authentication required

مع بداية القرن العشرين الميلادي، برزت فكرة أنه ستهيمن عليه أربع إمبراطوريات عظمى (البريطانية، الروسية، الأمريكية، الألمانية)، وأخذ الأمريكيون يتحدثون عن المصير الواضح لبلدهم، إلا أن السباق للهيمنة على المشهد العالمي خلال القرن العشرين، كان مفتوحاً على مصراعيه، ولكن في ظل تصاعد التوقعات والتنبؤات داخل الولايات المتحدة وخارجها، بأن واشنطن قد تصبح يوماً مركزاً للشؤون العالمية، والفلك التي يتحرك في إطاره العالم.‏

وكان العامل الأول وراء هذه التوقعات الإمكانيات المادية التي تتمتع بها الولايات المتحدة (الأرض الشاسعة، والموارد المعدنية الهائلة، والإنتاج الصناعي الواسع القفزات، والشبكات الضخمة من الخطوط الحديدية والبرية، والموانئ، ورأس المال، والتكنولوجيا سريعة التطور)، والتي ترجمت إلى أهمية سياسية واستراتيجية أيضاً.

وساعد علي ذلك ما تميز به الشعب الأمريكي من خصوصية، كان أبرز ملامحها، النشاط والحيوية والرغبة المستمرة في التغيير والتطوير، مما شكل نقيضاً تاماً لعادات العالم القديم الثابتة دون تغيير، وكان هناك إحساس بانتفاء الحدود أمام إمكانية النمو في المستقبل، وهذه الصورة العريضة للحركة الصاعدة، جذبت الملايين من المهاجرين الجدد الساعين وراء الثروة إلى الولايات المتحدة، مما رفع من شأن الثروة الوطنية الأمريكية، ومن قدرتها علي النمو والتصاعد وليس العكس.

وأصبح مفهوم "القرن الأمريكي" يشكل واحداُ من أشهر المفاهيم، في التاريخ الدولي الحديث، وبعد الحرب العالمية الثانية ارتبطت فكرة "القرن الأمريكى"، لدى الأمريكيين، بفكرة تعاقب القوى أو الحضارات عبر التاريخ، وقد كان "الحلم الإمبراطوري" هو الدافع وراء العديد من السياسات التي تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فقد بدأت الولايات المتحدة منذ عام 1950 تتبع استراتيجية كونية تقوم على أساس أن النظام الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي الأمريكى يجب أن يكون كونيًا، وأن أى تحدِّ لذلك لا يجب التسامح معه، وأن أى عمل من جانب الولايات المتحدة لتحقيق ذلك هو عمل "دفاعي"، وقد تطلبت العمل علي أن تكون للولايات المتحدة قوة عسكرية متعاظمة لمنع تحدى النظام الأمريكى، وتأهيل الأمريكيين وإقناعهم بتحمل التضحيات المادية من أجل قيادة العالم.

واعتمدت أمريكا في بناء قوتها الذاتية على التوسع من الداخل إلى الخارج، أي داخل أراضيها، وبعد أن استكملت الدولة الجديدة السيطرة على كامل "أراضيها"، بدأت في التوسع نحو مجالها الإستراتيجي (المحيطين الهادي والأطلسي)، وفي إطار هذا التوسع، أصبح هدف المشروع الأمريكي "جذْبُ كل أنام الكوكب إلى مجتمع مثالي، تشكل على الأرض الأمريكية، وتحقيقه أولاً بالتسامح، ثم بالقوة عند الاقتضاء، وأخيرًا  بالتجارة، فمهمة أمريكا هي أن تدل بقية العالم على طريق التوبة والتطهير الكبير والإصلاح الاجتماعي، وتراكم الثروة بشتى الطرق"، وهو ما يعكس نظرة "رسالية" و"استعلائية" للذات تجاه العالم.

وبدأ بروز الدور الأمريكي منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الذي نظر إليه الأمريكيون باعتباره "قرناً أمريكياً"، فقد نجحت الولايات المتحدة خلاله في بناء قوة عسكرية ضخمة ومتفوقة‏، تتوازن مع قدرتها الاقتصادية‏، الأمر الذي فتح أمام القوة الأمريكية طريق الهيمنة‏، وإن كان التحدي السوفيتي قد عطل انطلاق الحلم الأمريكي بجعل القرن العشرين "قرنا أمريكيا"، فقد تأجل الحلم إلي القرن "الحادي والعشرين"‏، فالولايات المتحدة هي مركز العالم ومحوره، وعليها أن تقود العالم في مختلف المجالات، تعبيرا عن الحق والقوة معا، وأن تقدم النموذج الذي تحتذي به كل شعوب العالم‏، وأصبح الفكر المهيمن هو فكر "الهيمنة".

