصر في مراقبة مجرى النيل من المنبع إلى المصب. والاتفاقية كانت سياسية قصد بها استخدام مياه النيل من جانب بريطانيا للانتقام من السودان بسبب مقتل السير (لي ستاك) سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام.
لذلك كان من الطبيعي أن تُواجَه هذه الاتفاقية بانتقادات عديدة من الجانب السوداني، تصاعدت حدتها بعد نيله استقلاله عام 1955م، فقد اعتبرها السودان جزءاً من تسوية سياسية مع طرف أجنبي وفي غياب القيادة السودانية وبغير إرادتها، وعلى ذلك فهي من طرف واحد لا بين طرفين، فضلاً عن أنها تعطي مصر حق النقض (الفيتو) بل والسيادة الهيدرولوجية المطلقة في كل حوض النيل وعلى كل مشاريعه المائية.
وبذلك امتنع السودان عن الموافقة على قيام مصر ببناء السد العالي في بادئ الأمر مما أدى بالفعل إلى تأخير بنائه بعض الوقت. وفي عام 1958م زادت الأزمة بين البلدين حيث أعلنت السودان من جانب واحد عن نيتها في بناء سد الروصيرص لأعمال التوسع في مشروع الجزيرة بالرغم من اعتراضات مصر على المشروع.
ومع مجيء الفريق عبود بانقلابه في السودان تحسنت العلاقات بين البلدين، وأدى هذا إلى التوصل إلى اتفاق عام 1959م، ألغى حق مصر في أعمال الرقابة على المشروعات التي تقام على النيل، وتم الاتفاق على بناء خزان الروصيرص في السودان مقابل بناء السد العالي في مصر، وتم الاتفاق على توزيع حصص المياه: 48 مليار م3، لمصر، و4 مليار م3، للسودان. فضلاً عن ريع السد العالي بمعدل 5، 14مليار م3، للسودان، و 5، 7 مليار م3، لمصر. وفي التوتر الأخير الحادث في العلاقة بين مصر وحكومة البشير في السودان، أثيرت مسائل توزيع حصص المياه؛ ولكن سرعان ما هدأت هذه المسائل عند بدء عودة العلاقات لطبيعتها.
2ـ الخلافات مع دول أعالي النيل: يسود التفكير لدى دول منابع النيل وبخاصة أثيوبياً فيما تعتبره حقها في استغلال مياه النيل وفقاً لاحتياجاتها التنموية، وترى أن على دول المصب مواءمة احتياجاتها مع ما يتبقى من استخدام دول المنابع. ومن هذا المنطلق فقد تقدمت إثيوبيا رسمياً بمطالبها إلى مؤتمر الأمم المتحدة للدول النامية عام 1981م حيث أعلنت رغبتها في استصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق، وأكدت أنه نظراً لعدم وجود اتفاقيات بينها وبين دول حوض النيل الأخرى، فإنها تحتفظ بحقها الكامل في تنفيذ مشروعاتها مستقلة. وقد قامت بالفعل مع بداية عام 1984م بتنفيذ مشروع سد (فيشا)، أحد روافد النيل الأزرق بتمويل من بنك التنمية الإفريقي، وهو مشروع يؤثر على حصة مصر من مياه النيل بحوالي 5، 0 مليار م3، كما تقوم أثيوبيا بدراسة ثلاثة مشروعات أخرى. وتلك المشروعات سوف تؤثر على مصر بمقدار 7 مليارم3 سنوياً.
وتنطلق التحركات الإثيوبية مما تسميه "رداً على سعي مصر للسيطرة والهيمنة"، هذا فضلاً عن اختلاف توجهات النظم في كل من أثيوبياً ومصر والسودان، والتي دفعت إلى التوتر، فقد أعلن الرئيس السادات في 16/12/1979م عن نيته توجيه قدر من مياه النيل إلى القدس، مما أثار إثيوبيا وقدمت مذكرة لمنظمة الوحدة الإفريقية في مايو 1980م وهددت بإجراء تغييرات في مجرى النهر بالقوة العسكرية إن اقتضى الأمر ذلك مما حدا بوزير خارجية مصر آنذاك إلى أن يصرح في مجلس الشعب المصري: "إن مصر ستمضي إلى خوض الحرب من أجل تأمين استراتيجيتها".
