شهدت الفترة الأخيرة تصاعدا في الكتابات والتحليلات حول مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، فخلال الأيام القليلة الماضية من العام الجديد، تم رصد (80) مادة إعلامية حول "الهيمنة الأمريكية"، و(60) مادة حول "الإمبراطورية الأمريكية"، و(40) مادة حول "المستقبل الأمريكي، وذلك في صفحات ومواقع الإنترنت الناطقة باللغة العربية فقط، وبطبيعة الحال الأرقام ستتضاعف عند محاولة الرصد في اللغات الأخرى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على المكانة التى تتمتع بها الولايات المتحدة في العالم، حاضره ومستقبله، وتأثيره على معظم ـ إن لم يكن كل ـ القضايا المحورية في العالم، تعاونية كانت أو صراعية، ثنائية كانت أو جماعية.

إلا أنه في مقابل هذا التصاعد الكبير في الاهتمام الفكري والبحثي والإعلامي بمستقبل الهيمنة الأمريكية، فإن هناك ندرة في الكتابات التى  تناولت طبيعة الاستجابات العربية في التعاطي مع هذه الهيمنة، أو تلك الإمبراطورية، حاضراً ومستقبلاً، ولم يحاول البعض ـ إلا ما ندر ـ البحث في كيفية هذه الاستجابات، وأنماطها، وتأثيراتها، إن كان لها تأثير، وما هو المطلوب من الدول العربية لتفعيل هذه الاستجابات.

فالولايات المتحدة ـ شئنا أم أبينا ـ قوة عظمي وستظل كذلك لعدة عقود قادمة، وليس من المنطقي أن ننتظر تراجعها أو انهيارها، حتى يكون لنا دور في المنظومة الدولية، أو أن تكون لنا القدرة على التحكم في قراراتنا ومقدراتنا، وسعياً نحو هذا الهدف، وبعد أن رصدنا في الجزء الأول من هذه الدراسة مؤشرات الصعود والهبوط الأمريكية([2])، نحاول فى هذا الجزء، الاقتراب من طبيعة الاستجابات العربية لمرحلة الهيمنة أو ما بعد الهيمنة الأمريكية، وذلك على النحو التالي:

أولاً: خصوصية مشروع الهيمنة الأمريكية وسياساتها

ثانياً: ضد الهيمنة .. البدائل والأطروحات

ثالثاً: العرب في مواجهة الهيمنة .. السياسات والتحديات

رابعاً: مستقبل الهيمنة .. والرهانات الخاسرة

أولاً: خصوصية مشروع الهيمنة الأمريكية وسياساتها:

فى 1990، وفى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وإعلان الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش قيام نظام عالمي جديد، قال نيوت جنجريتش (رئيس الأغلبية الجمهورية الأسبق بمجلس النواب الأمريكي): "إنّ أميركا وحدها هي القادرة على قيادة العالم، فهي تظل بالفعل الحضارة الدولية والشمولية الوحيدة في تاريخ البشرية، وفي غضون ثلاثة قرون أتاح نظامنا الديمقراطي البرلماني القائم على احترام حقوق المواطن، والحريات الفردية وحرية المبادرة، أكبر قفزة اقتصادية لكل العصور، إن قيمنا متبعة في العالم أجمع، وكانت تكنولوجيتنا التي غيرت أنماط الحياة هي العامل الأول للعولمة".

ويضيف: "وتتمركز قواتنا المسلحة اليوم في كل أنحاء المعمورة بطلب من الحكومات المضيفة، ليس بدافع السيطرة ولكن استجابةً لرغبة هذه الحكومات وشعوبها في الحرية والديمقراطية وحرية المبادرة. فأي حضارة أخرى في العالم غير أميركا أمكنها أن تحقق مثل هذه السيطرة على العالم دون قمع؟ .. إن أميركا هي الأمة العظمى الوحيدة ذات الأعراق المتعددة، الحريصة على الحرية التي تكفل لها الريادة .. وإن شاءت لنا الأقدار أن نختفي غداً فمن غير المرجح أن يكون لليابانيين أو الألمان أو الروس الإمكانية أو القدرة على قيادة العالم. فبدون حضارة أميركية حية فسوف تسود الهمجية والتخلف الحضاري والعنف والدكتاتورية أنحاء المعمورة".