وهو الفكر الذي يقوم علي أن الولايات المتحدة عليها أن تسعى إلى زيادة قوتها النسبية (مقارنة بقوة الدول الأخرى) إلى أقصى حد، فالدول تكسب الأمن ليس من خلال توازن القوى، بل عبر اختلال توازن القوى لمصلحتها، ففي عالم يتسم بالصراع والتنافس يعتمد أمن الدولة على القوة العسكرية ودعاماتها الاقتصادية، ومن الأفضل للدولة أن تكون هي الدولة رقم (1) بين الدول.

وقد تعددت محاولات تأصيل وترسيخ هذه الرؤية، ومن ذلك ما ذكره نيوت جنجريتش (رئيس الأغلبية الجمهورية بمجلس النواب سابقاً): "إنّ الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على قيادة العالم. فهي تظل بالفعل الحضارة الدولية والشمولية الوحيدة في تاريخ البشرية... إن قيمنا متبعة في العالم أجمع وقد كانت تكنولوجيتنا التي غيرت أنماط الحياة هي العامل الأول للعولمة .. وان شاءت لنا الأقدار أن نختفي غداً فمن غير المرجح أن يكون لليابانيين أو الألمان أو الروس الإمكانية أو القدرة على قيادة العالم. فبدون حضارة أمريكية حية فسوف تسود الهمجية والتخلف الحضاري والعنف والدكتاتورية أنحاء المعمورة".

 سياسات الهيمنة

وفي إطار هذه الرؤى تعددت الممارسات والسياسات، التي تبنتها الولايات المتحدة، لفرض هيمنتها، وصولاً لأن يكون القرن الحادي العشرين، أمريكياً خالصاً، ومن هذه الممارسات:

1ـ تبني إستراتيجية الاحتواء والردع والحفاظ على ميزان القوة الدولي: فبعد عام 1945، تقدمت الولايات المتحدة لملء الفراغ الناتج من ضعف الإمبراطورية البريطانية وانهيار النظام الأوروبي بحيث توفر ثقلاً مضاداً للاتحاد السوفيتي، وتمثل الهدف في حرمان الإتحاد السوفيتي من القدرة على توسيع دائرة نفوذه، ومن ثم الحفاظ على النظام عبر إدارة التوازن القطبي بين المعسكرين، وقد أفرزت هذه الاستراتيجية العديد من المؤسسات والشراكات التى انخرطت فيها الولايات المتحدة، كحلف شمال الأطلسي والتحالف مع اليابان، واستمرت هذه الشراكات بعد انتهاء الحرب الباردة، لأنها وفرت الضمانة للاستقرار.

2ـ تبني استراتيجية الاعتماد المتبادل: وتمثلت في سعى الولايات المتحدة، لبناء النظام من خلال العلاقات السياسية المؤسسة على اقتصادات السوق المتكاملة، ودعمها فتح الأسواق، وكانت هذه الاستراتيجية تستند إلى نظام دولي تحكمه القواعد وتستخدم الولايات المتحدة فيه ثقلها السياسي لصوغ القواعد المناسبة التى تحمى المصالح الأمريكية وتحافظ على مصالحها وتوسع من نفوذها.

وقد تكاملت استراتيجيتا الاحتواء والاعتماد، خلال النصف الثاني من القرن العشرين،  فوفرت الأولي الأساس السياسي لالتزامات أمنية رئيسة فى مختلف أنحاء العالم، ووفرت الثانية برنامجاً إيجابياً لزعامة الولايات المتحدة للعالم. وأصبح فى وسع الولايات المتحدة أن تمارس قوتها وتحقق مصالحها القومية، بطريقة تقوي نسيج المجتمع الدولي، فالقوة الأمريكية ـ من وجهة نظر مؤيديها ـ لم تزعزع النظام الدولي بل ساهمت فى إنشائه، وكان تطور الاتفاقات القائمة على القواعد والشراكات الأمنية والسياسية أمراً جيداً للولايات المتحدة ولمعظم العالم، حيث ترتب عليها في أواخر التسعينات، نظاماً سياسياً دولياً، وائتلافاً كونياً من الدول الديموقراطية، التي ترتبط فيما بينها بواسطة الأسواق والمؤسسات، والشراكات الأمنية.

3ـ نشر القيم والمعايير الأمريكية: فخلال العقد الأخير من القرن العشرين، والسنوات القليلة الماضية من القرن الحادي والعشرين، حاولت الولايات المتحدة، ممارسة الضغط على البلدان الأخرى لتتبني وتطبق القيم والإجراءات الأمريكية، فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية؛ ومنع البلدان الأخرى من الحصول على قدرات عسكرية تمكنها من مواجهة التفوق الأمريكي؛ وتطبيق القانون الأمريكي في المجتمعات الأخرى؛ وتصنيف الدول وفقاً لالتزامها بالمعايير الأمريكية بخصوص حقوق الإنسان، والمخدرات، والإرهاب، وانتشار الأسلحة النووية والصواريخ والحرية الدينية؛ وفرض عقوبات على البلدان التي لا تطبق المعايير الأمريكية بخصوص هذه المسائل، ورفع شعارات حرية التجارة والأسواق المفتوحة؛ وتوجيه سياسة البنك الدولي وصندوق النقد العالمي بحيث ترسخ هذه الشعارات؛ والتدخل في النزاعات المحلية التي لها فيها مصالح مباشرة محدودة نسبياً؛ وإكراه دول أخرى على اتباع سياسات اقتصادية وسياسات اجتماعية تخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية.

4ـ تقارير حقوق الإنسان والحرية الدينية: فالتقارير التي تصدرها الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان وعن الحريات الدينية في دول العالم، تستخدم بدرجة كبيرة ـ من وجهة نظر الكثيرين ـ لابتزاز العديد من الدول والتأثير في توجهاتها الخارجية، وإلا سيتم إثارة قضايا ما قد تشهده من انتهاكات وأحداث، قد تحدث عرضياً، أو بشكل فردي، أو بضغوط وتدخلات خارجية.

وفي مواجهة هذه السياسات وتلك الممارسات، برز شعور آخذ فى الانتشار بالاستياء والخوف، وعلى مستوى أعلى قليلاً، ظهرت حالات ترفض أن تتعاون مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعديد من القضايا كانتشار الأسلحة النووية، وحقوق الإنسان، وسياسات التجارة والعديد من القضايا الأخرى، وفي حالات قليلة تحول الخلاف إلى معارضة صريحة حيث حاولت بعض الدول التصدي لسياسة الولايات المتحدة، في عدد من هذه القضايا.

ولكن رغم هذه المحاولات، لم يكن هناك تحالف مضاد أوسع قاعدة وأكثر نشاطاً وقدرة علي مواجهة سياسة التفرد التي تتبناها الولايات المتحدة، يقف وراء ذلك عدد من التفسيرات التي تبرر عدم  قيامه، ومن ذلك أن الوقت لم يحن بعد، فمع مرور الوقت يمكن أن يتصاعد الرد على الهيمنة الأمريكية، كما أن خطر الهيمنة الأمريكية أقل إلحاحاً وتركزاً من خطر الغزو العسكري، الذي كانت تمثله القوي الأوروبية في الماضي، فالقوى الأخرى يمكن أن تكون أكثر استرخاء تجاه تشكيل ائتلاف لمواجهة السيطرة الأمريكية، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، أنه إذا كانت هناك دولاً تشعر بالاستياء من قوة الولايات المتحدة، إلا أنها ترغب في الاستفادة منها، فالولايات المتحدة تكافئ البلدان التي تسير وراءها (من خلال: السماح بالدخول إلى السوق الأمريكية؛ والمعونة الخارجية؛ والمساعدات العسكرية؛ والإعفاء من العقوبات؛ والسكوت عن بعض الانحرافات، والدعم للحصول على عضوية المنظمات الدولية؛ والرشوة ودعوة القادة لزيارة البيت الأبيض) فتكون النتيجة إن كل من هذه القوى الرئيسية معنية بضمان دعم الولايات المتحدة لها في نزاعاتها مع القوى الأخرى، والتمتع بالمزايا التي يوفرها هذا الدعم.

ومن ناحية ثالثة، أن السياسة العالمية في المرحلة الراهنة متعددة الحضارات، فهناك العديد من الدول لها مصالح مشتركة في تحدي هيمنة الولايات المتحدة غير أن ثقافاتها المختلفة، تجعل من الصعب عليها تأسيس تحالف فعال، كما أن فكرة المساواة القانونية بين الدول القومية لا تلعب دوراً ملحوظاً في العلاقات بين المجتمعات غير الغربية، التي ترى أن التراتيبية أفضل من المساواة كعلاقة طبيعية بين الشعوب، وهكذا يمكن أن تكون الاختلافات الثقافية والغيرة والمنافسات عقبة في طريق ائتلاف القوى الرئيسية للتحالف ضد القوة العظمى.

ومن ناحية رابعة، أن مصدر الخلاف الرئيسي بين القوة العظمى وبين القوى الإقليمية الرئيسية، هو تدخل الأولى من أجل تقييد ومواجهة ورسم عمل الأخيرة، وأن تدخل القوة العظمى، بالنسبة للقوى الإقليمية الثانوية عاملاً يمكن استخدامه ضد القوى الرئيسية في أقاليمها، وهكذا تلتقي مصالح القوة العظمى والقوى الإقليمية الثانوية في العمل ضد القوى الإقليمية الرئيسية، وستكون للقوى الإقليمية الثانوية حوافز قليلة للانضمام إلى ائتلاف ضد القوة العظمى.

وفي إطار هذه التفسيرات يبرز التساؤل، ماذا عن مستقبل الهيمنة الأمريكية؟

إن تاريخ السياسة الدولية الحديث، يزخر بتجارب عديدة لدول راهنت على الزعامة، لكنها سقطت كلها دون استثناء، فحين تصبح دولة ما قوية أكثر مما ينبغي وتهدد أمن الدول الأخرى، تظل الدول يقظة، حين يتعلق الأمر بالحفاظ على أمنها لأنها تريد المحافظة على بقائها، كدول تؤدي أدوارها بصورة مستقلة، فإذا واجهت زعيماً متحدياً أقامت" توازناً" ضده.

أي أنها تبني قوتها العسكرية الخاصة وتقيم تحالفات لخلق وزن جيوسياسي مقابل الدولة الطامحة إلى الزعامة، أي أنه من المفيد أن تكون الدولة قوية. لكن ليس من صالح الدولة أن تصبح قوية أكثر مما ينبغي، لأنها عندئذٍ تُرعب الآخرين، فسقوط الزعماء والإمبراطوريات يؤكد حقيقة متناقضة من حقائق السياسة الدولية: "إذا ربحت دولة ما أكثر مما ينبغي فإنها تخسر".‏

وفيما يتعلق بالهيمنة الأمريكية، يطرح أنصار فكر استمرار الهيمنة الأمريكية، عدة مبررات لهذه الاستمرارية، لعقود ـ إن لم يكن لقرون قادمة ـ ومن ذلك أن الآخرين لا يوازنون قوة أمريكا كما هي، والدول تقيم توازناً ضد الدول التي تستخدم أسلوب التهديد، والولايات المتحدة، كزعيم "سليم"، لا تفعل ذلك، وأن الولايات المتحدة تحسب حساباً لمصالح الدول الأخرى، لهذا ترغب هذه الدول في التحالف معها بدلاً من إقامة توازن ضدها، كما أن جاذبية قيم أمريكا الديمقراطية الليبرالية وثقافتها تبرِّر لها ممارسة قوة الزعامة (الهيمنة)، فالديمقراطية الليبرالية توفر شرعية للزعامة الأمريكية، فالعالم يتقبل هيمنة أمريكا لأن الآخرين "يعلمون أنه ليس هناك ما يخشونه أو يريبهم من دولة عادلة".

ولكن في المقابل يري البعض أن الاعتقاد بأن أمريكا يمكن أن تكون زعيماً ناجحاً، هو اعتقاد خاطئ، فما من دولة تستطيع احتمال إقامة أمنها على الثقة بنوايا الآخرين، لأن النوايا تزول بسرعة؛ ولهذا تقيم الدول استراتيجياتها على تقديراتها لإمكانات الآخرين؛ أي ما لديهم من قوة فعلية سواء كانت كامنة أو معلنة.

 مؤشرات متباينة

وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين مجموعتين من العوامل، يتوقف استمرار التفرد الأمريكي، علي التوفيق بينهما، بصورة تحد من السلبيات، وتزيد من تفعيل الإيجابيات، وتتمثل هاتان المجموعتان في:

المجموعة الأولي: العوامل الدافعة: حيث تتعدد العوامل التي يمكن أن تساهم في استمرار تفرد وهيمنة الولايات المتحدة، مقارنة بغيرها من القوي الكبرى في العالم، ومن بين هذه العوامل:

1ـ توافر الموارد الاقتصادية الهائلة اللازمة للصناعة الأمريكية ساهم في قدرة الولايات المتحدة علي استعادة الكثير من مركزها القيادي الأول في التصنيع والإنتاج. وقد واكب هذا التجديد في الروح الصناعية عدة إجراءات قاسية، من بينها تقليص حجم اليد العاملة، والقضاء على اتحادات العمال أو إضعافها، وخلق ملايين الوظائف غير المؤمنة، وإعادة توزيع الإنتاج في مواقع اليد العاملة الرخيصة في بلدان العالم النامي.

2ـ ساهمت التكنولوجيات الأمريكية الجديدة، في تعزيز مواطن القوة الأمريكية. فأجهزة الكومبيوتر، وأنظمة الاتصالات، وتطبيقات البرمجة الجديدة والانترنت شكلت معاً "ثورة معرفية" ما كان لها أن تنبثق إلا عن اقتصاد ومجتمع قويين، وقد وفرت هذه الثورة المعرفية دورة تغذية عكسية أفاد منها أولئك الذين أوجدوها في المقام الأول، كما أن القوات المسلحة الأمريكية أخذت بالكثير من هذه الأنواع الجديدة من التكنولوجيا، لزيادة فعاليتها القتالية مما جعل القدرات العسكرية الأمريكية لا تضاهى في العديد من النواحي العملياتية والاستراتيجية الحربية.‏

3ـ أن عشرات الملايين من معظم ـ إن لم يكن كل ـ مجتمعات العالم، كانوا يسعون للوصول إلى الولايات المتحدة حيث كانوا يأملون في إيجاد حياة أفضل لعائلاتهم، ومع قبول الملايين من المهاجرين الإضافيين، فقد تعزز الإحساس بوجود ثقافة أمريكية لم تعرف حدوداً.

4ـ أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى إمكانية استمرار هذا التفوق الأمريكي، ومن ذلك: عولمة المعايير التجارية الأمريكية التي تستمر دون هوادة، وانتشار الثقافة الأمريكية لتصل إلى أبعد مدي يمكن تصوره، كما أن التحول إلى الديمقراطية في نسختها الأمريكية، يتصاعد في العديد من مناطق العالم، وهو ما يقود ـ في التحليل الأخير ـ إلي "أمركة" كل شيء في العالم المعاصر.‏

المجموعة الثانية: العوامل المعوقة: فهناك عدد من الاعتبارات التي قد تحد من الهيمنة الأمريكية المطلقة، ومن ذلك:

1ـ تصاعد التهديدات العالمية التي تتطلب جهداً دولياً مشتركاَ لمواجهتها، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنهض بها منفردة، كالأضرار البيئية، وتداعيات الزيادات الهائلة المتواصلة في عدد السكان، وخطر الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وتنظيمات تجارة المخدرات.

2ـ أن أدوات الهيمنة الأمريكية الحالية، علي الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي، سوف تتآكل تدريجياً خلال الأعوام المقبلة، وسيكون ذلك نتيجة تعرض الولايات المتحدة لتراجع في الأداء التكنولوجي، وانكسار موجة الإنفاق المفرط علي تكنولوجيا المعلومات، التي سادت خلال حقبة التسعينيات، وكانت وراء الرواج والازدهار في الاقتصاد والمجتمع الأمريكي.

3ـ تصاعد احتمالات ظهور دول كبري جديدة تطمح إلي الزعامة، وإذا ما نجحت، فسوف تهدد أمن الولايات المتحدة تهديداً جديّاً، كما قد تؤدي إلي توتر وعدم استقرار.

4ـ الاضطراب الذي يحدث في الأطراف: والذي قد ينشأ نتيجة لسقوط الدول، أو للصراعات التي تنشأ بسبب الخلافات العرقية والدينية والقومية، والتي قد تحفز حلفاء الولايات المتحدة إلى العمل بصورة مستقلة من أجل الحفاظ على النظام في الأطراف، كما يمكنها أن تطلق شبح "العودة إلى القومية"، أو أن تنتقل إلى القلب أو المركز.

5ـ مدي القدرة علي مواجهة عوامل التحلل الداخلية في الجسد الإمبراطوري: والتي يرصدها البعض في: العنصرية، وضعف التجانس بين مختلف اللغات والأعراق، وخطر الميليشيات اليمينية البيضاء والتي توجه خطابها السياسي إلى القاعدة العريضة من الجمهور الأمريكي، وتحذر من هيمنة الحكومة الفيدرالية في واشنطن على حياة الأفراد في البلاد، وكذلك نمو الجهاز الأمني الذي بات مؤسسة ضخمة، تؤثر علي الحريات المدنية للمواطنين.

6ـ تنامي فكر الوطنية والانعزالية في الرؤية الأمريكية، ففى مقابل فكر الهيمنة، هناك تطور صاعد في الخطاب الأمريكي، من اعتزاز وطني منفتح على العالم والعولمة، إلى تقوقع متزمت مهمل للآخر في العديد من الحالات، ومدين ومهين له في بعضها، واستتباب الخطاب الوطني المتشدد إلى حد التقوقع لا يعكس تأصل الانعزالية في كافة أوساط المجتمع الأمريكي، بقدر ما يشير إلى انزواء القطاعات المحبذة والمستفيدة من العولمة ومن التواصل الدولي في أعقاب صدمة سبتمبر.

7ـ طبيعة النظرة الداخلية للسياسة الخارجية: فالشعب الأمريكي ينفر من السياسة الخارجية نتيجة كون بلاده محمية بمحيطين كبيرين يتقاسمهما مع جارين حليفين، صديقين، فلا يستشعر الخطر الخارجي، وهو ما رسخ مقولة أن القوة الأمريكية ليست لها طموحات توسعية، بل تميل إلى الانكفاء في حدودها ولا يغريها استكشاف الآخر، ولا تستسيغ سوى نمط حياتها، فتبادر بالبحث عن مسالك الخروج فور إكمال مهمتها الخارجية.

والتوفيق بين هاتين المجموعتين من العوامل، يفرض على الإدارة الأمريكية، أن تتوقف عن التصرف والتحدث كما لو أن العالم أحادي القطبية، فهو ليس كذلك. حيث تحتاج الولايات المتحدة في تعاملها مع أية قضية عالمية إلى التعاون، على الأقل، مع بعض القوى الرئيسة، أما فرض العقوبات والتدخلات من جانب واحد فهي بمثابة وصفات تدميرية للسياسة الخارجية.

كما يجب أن يتخلى الأمريكيون عن أوهام "المهيمن اللطيف"، وأن هناك انسجاماً طبيعياً قائماً بين مصالحهم وقيمهم وبين مصالح وقيم بقية العالم، فهذا غير صحيح، ففي بعض الأحيان يمكن أن تحقق السياسات التي تقوم بها الولايات المتحدة، منافع عامة وتخدم أغراضاً مقبولة على نطاق واسع. ولكنها لا تؤدي إلى ذلك بسبب المكون الأخلاقي المتفرد في السياسة الأمريكية، ولكن لأنها القوة العظمى الوحيدة، وبالتالي فمصالحها تختلف عن مصالح البلدان الأخرى، وهذا يجعلها متفردة ولكن غير مقبولة في هذه البلدان.

وبين مؤشرات الصعود والهبوط، يقول هنتنجتون: "في عالم القرن الحادي والعشرين، متعدد القطبية، سوف تقوم القوى الرئيسية بالتنافس والصدام والائتلاف مع بعضها البعض، بأشكال مختلفة، وهنا لن يشهد توترات ونزاعات بين القوى العظمى والقوى الإقليمية الرئيسية، تلك التوترات والنزاعات التي تشكل الصفة المميزة للعالم "أحادي/متعدد القطبية"، لهذا فإنه بإمكان الولايات المتحدة العيش كقوة رئيسية، في عالم متعدد القطبية بمتطلبات وخلافات أقل، ومردود أكثر، مما كان عليه الحال عندما كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم".

وفي المقابل يقول بول كيندي: "إن الاحتمال الأكبر أن الولايات المتحدة ستدخل القرن الحادي والعشرين كقوة عالمية من الدرجة الأولى، بما يدفع للقول بأن القرن التالي يمكن أن يكون أمريكياً أيضاً. ومع ذلك فمن الحكمة أن نتذكر سؤال فولتير: "إذا سقطت روما وقرطاجة فأية قوة هي الخالدة؟" وكان جوابه "ولا واحدة".

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 474 مشاهدة
نشرت فى 25 يناير 2011 بواسطة ForeignPolicy

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

104,051

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية