بدأت الدعوة الوهابية تجديدية في إطار الشريعة الإسلامية، وكانت دعوتها لتنقية الإسلام – كدين محل ممارسة – من البدع والخرافات التي ألصقتها به بعض الحركات الاجتماعية والدينية. غير أن تمدد الإطار العقدي لها جعلها على شفير معاداة الاجتماع الإنساني والتعايش داخل البلدان التي تجد لها فيها أنصارا. وبات طرح قضية التجديد داخل الرؤية الوهابية وأطيافها طرحا تعكسه الحاجات الاجتماعية لمجتمعات النشأة والتصدير. هذه الورقة تحاول أن تسهم في التعرف على ملامح هذه الأطروحة والاستجابات التي ظهرت في إطارها.
الوهابية.. دواعي التجديد
إن الوهابية كدعوة - بالنظر لخصائصها المفتقرة للخطاب الاجتماعي - لم تكن قادرة على الخروج لعموم الناس؛ وبخاصة المناطق الحضرية، مما دعا الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الاعتماد على البوادي، وعلى القوة السياسية التي دعمته برجالها وأسلحتها، بحيث اعتمد على الجانب السلطوي في التغيير أكثر من اعتماده على الجانب الإقناعي، وإذا كان للحركة الوهابية في بداياتها دور فعال في التغيير والحصول على استجابة أهل البوادي لها، وفي فرض المذهب على أهاليها، وحدوث تغير اجتماعي ملموس من الانحراف السلوكي العقدي باتجاه الانضباط وإقامة حدود الشريعة من حيث الظاهر، إلا أنه لم يكن ليستقر ويشارف على الاكتمال حتى تكتنفه الحروب الدامية والرغبة في العدوان.
كان هذا مما دفع البعض إلى القول بأن الحركة الوهابية كانت تمثل حلاً مرحلياً، وذلك لإهمالها جوانب أخرى من الحياة كان من الضروري أن تعيرها اهتمامها، حتى يحدث التكامل بين الدعوة والتطبيق، ولذلك فإن تطبيق مبادئ الوهابية الفرعية لم يكن ليستمر حتى عهود طويلة، في ظل اعتبارين:
<!--أولهما استعمال العنف في تطبيق المبادئ.
<!--والثاني المحافظة الشديدة، وعدم تقدير الاعتبارات الاجتماعية.
ولو اقتصرت الحركة على الدعوة الفردية الهادفة إلى إصلاح القلوب والأفكار فصلا عن المجالات الأخرى، لكان جائزا لها تبرير هذا التقصير، لكنها تقلدت السياسة وتحملت مسؤولية المجتمع روحيا وماديا فكان لازما عليها أن تبرز فعاليتها في المجالين وتعطي كل منهما حقه من العناية. لكن الحركة اصطدمت بضعف القدرة على التخفيف من حدة الصراعات المذهبية وتوطيد التجانس والتآلف الاجتماعي الداخلي، وكذلك محدودية الرغبة الفعلية في التجديد، ليس تجديداً في الأصول، ولكن تجديد في المفاهيم لتلك الأصول، وإصلاح مفهوم الإصلاح نفسه بأسلوب مخالف للنمط الذي تأسست عليه الحركة الوهابية وسلكه زعيمها.
وهنا نصبح أمام إشكالية كبيرة، تتمثل في إلى أي مدى "الوهابية" - مذهباً كانت أم حركة - مؤهلة للتغيير الاجتماعي على نفس الأسلوب الذي أحدثته في بداياتها بعلمائها الحاليين ومستوياتهم؟ وهل تحتاج إلى زعامة روحية متجددة تكون في مستوى محمد بن عبد الوهاب وقدرته على تثبيت دعائم مذهبه بغض النظر عن خلفياتها وظروفها؟ ولو فرضنا جدلا وجود شخصية كمحمد بن عبد الوهاب في حماسته لمذهبه وتشدده في تطبيقه، فهل هذا الحماس وحده يعد كافياً لكبح جماح التغيرات وتياراتها الحادثة في المجتمع الوهابية؟.
إن الأمر يفرض على علماء الوهابية إعادة النظر في مناهج فكرهم، وخاصة من الجانب الأخلاقي والتفسير العقدي لتوجه الآخرين قبل التفكير في تصديرها إلى الخارج، والمدرسة الوهابية لا تخلو من علماء أجلاء، يملكون القدرة على تصحيح الأخطاء التي وقع فيها البعض من علمائها، من غير خلفيات مذهبية ونزعات طائفية تزيد الوضع تشرذما وتفتتا وفتنة، وهنا يمكن للوهابية، فكراً وممارسة، أن تصمد في وجه التغيرات وتكون بمؤهلاتها وتوجهاتها دعما مهما للمسلمين في بقاع الأرض على مستوى التعاون والحوار البناء(1).
لقد تبنت الوهابية منذ تأسيسها دعوة تجديدية أطلقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، انطلقت من المذهب الحنبلي، ولكن بمرور الزمن اختطت خطا خاصا بها أبعدها تدريجيا عن المدرسة الحنبلية، وخصوصا مع ازدياد صدور آراء وفتاوى من بعض طلبة العلم المحسوبين على مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيدة عما أمر به الشيخ نفسه في بعض رسائله، وبات هناك إهدار لقيمة العقل والاجتهاد، ورفض لإنجازات وتراث السلف من نتاج هائل للعلوم عرف من خلال التراجم والتدوين واعتبر ذلك كله علما غير نافع.
وإذا كانت الوهابية قد أحيت كثيرا من السنن، واهتمت بالأسانيد، ونوهت لبعض البدع، فإنها أصبحت تعاني من أوجه قصور منهجية في خلفيتها الفكرية وبرامجها العملية، تتعلق بعدد من المحاور الأساسية التي يقوم عليها منهجها المعاصر، ومن ذلك:
1- تضخُّم الاحتفال بالمندوبات، وتضاؤل الاهتمام بالوجبات وفرائض الوقت، ومن ثم حدث انقلاب في فقه مراتب الأعمال، فقد انقلب سُلم الأولويات، ووقع تضخيم وتقزيم بغير حق. والخلل في ترتيب تلك الأولويات له نتائجه السلبية فكرا وممارسة.
2- حشو العقول بالمتون، وحفظ الشروح، واستيعاب الهوامش، والاستغراق في فقه الفروع، وهذا الاستغراق في الفروع لا يلبي حاجات الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، ولا يجيب على الأسئلة الكبيرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم.
3- الضغط على حرية الآخرين، ومنح الذات حق الوصاية على الجميع، فالكل يجب أن يدين بالفقه الوهابي الحديث وتطبيقاته. وفي سبيل ذلك استباح البعض عِرض المخالفين وربما دماءهم، ودخلت الحركة الوهابية في صراعات كبيرة، وخاصة حول المفاهيم الفكرية والقيم الأخلاقية.
4- التضخيم من أهمية عدد من الممارسات كالأضرحة والمقامات، ومهاجمة كل من يتوسل بالأولياء ودمغه بالشرك، واعتبروها فيصلا بين الحق والباطل والشرك والتوحيد، وبمثابة أهداف قامت الحركة الوهابية من أجلها، ويظهر من هذه الأفكار مدى بعدها عن السياسة والإصلاح والنهوض بالأمة، أو تربية الناس ورعايتهم والرأفة بهم. في الوقت التي أعلت فيه من فكرة الطاعة المطلقة للإمام، بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أو الالتزام بالقانون، وتهميش دور الأمة في الرقابة والإصلاح الاجتماعي أو المعارضة.
5- الالتباس في المرجعية ومصادر الشريعة، فتقديس التاريخ والأشخاص، أدى إلى اختلاط مصادر التشريع، مما أدى إلى حجب القدرة العقلية، وتعطيل النظرة الشاملة والعميقة لحاجاتنا ومشكلاتنا، كما أن الخلط بين الوحي والأشخاص في المرجعية، يؤدي إلى تجسيد المبادئ في أشخاص( 2).
وأمام هذه السلبيات برزت بعض الأصوات من داخل التيار السلفي السعودي تنادى وضرورة إحداث قراءة ومراجعة جديدة للسلفية السعودية لإخراج ما لحق بها من شوائب وإعادتها إلى سويتها الأساسية، حركة تجديدية وتطويرية صادقة تتم فيها مكاشفة أمينة لإظهار مكامن الخطأ(3).
وتعاطياً مع هذه الدعوة، يرى د. يوسف القرضاوي، إن مفهوم التجديد الديني لا ينافي السلفية، والتجديد الحقيقي لأمرٍ ما لا يعني إلغاءه، واستحداث شئ جديد مكانه، بل العودة إلى جوهره ومعالمه وخصائصه ومقوماته، وهذا يتطلب المصالحة والموائمة بين السلفية والصوفية كمعلم هام من معالم الوسطية الفكرية، بالعمل على "تصويف" السلفية، و"تسليف" الصوفية، لإيجاد سلفية متصوفة، أو صوفية متسلفة، مع أهمية الدعوة إلى التسامح والتعايش مع الآخرين كمطلب أساسي من وسطية الفكر وسلامة العقيدة، وليس كما هو قائم الآن من بعض المتشددين برفضهم العيش والتسامح مع الآخرين، ممن يخالفونهم في العقيدة أو في المنهج.
استجابات وهابية لإشكالات التجديد
ظهرت عدة استجابات صادرة عن التيار الوهابي في مواجهة أطروحات التجديد، ولداعي التعاطي مع الظروف الجديدة التي يشهدها العالم وما. ويمكن تجريد اتجاهات هذه الاستجابات متمثلة فيما يلي:
الاتجاه الأول: حاول أن يقوم بإعادة تفسير بعض مقاطع من التراث الوهابي خصوصاً والسلفي عموماً، والتركيز على بعض الجوانب القليلة المهملة والمتسامحة؛ وقد انبرى عدد من العلماء الرسميين وبعض العلماء المقربين من السلطة للقيام بهذا الدور، بيد أن النزعة الذرائعية بدت قويّة وبدون إسنادات قويّة، مثل ذلك إعادة تفسير موضوع (الولاء والبراء) وفكرة (الخروج والجهاد) وإعادة ترسيم الحدود بين (دار الحرب ودار الإسلام)، وموضوع (إمامة المتغلّب) والعلاقة مع الكافر وفق مصلحة يراها ولي الأمر.
وغرض هذا التيار من إعادة التفسير هو ديمومة المعتقد وفتح منافذ له أمام الانسدادات التي وصل إليها؛ إضافة إلى إيجاد مخارج للدولة والتنفيس المؤقت للاحتقانات، حتى تمضى موجة الضغط. إن اتجاه إعادة التفسير يميل بشكل كبير إلى عدم مناقشة التراث الوهابي، وإنما ملامسة السلوك والتمظهر الخارجي لذلك الفكر. أي مكافحة النتيجة (العنف والإرهاب..) دون المساس بأصول المعتقد وجوهر الفكر.
الاتجاه الثاني: يبحث في دور الوهابية كأيديولوجيا للدولة ويمارس نقداً لأصولها ومسارها، وأيضاً لطبيعة العلاقة القائمة بين الدين والدولة في المملكة. ويرى أنصاره أن الوهابية أصبحت عبئاً على المجتمع والدولة، وأنه يمكن بل ويجب تجاوزها، وإن لم يكن ذلك، فيجب أن تجري عمليات إصلاح جذرية لها لتتواءم مع معطيات المرحلة الراهنة؛ كما يرون أن الوهابية تمثل نقيضاً للوحدة الوطنية ولتآلف النسيج الاجتماعي، سواء كانت الوهابية تقليدية (سلفية تقليدية) أم (إصلاحية حصوية).
الاتجاه الثالث: يميل إلى المزيد من التقليدية، ويقوم بالدفاع عن المذهب ومواجهة الانتقادات الموجهة إليه من (التجديديين) أو (المخالفين)، من خلال إعادة نشر فكر المذهب والتأكيد على كل نصوصه، وإحياء الفتاوى القديمة ونشرها على الانترنت، ووضعها في كتب(4).
وفى إطار هذه الاتجاهات يبدو أن اتجاه (إعادة التفسير) المدعوم داخلياً، هو الأوفر حظاً بالنجاح، خاصة إذا ما اعتمد على سياسة تنقية التراث الوهابي من بعض فتاواه شديدة الحدّة، إلا أن هذا النجاح سيكون محدوداً ومؤقتاً، لأن عملية إعادة التفسير الحالية تبدو انتقائية، ولا يتم التطرق لكل الموضوعات وإنما بعضها، وهذا البعض في مجمله مرتبط بتقييم الدولة وحاجاتها، مع تجاهل - أو تصعيد في الأحيان - للقضايا التي من شأنها تحقيق التقارب بين المسلمين، بمختلف انتماءاتهم ومذاهبهم، خاصة أمام قناعة التيار العام من علماء المسلمين أن المذهب في الإسلام لم يكن في نشأته الأولى مظهرا لانقسام المسلمين وتوزعهم، وإنما كان تعبيرا عن حيوية عقلية وعملية أدت إلى تشعب الآراء، ونشوء التيارات المنهجية في استنباط الأحكام الشرعية والتعرف على دلالات النصوص على النحو الذي أغنى الإسلام عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أن يمارسوا العديد من أشكال الحوار المستند إلى العلم وصحيح الإسلام، الأمر الذي يتطلب احترام هذا التعدد المذهبي، وإزالة الحواجز التي تحول دون التواصل الفعال بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية، وكذلك البحث عن إطار مفاهيمي أوسع يحمي هذه التعددية ويحترم خصوصياتها، ويوفر للجميع الحماية والحرية، ولهذا طرح البعض مفهوم "التعارف" بديلا عن مفهوم "التقريب"، فالتعارف كمفهوم ثقافي وممارسة اجتماعية من المفاهيم التي تحتضن مضامين عقدية وفكرية واجتماعية أوسع من مقولة التقريب، كما أنه من المقولات القرآنية التي تحمل مدلولات ومضامين أكبر على صعيد تشكيل العلاقة الإيجابية بين مختلف المكونات المذهبية في الأمة(5).
ومن بين ما يقوم عليه مفهوم التعارف توفر الاستعداد النفسي والقيمي والأخلاقي لبناء علاقة متواصلة مع الآخرين، علاقة سوية بين جميع الأطراف والمكونات، والاعتراف بالآخر، حيث إنه لا يمكن "التعارف" مع الآخرين دون الاعتراف بوجودهم وآرائهم وأفكارهم، كما أن التعارف في جوهره ينطوي على دعوة لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، الأمر الذي يتطلب الحوار المتواصل بين جميع الأطراف، حتى يتسنى لهم المعرفة المتبادلة واكتشاف الآخر بعيدا عن القناعات الجاهزة، والصور الذهنية المقولبة، أو تلك التي يحرص البعض على استمرارية قولبتها، لأهداف تتعارض وما يقوم عليه جوهر الدين، وخدمة الدعوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع التقرير
(1) د. محمد بن يعيش، السلفية المرحلية في تكوين المجتمع الوهابي، 5/10/2009، موقع هيس بريس المغربي.
(2) أسامة حمود، الملامح السبعة للسلفية المعاصرة، موقع الإسلاميون، 2/4/2007، موقع إسلاميون.
(3) حسين شبكشي، من يعيد السلفية السعودية إلى الحنبلية؟، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 14/2/2005.
(4) د. حمزة الحسن، إصلاح الأيديولوجية الوهابية، موقع تنوير، بدون تاريخ.
(5) محمد محفوظ، التعددية المذهبية بين التعايش القانوني والتقريب الديني، 20-02-2008، شبكة الجزيرة نت.
ساحة النقاش