أما الطرف المصري والسوداني فيرى أن الاحتياجات المائية لدول أعالي النيل المعلنة مبالغ فيها، وأنها لا تقوم على أساس سليم، وهذه الدول مطالبة بأن تدرس مطالبها من مياه النيل على أسس علمية سليمة. والرؤية المصرية تعتمد تقليدياً على نظرية الحقوق المكتسبة والتاريخية والقائمة على الممارسة الظاهرة للحقوق المصرية بشكل مستمر ومؤكد، وقد استمر الموقف السلبي طوال فترة زمنية كبيرة من قِبَلِ دول أعالي النيل كقرينة على حقوق مصر. كما أن مصر تعتمد على ثلاث اتفاقيات وقعت مع ملك الحبشة في الماضي وهي: البروتوكول الأنجلو إيطالي في 15 إبريل عام 1891م، والمعاهدة المبرمة بين بريطانيا وإثيوبيا في 15 مايو 1902م.
كما تقوم الرؤية المصرية على أن منظمة الوحدة الإفريقية قد أقرت مبدأً عرفياً ينص على أن الحدود والاتفاقيات التي تم توريثها من الاستعمار تظل كما هي تجنباً لإثارة النزاعات والحروب بين دول القارة. وهذا المبدأ أقرته إثيوبيا نفسها في نزاعها الحدودي مع الصومال.
الصراعات الداخلية في حوض النيل
خلال السنوات العشر الأولي من القرن الحادي والعشرين، وفي إطار هذا المستوي من الصراع برزت التهديدات الكينية والتنزانية المتكررة، كما برزت الصراعات الداخلية فى دول الحوض والتي كان لها تأثيرها على قضية المياه:
1ـ التهديدات الكينية:
مرر البرلمان الكينى في 11 ديسمبر 2003 بيانا للحكومة الكينية طالبها فيه بإعادة التفاوض على معاهدة حوض النيل، وذلك بعد انسحاب (مارثا كاروا ) وزيرة المياه الكينية السابقة من مؤتمر وزراء الري الأفارقة والذي عقد في إثيوبيا في الفترة من 8ـ 12 ديسمبر 2003، وكان مخصصا لمصادقة دول الحوض على الوضع الراهن للمعاهدة.
وردا على ذلك وجهت مصر تحذيرا إلى كينيا على لسان الدكتور محمود أبو زيد وزير الرى والموارد المائية، ردا على تهديدات كينيا بالانسحاب من المعاهدة، حيث أكد أبو زيد أن انسحاب كينيا من المعاهدة يعد خرقا للقانون الدولي، وإعلان حالة حرب، وأن لا أحد يستطيع منع مصر من أي إجراء تتخذه للدفاع عن نفسها.
وفي يناير 2007 أعلن وزير المياه الكينى (ميوتا كاتوكى ) أن كينيا لا تعترف بمعاهدة دول حوض النيل, والتي تمنع استخدام مياه بحيرة فيكتوريا، أو إقامة أي مشروعات عليها إلا بموافقة مصر. وأضاف أن موقف كينيا منذ استقلالها من هذه الاتفاقية هو عدم الاعتراف بها، لأن بريطانيا وقعتها نيابة عن مستعمراتها في إفريقيا مع مصر، وكانت كينيا وقتها أحد تلك هذه المستعمرات البريطانية. وأكد كاتوكى أن حكومته ستشرع في بناء عدد من السدود ومشاريع للري خاصة في المناطق التي دمرتها الفيضانات بالقرب من نهرى ناى اندو، وانزويا.
2ـ التهديدات التنزانية:
تحتل تنزانيا الشاطىء الجنوبى لبحيرة فيكتوريا حيث النيل الأبيض, واعترفت عند استقلالها عام 1961، بمعاهدة 1929 التي تنظم مياه نهر النيل بين الدول المطلة عليه، إلا أنه في فبراير 2004، أعلن وزير المياه التنزانى عن رغبة بلاده في نقل مياه بحيرة فيكتوريا عبر أنابيب تمتد لمسافة 170 كم لتوصيلها إلى 24 قرية تنزانية، وإلى أجزاء أخرى في الشمال الغربي لتنزانيا. كما أكد أن بلاده لن تلتزم بمعاهدة 1929 أو اتفاقية 1959 .