وبعد أحداث سبتمبر 2001، أعلنت إدارة بوش عن عدد من الركائز الرئيسة لمشروع الهيمنة الأمريكي فى العالمين العربي والإسلامي، وبغزو أفغانستان، باشرت إدارة بوش هجوما شاملا لتحقيق أغراضها السياسية والاقتصادية والثقافية، ثم شنت حرباً عدوانية على العراق لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها وثقافتها، كما تبنت عدة توجهات، في مقدمتها، السيطرة على منابع النفط في منطقة الوسط الإسلامي الممتدة من ماليزيا في الشرق إلى موريتانيا في الغرب، ومن جمهوريات آسيا الوسطى في الشمال إلى القرن الأفريقي في الجنوب مرورا بحوض نفط بحر قزوين وباحتياطات النفط في منطقة الخليج وصولا إلى منابع النفط في السودان ونيجيريا، والسيطرة على البرزخ القائم بين شرق البحر المتوسط ومنطقة الخليج، لفصل العوالم الإسلامية الثلاثة، العربي والتركي والفارسي، عن بعضها، كتدبير استراتيجي استباقي لمنع تضامن العوالم الثلاثة في مواجهة مشروع الهيمنة الإمبراطوري الأمريكي، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، العمل على إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسيا وثقافيا على نحوٍ يؤدي إلى تفتيت دولها، لدويلات أو هزيلة تقوم على أسس مذهبية وقبلية، وتصفية قضية فلسطين وفق شروط إسرائيل بإقامة كيان فلسطيني هزيل بلا سيادة، مجّرد من السلاح، وحرمان اللاجئين حق العودة، والتأكيد على اعتبار الأردن دولة الفلسطينيين، وأمركة دول المنطقة بإقامة نظم تابعة وفق المواصفات الأمريكية تعتمد اقتصاد السوق وحرية التجارة، وتنفتح على العولمة، وخلق طبقة سياسية عمادها رجال الأعمال وحلفاؤهم من الجماعات المذهبية وأجهزة الاستخبارات وزعماء العشائر([3]).

ومن ناحية ثالثة، احتواء إيران عبر قبولها قوة إقليمية، وإفساح المجال لها في آسيا الوسطى، وقبولها شريكا ثانويا في العراق، والخليج لتخفيف اندفاعها وإشراكها في النظام الإقليمي ومستلزماته، والتحول إلى إستراتيجية التفاوض، والتعاون الاقتصادي والأمني مع تصعيد الحملة الإعلامية والأمنية والسعي للعبث في بنيتها الداخلية والرهان على الليبرالية والقوى الاقتصادية الموالية. مع تحصين الخليج، بالقواعد والسلاح، وتعزيز دور دول مجلس التعاون الخليجي، ورفده باليمن بعد إجراء تعديلات في نظامها، وتحجيم الخطر الإيراني على آسيا، وخاصة على روسيا من خلال تصعيد الأزمات في دول جوار إيران الآسيوية، وتصعيد بؤر التوتر لإشغال إيران وآسيا معا، والسعي لعزل إيران عن الصراع العربي الصهيوني بمحاولة سحب ذرائع حزب الله في لبنان، واحتواء حماس والجهاد في فلسطين عبر السعودية ومصر، وتقديم إغراءات لسورية، والعمل على إعادة هيكلة تركيا لتكون قوة إقليمية صلبة موالية للغرب للتأثير على صعود إيران والتوازن مع سورية.

