تتميز طبيعة هذا النوع من المعرفة بأنها وهب وعطاء من الله تعالى، تتنزل على قلب العارف فتتكشف له الأمور على حقيقتها انكشافًا لا مجال فيه لشك أو ارتياب، فهي ليست عملاً عقليًّا، ولا مجال فيه للدليل أو البرهان المنطقي، وبالتالي فإنها ليست كسبًا يتوصل إليه المرء بوضع المقدمات واستنباط النتائج .

ولكي نقف على حقيقة الأمر في هذه المسألة يلزمنا أن نتعرف على الأساس الذي بنى عليه الصوفية نظريتهم في المعرفة، ومعروف أن ذلك الأساس يتمثل في فكرة الميثاق التي وردت في القرآن الكريم في قول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "([1]).

فقد خاطب الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن: اذكر -أيها النبي- إذ استخرج ربك أولاد آدم مِن أصلاب آبائهم, وقررهم بتوحيده بما أودعه في فطرهم من أنه ربهم وخالقهم ومليكهم, فأقروا له بذلك, خشية أن ينكروا يوم القيامة, فلا يقروا بشيء فيه, ويزعموا أن حجة الله ما قامت عليهم, ولا عندهم علم بها, بل كانوا عنها غافلين([2]).

وإذا كانت هذه الآية الكريمة قد حظيت بتفسيرات شتى في المحيط الإسلامي فإن ما يعنينا هنا أن نقرر أن الصوفية قد فهموها على أنها تسجيل لإشهاد حقيقي من الله تعالى للمخلوقات في مرتبة من الوجود تغاير المرتبة الحالية، أعنى في مرتبة الوجود الروحي السابق على هبوط الأرواح إلى الأرض وارتباطها بالأبدان.

وسواء كانت هذه الأرواح أو الأنفس بكامل وعيها وتميزها أثناء أخذ الميثاق عليها وإجابتها لخطاب الله عز وجل كما يذهب بعضهم، أو كانت لا تتمتع بأي وجود سوى ما يمنحه الله عز وجل لها بمقتضى الحكمة الإلهية، وإن إجابتها لسؤال الله تعالى: ألست بربكم؟ كانت نتيجة تدخل إلهي، بمعنى أنها إجابة تولاها الله عنهم كما يقول بذلك البعض الآخر([3]). وسواء كان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فإن الكل متفقون على أن الميثاق قد تم فعلاً قبل هبوط الأرواح إلى هذا العالم.

واختلاف الفريقين كما يوضح البعض نابع في الفريق الأول من تصورهم أن الهدف الأساسي من هذا الخطاب الإلهي إنما كان لإثبات الربوبية، والربوبية تقتضى بالضرورة مربوبًا؛ أي كائنًا مخلوقًا تظهر عليه آثار صفات الربوبية، في حين أن الفريق الثاني كان يقصد إثبات التوحيد والوحدانية، ولا تثبت الوحدانية إلا بفناء ما سوى الواحد، وهذا يقتضى فناء النفس حتى في حالة أخذ الميثاق([4]).

وعلى ذلك تكون كل روح أو نفس فيما يراه الصوفية قد شاهدت ربها وأقرت بربوبيته أو وحدانيته في مرحلة سابقة وتكون المعرفة هي محاولة استعادة تلك المرتبة والظفر بمثل هذا اللقاء المباشر حيث يكون التلقي عن الله تعالى بلا واسطة، وعند هذه القمة السامقة تلتقي قضايا المعرفة والحب والفناء والتوحيد جميعًا([5]).

وقد ذكر الصوفية أنفسهم ذلك نثرًا وشعرًا فعندما سئل ذو النون عن نهاية العارف، فقال: إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون([6]).

وكذلك الجنيد حينما سئل عن توحيد الخاصة قال: أن يكون العبد شبحًا بين يدي الله عز وجل، تجرى عليه تصاريف تدبيره في مجارى أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه، وعن دعوة الخلق له، وعن استجابته بحقائق وجود وحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته؛ لقيام الحق له فيما أراد منه وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان قبل أن يكون، وبيان ذلك فيما قال الله عز وجل: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "([7]).

وعندما فرَّق ابن الفارض بين المعرفة الإلهامية التي تحصل في مقام الجمع، وبين المعرفة الحسية التي تحصل في مقام التفرقة؛ انتهى إلى أن النفس هي مصدر المعرفة إذ قد طبعت فيها هذه المعرفة منذ الأزل؛ أي قبل أن تتصل الروح بالبدن ، هذا الاتصال الذي أفسد عليها حياتها الأولى، وحال بينها وبين معرفتها الإلهامية المطبوعة فيها، وجعلها عاجزة عن تجاوز المعرفة الحسية إلى هذه المعرفة الإلهامية التي هي أروع منها وأمتع، وأدق وأنفع([8]).

وعند ابن عربي، المعرفة التنسكية تنبثق من النفس بعد التحرر من ربقة الشهوات، والتخلص من عبودية الرغبات، والتعلق بالملأ الأعلى، والشوق إلى الاندماج في النور الأقدس الذي هو على أثر ذلك كفيل بكشف ما وراء الحجب السميكة، واجتياز ما بعد الحواجز الصفيقة، وإضاءة ما في داخل البرازخ الكثيفة من أرواح علوية هبطت إلى تلك الأجسام فغشاها الظلام، وأحاط بها القتام ردحًا من الزمن كانت أثناءه في شوق إلى الاتصال بأصلها، والفناء في مصدرها([9]).

وهذه الأقوال وغيرها تدل دلالة واضحة على أن موضوع المعرفة الإلهامية الكشفية موجود في النفس بالفطرة أو أن المعرفة بتعبير الغزالي مركوزة في النفوس بالقوة كالبذر في الأرض، أو الجوهر في مقر البحر أو في قلب المعدن. فإذا خلص السالك من عوائق بذره، وسلك طريق المعرفة على ما سبق بيانه رفع الله الحجب بينه وبينه، وبلغه الحضرة الإلهية التي سبق له العلم بها، فيكون – بتعبير الصوفية – كما كان قبل أن يكون، أي كما كان يوم " الميثاق " قبل أن يكون بروحه وجسده معًا([10]).


(1) سورة الأعراف: الآية 172.

(2) تفسير ابن كثير، 1: 241- 243.

(3)  د/ كمال جعفر: التصوف، ص 187-199.

(4) د/ محمد الجليند: من قضايا التصوف، ص 132.

(5) د/ السيد الحجر: التصوف الإسلامي، ص 211.

(6) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 127.

(7) الطوسي: اللمع، ص 49-51.

(8) د/ محمد مصطفي حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، ص 245.

(9) د/ محمد غلاب: المعرفة عند ابن عربي، ص 199.

(10) د/ التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 208، د/ السيد الحجر: التصوف الإسلامي بين الاتباع والابتداع، ص 213.

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 861 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

455,309