وقف التصوف الإسلامي بصفة عامة، والطرق الصوفية بصفة خاصة من المرأة موقفًا متحضرًا، ونظر إليها من زاوية المرأة المسلمة الصالحة العابدة، وساعدها في دفع طاقاتها الروحية نحو الاعتصام بحبل الله المتين، ومواكبة حركة الحياة الدائبة في كل يسر، ومشاركة مجتمعها الإسلامي في شتى المجالات والعمل على رقيه ورفعته.
فلم يكن علم التصوف والأحوال علمًا خاصًا بالرجال دون النساء، فقديمًا أضافت النساء إلى الموروث الصوفي قدرًا طيبًا من أقوال القوم وتجلَّياتهم جاءت على لسان كثير من العابدات الصوفيات، من كلامهن أنفسهن، أو من كلام سمِعْنه أو رَوَيْنه عن رجال الصوفية ومشايخهم، مما لا تجده في تراجم هؤلاء الرجال من كتب التراجم والطبقات(<!--) .
وحديثًا على سبيل المثال وليس الحصر نجد محمد زكي إبراهيم في القرن العشرين في مصر يتحدث في أحد كتبه عن المرأة الصوفية، تحت عنوان " تعريف بقسم السيدات والفتيات المحمديات الداعيات إلى الله "، مؤكدًا على أهمية المرأة في الإسلام، وواضعًا أهم الصفات التي يجب أن تتحلي بها المرأة الصوفية بداخلها، ومنها :
1- صدق الدعوة إلى الاعتصام التطبيقي بالدين والأخلاق الربانية في حكمة وسماحة.
2- التحرك البريء لخدمة " المجتمع النسائي الشعبي " في كل موقع وكل قطاع،
والمقصود بالبراءة هنا إخلاص العمل لوجه الله تعالى دون شبهة رياء أو سمعة.
3- محاولة تجميع القوى المسلمة العاملة في المحيط النسوي على المحبة، والتعاون والعمل
لوجه الله تعالى مع البعد عن مسارات الخلاف والفتن والتنافس على المظاهر.
4- عدم استخدام الحرام في سبيل الحلال كإقامة حفلات الأغاني والسهرات وأوراق
اليانصيب لبناء مسجد أو دار لخدمة إنسانية أو ثقافية أو اجتماعية، فإن الغاية لا تبرر
الوسيلة في الإسلام، " ولا يقبل الله إلا الطيب "(<!--) .
ثم يطبق ذلك عمليًا فنراه يخصص ضمن الهيكل التنظيمي لدعوته وطريقته المحمدية الشاذلية قسمًا خاصًا بالسيدات، يعمل على تحقيق أهداف الدعوة الربانية بكل مستطاع شخصيًا وجماعيًا في المجتمع النسائي، وفي حدود القانون والنظام، وعلى هدي سماحة الكتاب والسنة(<!--) .
وكذلك يضع أمام المرأة المسلمة في طريقته أهدافًا واضحة يجب أن تكون نصب أعينها، وأن تسعى جاهدة لتحقيقها على أرض الواقع لخدمة الإسلام والمسلمين، هي :
أولاً : محاولة نشر الفكر الإسلامي والأدب الرفيع بكل مراتبه الروحية والخلقية والتعبدية والإنسانية في المجتمع النسائي في حدود الكتاب والسنة، مع العناية بالقرآن الكريم " تفسيرًا وتلاوة وحفظًا " .
ثانيًا : الاهتمام بصفة خاصة بالمحيط النسائي الشعبي بالمدن والقرى، وقد طال إغفال واجبات هذا المحيط العظيم، ولا عذر لمقصر في حقوقه.
ثالثًا : المشاركة في تحقيق أهداف العشيرة المحمدية المقررة بقانونها الرسمي "دينيًا واجتماعيًا وثقافيًا وصحيًا بما ينبغي للسيدة والفتاة المسلمة "(<!--) .
وفي حين كانت قضية المرأة مثارة على الساحة الفكرية والسياسية، وشهدت معارك صحفية بين المؤيدين والمعارضين لعملها، كان المجلس الصوفي يقوم بتعيين النساء في الأضرحة، فقد تقدمت الحرمة " نزهة " بطلب تعيين كخادمة في ضريح سيدي داود الحكيم بمنوف مكان والدتها التي توفيت، وعين المجلس الحرمة " صبحة بنت السيدة شحتة" (25سنة) من الشوبلد مركز شبين القناطر في ضريح سيدي محمد خليفة، وعُينت الحرمة "زنوبة بنت عوض " في ضريح الشيخ عمار بن ياسر بناحية صالح تبع مركز الفشن، وقدمت في طلبها للمشيخة أدلة عن سبق تعيين النساء في الأضرحة مثل تعيين الحرمة "بدر علي سنبل " كخادمة لضريح الشيخ محمد الملاح الكائن بناحية سمنود وغير ذلك(<!--) .
ولعل وجود النساء – كما رأت مشيخة الطرق الصوفية – هو أمر مهم وضروري من حيث استقبالهن لبنات جنسهن المترددات على الأضرحة.
وحديثًا قدمت إحدى الباحثات بكلية دار العلوم نموذجًا طيبًا لأشهر الصوفيات التي شهدها القرن العشرين، وهي الحاجة " زكية عبد المطلب " التي ولدت في سنة (1318هـ/1900م ) وتوفيت سنة (1403هـ/ 1982م ) ولها تكية تحمل اسمها في درب الطبلاوي، الجمالية، القاهرة.
وذكرت أنها اشتهرت بالصلاح والتقوى، وشهد لها بذلك من رجال الدين والعلم الشرعي في مصر كالشيخ الشعراوي، والشيخ محمد زكي إبراهيم، والدكتور عبد الحليم محمود، وكانوا على صلة بها، هذا بالإضافة إلى كبار رجال الدولة على مختلف طوائفهم كالوزراء واللواءات وغيرهم، بل وكانت محل تقدير واحترام الأمير محمد الفيصل الذي سمح لها بزيارة المملكة العربية السعودية للحج بدعوة مفتوحة منه وقتما تشاء.
كما ذكرت الباحثة منهجها العبادي، المستقى من الطريقة الأسمرية للشيخ عبد السلام الأسمر بليبيا، والتي تتبع الطريقة الشاذلية، ثم أوضحت تعاليمها الأخلاقية التي تبثها في نفوس متبعيها ومريديها، ثم ذكرت زياراتها الدائمة مع مريديها للشيخ أبي الحسن الشاذلي في وادي حميسرة على حدود أسوان في رحلة شاقة في بطن الجبل، يتوه فيها الإنسان إذا ما ذهب بدون دليل من البدو (<!--) .
وجملة القول أن الطرق الصوفية لعبت دورًا - وإن كان ضئيلاً - على الساحة المصرية في القرن العشرين؛ تمثل ذلك في حركة الإصلاح الداخلي لمشيختها من خلال تنظيماتها ومواد لائحتها، وتولي رجال مثل د. التفتازاني لمشيخة طرقها، ومحاولات الإصلاح لكثير من الممارسات والشعائر الصوفية غير الشرعية، وإن كان هذا لم يأت بالنتيجة المطلوبة، بالإضافة إلى إخراج مجلة متخصصة تعبر عن حالهم، ثم هذا الأثر لرجال الطرق في مجال التعليم والفكر والأدب في ذلك الوقت، وكذلك احترام وتقدير دور المرأة في المجتمع وانضمامها لكثير من الطرق الموجودة على الساحة آنذاك.
وعلى الرغم مما يشوب الطرق الصوفية الآن من بعض الشوائب والانحرفات التي بعدت بها عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة، إلا أنها مازالت تؤدي دورًا مهمًّا في مجال الحفاظ على التراث الديني، والقيم الروحية على المستوى الشعبي، خصوصًا في قرى الريف، ولا ينبغي أن ينكر أنها حفظت في القرون الماضية مع الأزهر الشريف الإسلام من الهجمات الاستعمارية، كما كانت في بعض البلدان الإفريقية والآسيوية الحائل الوحيد دون نفاذ الدعوات الاستعمارية المتسترة وراء التبشير إليها، يضاف إلى ذلك أن الإسلام انتشر – غالبًا - في كثير من البلدان الإفريقية عن طريق المنتمين إلى الطرق الصوفية (<!--) .
<!--
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(1) أبو عبد الرحمن السلمي: ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، تحقيق د/ محمود الطناحي، ص 11، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
(2) محمد زكي إبراهيم: معالم المجتمع النسائي في الإسلام، ص 143، ط3، 1422هـ/2001م، مطبوعات ورسائل العشيرة المحمدية، والحديث في صحيح البخاري بحاشية السندي، المجلد الأول، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب، ص 476، رقم (1410) ط1، 1419هـ/1998م، دار الكتب العلمية، بيروت.
(3) د/ إيهاب الكومي: جهود زكي إبراهيم في التصوف، ص 376.
(4) محمد زكي إبراهيم: معالم المجتمع النسائي في الإسلام، ص 145-146.
(5) د/ زكريا سليمان بيومي: الطرق الصوفية في مصر، ص 138.
(6) عبير عبد الرحمن محمد ياسين: دور المرأة في التصوف الإسلامي ص 355-363، رسالة ماجستير، إشراف د/ مصطفى حلمي، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1422هـ/2001م.
(7) د/ أبو الوفا التفتازاني: الطرق الصوفية في مصر، ص 70، ديسمبر 1963م، مجلة كلية الآداب، المجلد الخامس والعشرون .
ساحة النقاش