ومن ناحية رابعة، احتواء سورية دبلوماسيا، واقتصاديا، بتخفيف الحصار وإعادة تفعيل عقد الشراكة الأوروبية المجمد معها، وتعزيز انخراطها في الشراكة من أجل المتوسط والسعي للاستثمار في خطط التطوير والانفتاح الاقتصادي وتعزيز الاستثمارات الدولية والخليجية فيها، وفي الوقت نفسه إحياء التوترات الاجتماعية والاثنية في سورية، وتوتير المناطق المحاذية لحدودها الشمالية، وإثارة قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في سوريا، كأوراق ضغط تستخدمها وقتما تشاء.

ومن ناحية خامسة، تصعيد التوترات الطائفية، والسياسية في مصر، والاستثمار بالأزمات لتفويض الجيش بإدارة الأمور بعد استنفاذ الطبقة السياسية والحاكمة مشروعيتها وقدراتها، مع احتواء التوترات المتصاعدة في الأردن، وقطع الطريق على التحولات الجارية في الحالة السياسية والاجتماعية بتصعيد دور الجيش، أو تغيير في توازنات تيارات الأسرة الحاكمة، أو تصعيد التوترات على أساس فلسطيني أردني، سعياً نحو جعل الأردن الوطن البديل لاحتواء الفلسطينيين.

لكن هذه التوجهات وتلك السياسات التى قام عليها مشروع الهيمنة الأمريكي في المنطقة اصطدم بعدة تحديات، داخلية وخارجية، من بينها:  التطورات العولمية، فقد أنشأت الشبكة العنكبوتية مراكز قوة اقتصادية وإعلامية طرفية، على حساب احتكار المركز لعدة قرون سابقة، والصعود السريع لآسيا،  بقيادة ثلاثية تضم روسيا، والصين، والهند، وتفاعل هذه القوى مع اليابان، وتشكيلها منظمة شنغهاي التي تتسع، وتأخذ طابع القوة الإقليمية المنسقة، ما يجعلها قادرة على احتلال موقع الصدارة عالميا على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، وصعود دول طرفية فى الجنوب، كالبرازيل، وجنوب إفريقيا، وتداعي الهيمنة الأمريكية على أمريكا الجنوبية وتسارع تحررها وانعتاقها من السيطرة التقليدية الأمريكية، وتراجع قدرة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وخاصة بريطانيا، على تحمل أعباء استمرار المغامرات الخارجية والحروب المستمرة، التي فقدت مبرراتها وجدواها وأخذت تنقلب نتائجها في صالح الشعوب وقوى التحرر.

وهذه التحديات وغيرها، أدت لتراجع الرهان الأمريكي على القوة الصلبة، والاحتلال العسكرى المباشر، والسعي لتهدئة الأزمات، والتوقف عن افتعال الحروب، وتراجع الحديث عن "حرب الحضارات"، و"الحرب على الإسلام"، و"الحرب الثقافية"، والعمل على امتصاص الغضب الشعبي العربي والإسلامي، وبذل مزيد من الجهود لتحسين الصورة الأمريكية، مع العمل على إلحاق الاقتصاديات العربية بالاقتصاد الأمريكي، والحيلولة دون توجهه سواء شرقا، باتجاه القوى الآسيوية الصاعدة، أو الاعتماد على الذات، مع السعي للاستثمار في القوى الإقليمية الجديدة واحتوائها، ومحاولة توظيفها في التوازنات الدولية الراهنة.