وتأكيداً لهذا التوجه شهد اجتماع الجمعية الوطنية التنزانية "مجلس الشعب التنزاني" لمناقشة ميزانية وزارة المياه للعام المالي 2007/ 2008، مناقشات ساخنة بشأن اتفاقية 1929, وطالب بعض الأعضاء الحكومة العمل على إلغاء المعاهدة أو تعديلها, وطالب البعض الأخر بمقاضاة المملكة المتحدة على اشتراكها بشكل مباشر في إبرام هذه المعاهدة.
3ـ الصراعات الداخلية في بعض دول حوض النيل:
تشكل الأزمة في جنوب السودان، أهم وأخطر نماذج هذا المستوي من الصراعات، حيث ظلت الأزمة السودانية بملامحها وأبعادها المستجدة الأكثر حدة وتعقيداً منذ استقلال السودان، وسط مؤشرات تدل على عدم إمكان حسمها عسكرياً أو حلها سياسياً. فلا يبدو أن الخيار العسكري يمكن أن يؤدي إلى نتائج حاسمة في ظل موازين القوى القائمة. كما أن الحل السياسي يواجه مشكلات كبيرة في ظل المواقف المعلنة. ولذلك تواصلت أعراض هذه الأزمة التي تجمع المشكلات الرئيسية التي واجهت السودان منذ استقلاله.
وهي مشكلات عدم استقرار نظام الحكم واستمرار الحرب الأهلية، فضلاً عن تصاعد وتوتر العلاقات الخارجية، كما تعقدت الأوضاع المحيطة بالنظام السوداني، واستخدمت الأدوات العسكرية والدبلوماسية بأساليب جديدة، في ظل محددات تشير إلى أن أياً منها لن يكون حاسماً في إيجاد حل للصراع. بل أصبح الحديث الأكثر واقعية عن انفصال الجنوب وظهور دولة جديدة فى حوض النيل تسعي إلى أن تكون لها حصتها، وهو ما يعني السعي نحو إعادة النظر فى الاتفاقيات الدولية التى تحكم التفاعلات بين دول الحوض.
ويزيد من خطورة الأوضاع في جنوب السودان، وانعكاساتها على الأوضاع في دول حوض النيل، وتحديداً علي مصر، تزايد تأثير العامل الخارجي، وتحديداً الأمريكي ـ الإسرائيلي، فيها، حيث تستمر المحاولات الإسرائيلية للتواجد في منابع النيل للضغط على مصر من أجل توصيل مياه النيل إلى إسرائيل وهو الأمر الذي رفضته مصر تطبيقا للاتفاقيات التي سبق وان وقعتها مصر مع دول حوض النيل وتنص صراحة على عدم جواز إمداد أي دولة خارج حوض النيل بالمياه.
ويرى البعض أن أمريكا تستهدف الضغط على مصر لإمداد إسرائيل بالمياه عبر ترعة السلام خاصة بعد قرب نفاذ مواردها المائية في الضفة الغربية وهزيمتها في لبنان، وفشل مشروع سحب المياه عبر بالونات من تركيا. وأن الولايات المتحدة وإسرائيل وضعتا مصر أمام خيارين: إما التسليم بتزويد إسرائيل بالمياه وإما نقل مخزن المياه من بحيرة ناصر إلى إثيوبيا وإجبار مصر على تمرير المياه إلى إسرائيل، كما أن احتياجات كل دولة من دول حوض النيل من المياه تزداد والتحريض الدولي يزداد بسبب مطامع تاريخية صهيونية في المياه وثأر غربي تاريخي مع مصر ومحاولات لاستغلال هذا الملف للضغط عليها.
4ـ توقيع اتفاقية عنتيبي وأزمة 2010:
فى 14 مايو 2010، وقعت أربعة من دول حوض نهر النيل (إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا)، في مدينة عنتيبي الأوغندية على اتفاقية إطارية في غياب دولتي المصب مصر والسودان، حيث وقع ممثلو هذه الدول على الاتفاق الذي يجري التفاوض حوله منذ حوالي عشر سنين بين الدول التي يمر عبرها النهر من أجل تقاسم أفضل لمياه النهر. وأعلنت وزيرة المياه الأوغندية أن الاتفاقية الجديدة ستضمن "تقاسما أكثر عدالة" لمياه اكبر نهر في أفريقيا، بحسب ما ترى هذه الدول. وأوضحت أن الدول التي على استعداد للانضمام إلى الاتفاقية ستمنح مهلة سنة. وأكدت أن بنود الاتفاقية "لن تتغير"، معربة عن الأسف لرغبة مصر والسودان في الإبقاء على الوضع القائم. وقالت إن البلدين "سيتأكدان من صدقنا وجديتنا وأننا نبقي في أذهاننا أنه ينبغي ألا نواجه" هاتين الدولتين.
ومن جانبه، حذر مسؤول بوزارة المياه والري الكينية، من خطر الفوضى إذا لم يتم التوصل لاتفاق، لكن السودان ومصر اللتين تعتمدان بشكل كلي على النيل في التزود بالمياه ترفضان هذه التحركات، وبعد مرور أسبوع من هذا التصريح أعلنت كينيا توقيعها على الاتفاقية. لتصبح الدول الخامسة من دول الحوض التي توقع على الاتفاقية.
وبعد توقيع كينيا، شن رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي هجوما حادا على مصر، منتقدا موقفها الرافض لإعادة توزيع حصص المياه، قائلا: "مصر مازالت تسيطر عليها أفكار بالية وهي أنها تمتلك مياه النيل وهي من تحدد وحدها الحصص بين دول حوض النيل ". وشدد على أن مصر ليس من حقها منع إثيوبيا من إقامة سدود على نهر النيل، وزعم أن السودان ليس المشكلة وإنما مصر هي المشكلة فقط .
وقد كان لهذا التوقيع، وتلك التصريحات العديد من الدلالات، من بينها:
ـ محاولة فرض أمر واقع جديد علي مصر, وذلك بمحاولة وضع نهاية للمفاوضات, وفرض رؤية خاصة تتجاوز المصالح المصرية.
ـ معادلة التفاوض التي حكمت المسار التفاوضي, والتي ثبت عدم فاعليتها في تجاوز العقبات. فقد استندت هذه المعادلة إلي رؤية مصرية سودانية تقوم علي الحقوق التاريخية المكتسبة مع تصور تنموي يساهم في زيادة كميات المياه بالقدر الذي يلبي احتياجات الجميع من المياه, في المقابل استندت دول المنبع إلي أبعاد سياسية تتعلق بمفهومها للسيادة الوطنية ومفهوم مختلف للتنمية في الحوض لا يرتبط بالتعاون مع مصر بشكل رئيسي.
ـ حالة الترقب التي منعت باقي دول المنبع (بوروندي, الكونغو الديمقراطية) من التوقيع علي الاتفاقية حتي الآن, في انتظار رد الفعل المصري.
ـ مؤشر الخطر علي مستقبل التعاون الجماعي في الحوض والذي ارتبط بمحاولة تسويق رؤية الدول الموقعة, بأنها تمتلك من موازين القوي والأوراق التي تمكنها من الاستغناء عن التعاون مع مصر, وبالتالي طرحت مهلة زمنية تمتد عاما للتوقيع ( تنتهي في مايو2011), أو الخروج من المبادرة, بما يعني عدم قابلية الإطار الموقع للتغيير.
وتنطوي هذه الدلالات على محاولة تخلص دول المنبع من القيد المصري علي مشاريعها ورؤيتها ـ ولو نفسيا ـ مع الاحتفاظ بورقة الجهات المانحة والراعية للمبادرة، والسعي نحو ما اسماه البعض "معادلة صفرية من جانب دول المنبع حيث تحصل علي كل شئ, ومصر والسودان لا تحصلان علي شئ".
الإدارة المصرية للأزمة:
طالبت مصر خلال الشهور الأخيرة بعقد العديد من الاجتماعات لدول حوض النيل، منها اجتماعات الإسكندرية، يوليو 2009، ثم اجتمعت دول حوض النيل في شرم الشيخ (أبريل 2010) لبحث ما يمكن عمله للتوفيق بين دولتي الحوض (مصر والسودان) ودول المنابع، ضمن اتفاق الإطار الذي نظمته اتفاقية 1929، والتى نظمت العلاقة على أساس ما تملكه كل دولة أو إقليم من أراض زراعية. وقد عملت مصر بأسلوبين لتأمين مصادرها من مياه النيل، الأول: الإصرار على اتفاقية الإطار، باعتبارها اتفاقية دولية نافذة، والثاني، العمل على إقامة علاقات طيبة وتعاونية مع دول منابع النيل، وسائر الدول الأفريقية. فقد ساعدت مصر في تحرير دول القارة من الاستعمار، وقدمت لها مساعدات كبيرة للتنمية وتحقيق الاستقرار، ومن ضمن ذلك في السنوات الأخيرة اتفاقيات كثيرة مع إثيوبيا. إلا أن السنوات الثلاثين الأخيرة، شهدت انكماشا وترديا في العلاقات أو جمودا بين مصر وكل دول النيل الأخرى، بما في ذلك السودان، ولذلك انتهى اجتماع شرم الشيخ إلى وقوف مصر والسودان معا في جانب، وسائر دول النيل في الجانب الآخر.
فقد كانت مصر ومعها السودان، مستعدة لقبول بعض التعديلات في الاتفاقية بما يراعي حصص الدول الجديدة ومشروعاتها، كما أنها كانت مستعدة لزيادة المساعدات والمشروعات التنموية، لكن هذه الدول أصرت على نقض اتفاقية الإطار، وإعادة توزيع الحصص على أساسين: نسبة مساهمة كل دولة في مياه النيل، وتطورات الأراضي والموارد والحاجة للمياه في السنوات الخمسين الأخيرة. وهكذا انفض اجتماع شرم الشيخ على خلاف كبير.
وهذا الاجتماع وما انتهى إليه من خلاف، أكد تراجع دور مصر ونفوذها في القارة، وتهدد موقعها الأفريقي بالأخطار. خاصة فى ظل تعدد الأبعاد الدولية، السياسية والأمنية التي تثيرها أزمة المياه، وخاصة مع الحديث عن دور إسرائيلي نشط في هذه القضية، وكذلك الحديث عن قيام دولة جديدة فى جنوب السودان، ستسعي للحصول على حصتها من المياه، هذا فضلا على النزاعات التي ستنشب على الحدود بين شمال السودان وجنوبه. وغياب رؤية استراتيجية مصرية حول كيفية استيعاب آثار تفكك السودان على الأمن الاستراتيجي للبلاد.
ومع توقيع اتفاقية عنتيبي، دعت مصر لاجتماع رئاسي بين دول حوض النيل، واستقبل الرئيس مبارك رئيسا وزراء كل من كينيا والكونغو، وصدرت العديد من التصريحات الإيجابية عن هذه الدول، إلا أنه رغم هذه التصريحات، فقد كانت الإدارة المصرية محلا للعديد من الانتقادات والتحفظات، ومن ذلك:
1ـ أن مصر أهملت أفريقيا تماماً بما فيها دول حوض النيل ووصل الأمر أحياناً إلي خصومة مع تلك الدول، وبعدما كانت لمصر كلمة مسموعة بتقدير واحترام في جميع الدول الأفريقية أصبحت هناك معارضة ورفض وأصبح الدور المصري متقزماً ومتراجعاً. ووصل الأمر إلي الامتناع عن حضور مؤتمرات القمة الأفريقية منذ محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس مبارك في أديس أبابا عام 1995، واستمرت سياسات الإهمال لأفريقيا، في الوقت الذي تتطور فيه تلك الدول، وتدخل دول أخري لتحصل علي النفوذ المصري الذي كان في تلك الدول، كأمريكا والصين وإيطاليا وإسرائيل، وغيرها.
ووصل الأمر إلي أن المسئولين لم يكونوا يعلمون أن 4 دول فقط من دول حوض النيل هي التي وقعت علي الاتفاقية الإطارية، وقالوا إنهم استطاعوا أن يخترقوا دول حوض النيل ويثنوا 3 دول عن التوقيع علي الاتفاقية وهي، كينيا والكونغو وبوروندي، لتأتي كينيا وتوقع علي الاتفاقية، لتزيد من تفاقم الأزمة.
2ـ أن مصر الرسمية، وتحديداً الدبلوماسية، تراكمت أخطاؤها، بعد عهد عبدالناصر، بعد تراجع أفريقيا كأولوية فى أجندة السياسة المصرية، وتحول التراجع إلى تجاهل تام بعد حادث أديس أبابا، الذى لم ينصرف على إثيوبيا بل تعداه إلى هذه المنطقة بأكملها، رغم مشروع تجمع الكوميسا والمحاولا�
ساحة النقاش