ثانياً: ضد الهيمنة .. البدائل والأطروحات:

في ظل عالم تغلب عليه الأحادية القطبية، تحولت القوة العظمى في العالم إلى مصدر تهديد للقوى الرئيسة الأخرى، فالولايات المتحدة تقوم على إثارة الفوضى في الأقاليم التي ترتبط بمصالح هذه القوى، وأصبح هناك شعوراً واسعاً بالاستياء بل والكراهية أحياناً، لمجمل السياسات الأمريكية، تحول إلى نوع من العمل ضد مشروعات الهيمنة التى تستهدفها هذه السياسات، حيث شهدت السنوات العشر الأخيرة بعض الأعمال المشتركة المضادة للهيمنة، فالعلاقات بين المجتمعات غير الغربية في تحسن، بدءاً من لقاء موسكو بين قادة ألمانيا وفرنسا وروسيا، إلى اللقاءات الثنائية (بين الصين وروسيا، الصين والهند، إيران والسعودية) ومؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي، فى إيران، وفكرة "المثلث الاستراتيجي"، بين روسيا والصين والهند، وتعزيز الاتحاد الأوروبي وإصدار العملة الأوروبية الموحدة.

إلا أن هذه المحاولات، لا ترقي للقول بوجود تحالف مضاد للولايات المتحدة، أوسع قاعدة وأكثر نشاطاً، يمتلك القدرة علي مواجهة سياسة التفرد التي تتبناها، أمام عن اتجاهات تفسير عدم قيام هذا التحالف، رغم مؤشرات التراجع الراهنة في القوة الأمريكية، وفقاً لصمويل هنتنجتون، فهى:

الاتجاه الأول: يري أن الوقت لم يحن بعد، فمع مرور الوقت يمكن أن يتصاعد الرد على الهيمنة الأمريكية من الاستياء والخلاف إلى المعارضة والعمل الجماعي المضاد، كما أن خطر الهيمنة الأمريكية أقل إلحاحاً وتركزاً من خطر الغزو العسكري.

الاتجاه الثاني: يري أنه إذا كانت هناك دولاً تشعر بالاستياء من قوة الولايات المتحدة، إلا أنها ترغب في الاستفادة منها، فالولايات المتحدة تكافئ البلدان التي تسير وراء قيادتها الأمريكية، من خلال: السماح بالدخول إلى السوق الأمريكية؛ والمعونة الخارجية؛ والمساعدات العسكرية؛ والإعفاء من العقوبات؛ والسكوت عن الانحراف عن النماذج الأمريكية، والدعم للحصول على عضوية المنظمات الدولية؛ والرشوة ودعوة القادة السياسيين لزيارات للبيت الأبيض. إلا إنه بمرور الوقت، وتراجع قوة الولايات المتحدة، فإن المنافع المترتبة على التعاون معها، سوف تتراجع بدورها، وكذلك تكلفة معارضتها والمواجهة معها، وهو ما يعزز إمكانية قيام تحالف مضاد للهيمنة في المستقبل.

الاتجاه الثالث: يري أن السياسة العالمية في المرحلة الراهنة متعددة الحضارات، فهناك العديد من الدول لها مصالح مشتركة في تحدي هيمنة الولايات المتحدة غير أن ثقافاتها المختلفة، تجعل من الصعب عليها تأسيس تحالف فعال، كما أن فكرة المساواة القانونية بين الدول القومية لا تلعب دوراً ملحوظاً في العلاقات بين المجتمعات غير الغربية، ويمكن أن تكون الاختلافات الثقافية عقبة في طريق ائتلاف القوى الرئيسية للتحالف ضد القوة العظمى.

الاتجاه الرابع: يري أن مصالح القوة العظمى تلتقي ومصالح القوى الإقليمية الثانوية في العمل ضد القوى الإقليمية الرئيسية، ومن هنا ستكون للقوى الإقليمية الثانوية حوافز قليلة للانضمام إلى ائتلاف ضد القوة العظمى.

وفي إطار هذه التيارات انتهى هنتنجتون إلى أنه سيكون لتفاعل "القوة" و"الثقافة"، دور حاسم في تشكيل نماذج التحالف والصراع بين الدول، فمن المرجح قيام تعاون بين البلدان ذات الثقافة المشتركة، وقيام تناقض بين البلدان التي لها ثقافات مختلفة. وهذا التفاعل بين عاملي القوة والثقافة يعنى أن الولايات المتحدة ستكون علاقاتها صعبة مع القوى الإقليمية الرئيسة، وينبغي أن يكون لها علاقات تعاون معقولة مع القوى الإقليمية الثانوية، وخاصة تلك التي لها ثقافات متماثلة.

ولكن مع مراعاة عدة اعتبارات يمكن أن تنال من قدرات الولايات المتحدة على التحرك في خططها ومشروعاتها، ومن ذلك:

1ـ ضغط الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها سياسات إدارة بوش، وبلوغها مرحلة التأثير على الانتخابات، وعلى التوجهات الأمريكية الخارجية، وتضافرها مع قضايا السياسات الخارجية والتورط العسكري خاصة في الشرق الأوسط.

2ـ حدوث متغيرات نوعية في توازن القوى الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في المؤسسة الحاكمة وتكتلاتها الاقتصادية، وتراجع حجم ووزن عدد من القطاعات الحيوية، كالقطاع التكنولوجي، وقطاع المصارف، وصناديق التمويل، والرهن العقارية، واستنفاذ قطاع التصنيع الحربي فرصته بعد أن كلفت الحروب والمغامرات الولايات المتحدة مبالغ هائلة دون أن يعكس إنعاشا للاقتصاد، وسقوط نظرية تصدير الأزمات ومعالجتها بالحروب.

ـ حدوث تغيرات في توازن القوى الاجتماعية، في الولايات المتحدة، مع تراجع هيمنة العنصر الأنجلوسكسوني، وافتقاده للجاذبية، والقدرة على احتكار السلطة، وضعف مخرجات السياسات الاجتماعية، والأزمة الاقتصادية في العديد من القطاعات وخاصة القطاع العقاري والمالي.

ثالثاً: العرب في مواجهة الهيمنة .. السياسات والتحديات:

وفقاً لعدد من التيارات السياسية الإسلامية، فى الدول العربية والإسلامية، تمثل مقاومة الهيمنة الأمريكية فريضة شرعية وضرورة استراتيجية للأمة، استناداً إلى أن نجاح أى مشروع لنهضة الأمة مرهون بالتعامل المباشر مع التحدى الخارجى المعيق، وإحداث خلخلة فى النظام الدولى الآسر للأمة بالتصدى لرأس هذا النظام ومركز الثقل فيه، وهذا التصدى يعنى تبنى استراتيجية المقاومة ضد الولايات المتحدة، بأبعادها المختلفة، إلى أن تزول هيمنتها عن الأمة وتنتهى حالة الأسر الجماعى وتسنح الظروف لتحقيق مشروع نهضة الأمة.

ولذلك يجب أن تقوم إستراتيجية مواجهة الهيمنة، وفق هؤلاء، على مسارين، الأول: الاستراتيجى الأعلى والذى يصب فى التعامل مباشرة مع المعادلة الدولية من خلال تفكيك مركز الثقل باعتباره الحلقة التى تمسك بقية الحلقات الأخرى، والثانى: المسار الدفاعى، من خلال العمل الإسلامى ذى الصبغة الجماهيرية الذى يصب فى مواجهة فروع المشروع فى إطار المجال ذاته من عمل ثقافى وإعلامى وسياسى وتربوى ([4]).

وفى إطار هذه الإستراتيجية تبرز أهمية عدة سياسات، في مقدمتها:

1ـ اقتصادياً: لمواجهة هيمنة الاقتصاد الأمريكي على اقتصاديات دول العالم يجب تعزيز إقامة تكتلات اقتصادية بين الدول للتبادل التجاري وتنشيط العلاقات الاقتصادية في شتى القطاعات، والتوسع فى استثمار الموارد المحلية، ذاتياً أو بتكاملها مع دول الجوار وإقامة الاستثمارات والصناعات المشتركة بين الدول المتجاورة لخلق فضاءات ومناخات اقتصادية متجددة تتكامل فيها الأسس، مع فتح المجال لتعاون أوسع مع تكتلات متجاورة، وصولاً إلى تحقيق الاستفادة القصوى من الخبرات الفنية والمهارات اللازمة لتطوير اقتصاديات دول المنطقة.

2ـ ثقافياً: منذ عدة قرون، والغرب يعمل على تعزيز إنتاجه الثقافي وتطوير إمكاناته العلمية والتقنية، إلى أن صارت حضارته وثقافته هي المهيمنة على معظم بقاع الأرض. واستخدمت الدول الغربية نفوذها وإمكاناتها العسكرية في إخضاع الكثير من الشعوب في آسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، ثم وجدت أن الهيمنة الثقافية أفضل جدوى وأقل تكلفة، فأخذت في تدعيم نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي.

وفى مقدمة دول الغرب، تأتي الولايات المتحدة، التي تمسك الآن بزمام الحضارة، وتضع شروط النهضة، وتبلور مواصفات الثقافة المطلوبة للتقدم، وهى لا تفعل ذلك فقط، من منطلق التهديد باستخدام القوة، وإنما أيضاً اعتماداً على ما لدي ثقافتها وأوضاعها الحضارية من جاذبية وإغراء للأمم والشعوب الأخرى، وأصبحت تمارس هيمنة واسعة على مستوى العالم، ومواجهة هذه الهيمنة لا يمكن أن تتم إلاّ من خلال تقوية ثقافتنا العربية الإسلامية، من خلال النقد الذاتي لأوضاعنا الثقافية السائدة، وتحسين مستوى إنتاجنا الثقافي، وبناء إستراتيجية ثقافية تُعلي من قيمة الإيمان والنزاهة والاستقامة السلوكية، إلى جانب التركيز على أخلاقيات العمل مثل الإنجاز والجدية والدقة والتعاون والجودة، مع التأكيد على أن الوعي بمقدراتنا الذاتية ومقدرات غيرنا يُعدّ شرطاً مسبقاً وضرورياً لبناء وفاعلية هذه الإستراتيجية.

3ـ إستراتيجياً: تطوير قدرات الدول العربية والإسلامية، وتعزيز التواصل بين مجتمعاتها، من خلال إنشاء مواقع بحثية متطورة، وتوفير برامج تعليمية/ تدريبية مهنية مكثفة، لتطوير القدرات الفقهية، والتعامل مع النصوص الشرعية باحترافية، وإنشاء مؤسسة استشارية متخصصة تهدف إلى نشر ثقافة ومنهجية تخطيط المسار المهني. وإنشاء شبكة إلكترونية اقتصادية ومعرفية إسلامية عالمية، مع إنشاء مؤسسة دينية متخصصة، تقوم بتوفير مختلف الدورات التثقيفية والتعريفية عن الدين الإسلامي، لمختلف الشرائح والفئات الثقافية من المسلمين وغير المسلمين.

والعمل على إصلاح الفكر والخطاب الإسلامي، وتصحيح المفاهيم والممارسات الإسلامية المحرَّفة، والتوسع فى توجيه الرسائل الإعلامية، التى تتضمن المعلومات والرسائل والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية، المستهدف نشرها وترويجها وترسيخها، من خلال أدوات ووسائل الإعلام المختلفة، الجادة والموضوعية، والعمل في الوقت نفسه على تحديد الممارسات والسلوكيات والثقافات المطلوب من جميع مكونات الأمة الإسلامية ممارستها على المستوى اليومي لحياتهم، والسعي لترسيخها في سلوكياتهم([5]).

رابعاً: مستقبل الهيمنة .. والرهانات الخاسرة:

يقول أحد المفكرين([6])، "ما زال الخلاف عميقا حول مستقبل الولايات المتحدة كقوة عظمى وقدرتها على القيام بدور القائد بدلا من دور المهيمن في النظام الدولي، فالبعض يقول بتراجع النفوذ الأمريكي في النظام العالمي لكنه يعتقد أن الولايات المتحدة ستظل لاعباً رئيساً فيه لفترة طويلة مقبلة، والبعض الآخر يعتقد أن تراجع النفوذ الأمريكي في النظام الدولي سيتواصل وسينتهي حتما بانهيار الإمبراطورية الأمريكية، وهو ما سيفتح الباب نحو تشكيل نظام عالمي جديد مختلف تماما عن النظام الحالي. إلا أنه أيا كانت الرؤية، فإن الأمر يتطلب التحذير من الاستسلام لعالم الأوهام، فانهيار الإمبراطورية الأمريكية لا يعنى بالضرورة أن ما بعدها سيكون بالضرورة أفضل لمنطقتنا، خصوصا إذا أصرت النظم الحاكمة على رفض القيام بالإصلاحات التي تسمح لشعوبها بالمشاركة الفعالة في صنع مستقبلها".

ومن جانبه يرى أحد الباحثين([7])، أن مستقبل مكانة الولايات المتحدة ودورها الفاعل عالميا، يرتبط بمدي قدرتها علي التعامل مع مستجدات هذا النظام العالمي الجديد الذي يشهد صعود قوي جديدة، وجماعات، ومنظمات تملك من القوة ما يجعلها ذات قوة وتأثير يفوق بعض الدول القومية. فعلي الرغم من كونها القوة العسكرية الكبرى في العالم، فإننا نجدها اليوم تتعثر بشدة في حروبها التوسعية، ونجد اقتصادها يضعف أكثر فأكثر بسبب المنافسة الشديدة التي يتعرض لها من قبل اقتصادات القوي الصاعدة الأخرى. وفي حال تكيف الولايات المتحدة مع تلك التحولات، وتعاونها بشكل أفضل مع القوي الصاعدة فإننا سنشهد انتقالا سلسا وسلميا إلي نظام تعددي جديد من دون كوارث وحروب، تكون الولايات المتحدة فاعلا رئيسيا فيه بجانب بعض القوي الأخرى".

وبين وجهتى النظر، تقول وجهة نظر ثالثة([8])، "أنه إذا كانت الهيمنة الأمريكية قائمة، فليس ذلك بسبب ما تتمتع به الولايات المتحدة من قوة قهر وردع وإقناع وإنما بسبب الطلب العربي المتنامي عليها. فقد خسرت الولايات المتحدة معركة الهيمنة العالمية، بخسارتها معركة السيطرة الأحادية على الشرق الأوسط، وقبلت بأن تدخل شريكة للقوى الأخرى في إدارة شؤون المنطقة، بما في ذلك قوى إقليمية محلية. فالهيمنة الأمريكية في مرحلة أفول، لكن المشكلة أنه لا توجد عند العرب قوة، تتحلى بحد أدنى من المصداقية الإستراتيجية والسياسية والأخلاقية، يمكن أن تملأ الفراغ الذي يتركه أفولها. وهذا ما يفسر الصعود المستمر والسريع للنفوذ الإيراني ثم التركي في العالم العربي. وما تبقى للولايات المتحدة من هيمنة يرجع الفضل الرئيس فيه إلى إرادة النخب العربية. فمعظمها تشعر بأن كفالة الولايات المتحدة ضرورية لها لضمان استقرار نظمها وأمنها.

فالتحدى، وفقاً له، ليس في الهيمنة الأمريكية وإنما في النظم العربية التي تستدعي هذه الهيمنة وتطلبها، بمقدار ما أصبحت تفتقر، بسبب خياراتها السياسية والإستراتيجية، لأسباب الحياة الطبيعية والشرعية الدستورية، وإذا لم ننجح في معالجة أزمتنا العربية التاريخية، والخروج منها نحو آفاق جديدة، ستكون الفوضى هي البديل، ولن يكون للاستقلال ولا للوطنية والقومية أي قيمة أو معنى".

وأمام هذه الرؤى وتلك التوجهات، والتى تستند فى تحليلاتها إلى العديد من الأرقام والإحصاءات، بعضها دقيق، وبعضها الآخر مبالغ فيه، حول معدلات الانهيار والتراجع الأمريكي، وأن هذه الإحصاءات كفيلة بسقوط الإمبراطورية الأمريكية، تأتي أهمة التأكيد على عدد من الملاحظات الأساسية، حول مستقبل الهيمنة الأمريكية، ومستقبلنا نحن، مع أو بعد هذه الهيمنة:

1ـ ضرورة عدم الرهان على استخدام الأرقام والإحصاءات الدالة على التراجع الأمريكي، كمؤشر على انهيار الهيمنة الأمريكية، لأن نفس أرقام وإحصاءات التراجع تشهدها معظم دول العالم ، وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية، فلماذا الاستشهاد بالأرقام والإحصاءات الأمريكية، وعدم الاستشهاد بها كمؤشر على تراجع وانهيار هذه الدول؟

2ـ عدم المراهنة على الانهيار الأمريكي استناداً للانقسامات العرقية الداخلية، لأن نفس العامل مرشح للانفجار في الدول العربية والإسلامية، ولا توجد دولة عربية الآن لا تعاني من مثل هذه الانقسامات، والتى يزيد من خطورتها في الواقع العربي، مقارنة بالواقع الأمريكي، ارتباطها بأبعاد دينية ومذهبية، وعرقية وقبلية وجغرافية.

3ـ عدم المراهنة على الانهيار الأمريكي استناداً لتراجع دور الدين، وتصاعد معدلات التفسخ القيمي والأخلاقي، لأننا لسنا بمعزل عن هذا التراجع وذلك التفسخ، بدليل تعدد التشريعات والقوانين المقيدة للحريات الدينية في معظم الدول العربية، والغياب شبه المطلق لتأثير الدين على حياتنا السياسية والاقتصادية بل والاجتماعية، وتغلغل الثقافات الوافدة على حساب ثقافتنا، ونظرة البعض لهذا التغلغل على أنه مؤشر على الرقي والمدنية.

ومن هنا يمكن القول، أنه إذا كانت هناك مؤشرات للانهيار والتراجع الأمريكي، فهناك مؤشرات للانهيار والتراجع العربي والإسلامي، وإذا كنا نراهن على تقدمنا وتفوقنا بالتراجع الأمريكي، فلن نتقدم أبداً، فإرادة التقدم يجب أن تكون ذاتية، ونابعة من قيمنا وأصولنا الحضارية والدينية والقيمية، مع الأخذ بكل مظاهر التقدم في الحضارات الأخري، دون الرهان على مؤشرات تراجعها وانهيارها.



([1]) كاتب وأكاديمي، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

([2]) رابط الجزء الأول: http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/analysis-opinions/world-affairs/127468-usa.html

([3]) د. عصام نعمان، نحو مواجهة مشروع الهيمنة الإمبراطوري الأمريكي، ورقة قدمت إلى المؤتمر العربي العام، بيروت 24ـ25 ابريل 2003.

([4]) د. حامد عبد الماجد قويسى، الأبعاد الاستراتيجية لمقاومة الهيمنة الأمريكية، المنار الجديد، القاهرة، دار المنار الجديدة للنشر، السنة السابعة، عدد 26، أبريل 2004، ص 26 ـ 27.

([5]) عباس آل حميد، الاستراتيجية الإسلامية 2010: خطة مقترحة للنهوض بالأمة الإسلامية، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات, الطبعة الأولى، 2010

([6]) د. حسن نافعة،

  • Currently 43/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
14 تصويتات / 438 مشاهدة
نشرت فى 25 يناير 2011 بواسطة ForeignPolicy

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

104,752

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية