authentication required

 

الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ

للأستاذ / محمود عبد الحليم

 

محتويات

 [أخف]

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه علي رسوله الكريم ؛ محمد الذي أرسله إلي الناس كافة منقذًا ومصلحًا ومبشرًا ونذيرًا ، وأنزل عليه الكتاب الذي وصفه فقال :

" ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين " ، " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًَا لقوم يوقنون ؟ " .

وبـعـد :

فإن دعوة الإخوان المسلمين هي صدي الدعوة الأولي وليست بالدعوة المستحدثة ، فهي طور من أطوار الدعوة الإسلامية ظهرت في هذا القرن بظهور حسن البنا سنة 1928 .. وتتأهب في أيامنا هذه لطور جديد . والذي بين دفتي هذا الكتاب ليس تاريخًا لهذه الدعوة ،وإنما هي جوانب منها عاصرتها وشاركت في أحداثها وكنت جزءًا منها .. ولا أدعي أن هذه الجوانب هي كل جوانبها . ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه مثل ذلك ، في دعوة بلغت من اتساع الرقعة حدًا يقصر عن الإحاطة بمداه نظر ناظر واحد – مهما قوي بصره – وتشعبت تشعبًا متابعته في كل اتجاه أمرًا مستحيلاً ، فحسب كل نظر أن يصف ما وقع في مجال نظره ، وحسب كل ذي موقع فيها أن يتحدث عما مكنه موقعه من الإحاطة به .. وبعد أن يصف الجميع ما رأوا ، وبعد أن يتحدث جميع ذوي المواقع فيها عما أحاطوا ، يأتي دور المؤرخين الذين يجمعون كل ما رأي الراءون وتحدث المتحدثون ليخرجوا من مجموعه بتاريخ لهذا الطور من أطوار هذه الدعوة .

والذي يتمرس هذا الطور من الدعوة الإسلامية سيجد نفسه أمام سلسلة متداخلة الحلقات من الأحداث ، وأقصد بالتداخل أنها ليست أحداثًا مترادفة يتلو بعضها بعضًا ، فكلما انتهي حدث بدا آخر ، بل إن أكثر من حدث قد يقع في وقت واحد ، ذلك بأن هذه الدعوة تعمل في أكثر من جبهة .. ومن هنا رأيت أن أقرر للقارئ – بادئ ذي بدء – حقيقة يجب أن أقررها هي أنني حين أكتب هذه الصفحات لن أكون مؤرخًا يجمع شتات الأحداث ، ويجري وراءها حيث كانت حتى لا يفلت منه شيء ، وإنما أنا أكتب عن أحداث وقعت بين يدي وشاركت فيها .. وقد أكون خالفت هذه القاعدة في نقطتين اثنتين : أولاهما ما كتبته عن أيام الدعوة في الإسماعيلية ، وقد راعيت فيه الاختصار التام ، وقد سمعته من الأستاذ الإمام نفسه ، والأخرى بطولات الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 ، وقد أثبت في بابها أني نقلت أكثر ما كتبته عنها من كتاب الأخ الكريم الأستاذ كامل الشريف الذي كان من كبار قادتها .

وتحليل الأحداث ، وإبداء الرأي في القضايا ، أمر لا مفر منه لإنسان عاصر هذه الأحداث وباشر هذه القضايا ، ولكن ليس من حقي أن أقرر أن تحليلي هو التحليل الأوحد ، وأن رأيي هو الرأي الأصوب ، فلكل إنسان أسلوب في التحليل ، ورأي فيما يعالج من قضايا .. وحسبي أنني بسطت المواضيع ، وألقيت الأضواء علي الظروف والملابسات ، وكشفت القناع عن كثير مما غشيه الغموض .. وهذه المعلومات الكافية لتغذية القوة الحاسبة في العقل البشري لتخرج لك الحكم الصحيح والرأي السديد . وليس المقصود من تسطير ما سطرت ، ومن سرد ما أوردت ، ومن الإشارة فيما أوجزت ومن الإفاضة فيما أسهبت .. هو إمتاع القارئ بقصة طولها خمسون عامًا ، يملأ بها فراغ وقته ، ويزيد معلوماتها مخزون علمه ، وإنما المقصود من ذلك أن أبرز له صور محددة المعالم للفكرة الإسلامية ، وأوضح له كيف حمل الفرد المسلم أعباء هذه الفكرة ، وكيف أخذ بها نفسه ، وكيف خاطب بها مجتمعه ، وأبين له كيف تلقت المجتمعات هذه الفكرة : فمجتمع الأكثرية المغلوبة علي أمرها من الفقراء والضعفاء ، تلقوها بترحاب ، ومجتمع الأغنياء والمترفين والحكام تلقوها برفض وصلف ، ومجتمع ذوي المصالح من المستغلين والمستعمرين تلقوها ومكر وتآمر – وأجل له الأسلوب الذي واجه به حامل هذه الفكرة هذه المجتمعات ، والصراعات التي نشأت خلال هذه المواجهات ، وكيف اشتدت ، وكيف احتدمت ، وكيف تفاقمت ، وإلي أية نهاية انتهت .

وقراء هذه المذكرات من أبنائها من هذا الجيل الجديد ، سيجدون أنفسهم حين يقرأونها أمام أحداث وشخصيات لا عهد له بأكثرها .. فهل يصرفهم ذلك عن قراءتها أم يكون ذلك حافزًا لهم علي الإقبال عليها واستيعابها ؟ .. فإذا صرفهم ذلك عن قراءتها فسيكون ذلك دليلا علي أن المؤامرة العالمية ضد الدعوة الإسلامية قد تم لها النجاح ، واكتملت لها أسباب الفوز ، فإن الحلقة الأخيرة في سلسة هذه المؤامرة هي إسدال ستار كثيف علي هذه الأحداث وعلي هذه الشخصيات ، ومحاولة محوها من صفحة التاريخ ، وإذا لم يكن بد من إبراز بعضها فليكن إبرازه في صورة مقلوبة أو مشوهة علي الأقل .. ذلك أن مدبري المؤامرة العالمية حريصون كل الحرص علي أن لا يعرف هذا الجيل والأجيال التي تليه أن هذه الأحداث هي التي صنعت التاريخ الذي يعيشونه .

ومن نافلة القول أن نقول : إن شعبًا يجهل حقيقة ماضيه محال أن يتطلع إلي مستقبل مشرق . والمعلومات التاريخية لا تؤخذ عن الطريق الرسمي ، لأن حرص الحكام علي استبقاء أزمة السلطة في أيديهم وفي أيدي شعبيتهم من بعدهم ، يدفعهم عادة إلي صياغة للتاريخ بالأسلوب الذي يحقق أمانيهم ويظهرهم في أعلي قمم العدالة ، ويظهر منا في أدني درك من الخسة والنذالة .. وهم لا يقتصرون في الصياغة علي تزوير الأحداث التي تجري في أيامهم فحسب ، بل تمتد أيديهم إلي الأحداث التي سبقتهم فيعلمون فيها المسخ والتزوير . ولو ادارك علمهم في أحداث المستقبل لزوروها لحسابهم .. ولكنهم مع قصور علمهم بأحداث المستقبل يتقون في أنهم سيطرون عليها بما زوروا من أحداث أيامهم وأحداث سابقيهم ؛ فعقول الجيل التي صيغت بالمعلومات المزورة ، وتشتت عليها وملئت بها أن تبني مستقبلها إلا علي ضوء ما ملئت به من زيف وتزوير ..

ومن هنا كان الخطر الداهم والكارثة المروعة .. ومكمن الخطر والترويع في ذلك أن هذا الجيل حين يتجه بمستقبل بلاده إلي الهاوية – إكمالاً للخط الذي رسم له في ماضيه وحاضره – يتجه واهمًا أنه متجه إلي الأمن والسلامة ؛ فهو لا يلتفت إلي محذر ، ولا يستمع إلي ناصح .. وأمثال هؤلاء أنبأنا القرآن عنهم وحذر انحدارهم إلي الهاوية وهم غافلون فقال وقل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وإذا كان الله عز وجل قد تكفل لكلمة الحق أن لا تطفأ شعلتها وأن لا يخبو ضوءها ، فهذا شأنه سبحانه وهذه مشيته .. أما أن يكشف معصوبو العيون العصائب عن أعينهم ليروا هذه الكلمة فهذا شأن آخر تركه سبحانه لعباده إن شاءوا رفعوها فرأوا ، وإن شاءوا أبقوا عليها وتشبثوا بها فظنوا في ضلالهم سادرين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقد رتب علي هذا التخيير الثواب والعقاب وحدد يومًا للحساب " إنا أعتدنا الظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها " كما تحيط العصابة – التي يتشبثون بها – بأعينهم لتحاصرهم عن رؤية الحق وهم بذلك راضون وعن الحق ناكبون .

ومما ينبغي أن يعلمه القارئ أن هذه الدعوة .. علي مكانتها بين دعوات العالم ، ومع صراعها مع الظلم والطغيان في الداخل والخارج طيلة خمسين عامًا – فإنها لم تعن بجانب التسجيل عناية كافية والله لا يحس بخلوها من هذه الناحية الهامة إلا من عرض نفسه – لتسجيل أحداثها .. وقد يعزي ذلك إلي أن هذه الدعوة قد تملكت من أول يوم أفئدة من آمنوا بها وعاهدوا علي العمل لها ، بحيث لم تدع لأحد منهم فرصة يخلو فيها إلي نفسه ، أو يخلد فيها إلي راحته ، فهو دائب الحركة ، يواصل الليل بالنهار ، متنقلاً بين المجتمعات ، غارقًا في محادثات ومناقشات ، عاكفًا علي إعداد خطط ومناهج .. حتى إذا أوي إلي فراشه منهكًا لا تكتحل عيناه بنوم حتى تجتر مخيلته ما عاني طول يومه من حقوق الدعوة عليه .. ويصحو من نومه حين يصحو علي ما أوي إلي فراشه عليه من التفكير في الدعوة وحقوق اليوم الجديد ، فهو في سباق مع الزمن ، لا يفرغ لحظة من ليل أو نهار .. فأني لهؤلاء أن يسجلوا ؟! .

ثم كانت أحداث جسام ، وظلمات طال ليلها ، وقهر وكبت وتعذيب وإعنات .. طال الأمد علي الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة من عشرين عامًا ، حتى بات استخراجها منها أمرًا عسيرا ، واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لا يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق ، وتداخلت التواريخ ، وأصبح صاحب الذاكرة علي خطر عظيم . هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة عاصرتها وشهدتها وساهمت في الكثير منها .. وجدت مخزون ذاكرتي علي ما صورت ، وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلي مرجع فوجدت الساحة خاوية الوفاض .. أغفل الإخوان في غمرة لذاتهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدني اهتمام .. ثم أتت يد الإثم والعدوان من عربدة الحكام علي الوثائق والمحررات والصحف في كل مكان خاص وعام ، فلم يبق شيء يرجع إليه أو يعتمد عليه .. حتى المكتبات العامة جردوها من كل ما يمت إلي هذه الدعوة بصلة .

وبالرغم من طول الأمد ، وترادف الأرزاء ، وانقطاع الصلات ، فإن الأحداث التي عاصرتها لم تند عن خاطري لأنها كانت فلذة من كبدي ، وقطعة من ذات نفسي ، وجزءًا من أعصابي ودمي ؛ فكيف أنساها ؟ .. ولكن الذي أعياني هو الترتيب الزمني لبعض هذه الأحداث وهو أمر جوهري لا غني عنه لمن أراد يسجل أحداثاً . ولم أجد أمامي إلا مراجعة الصحف اليومية التي صدرت في خلال أربعين عامًا مضت .. وقد عكفت علي مراجعة هذه الصحف ردحًا طويلاً من الزمن ، فوجدت فيها طلبتي في الترتيب الزمني لما في خاطري من أحداث .. ولقد أفدت من مراجعتي هذه الصحف فائدين ، أولاهما ترتيب الأحداث كما قدمت ، والأخرى نصوص بعض المذكرات والخطابات .. ومما يدل علي أن جانب التسجيل لم ينل حظه في دعوة الإخوان المسلمين ظهور كتاب في هذه الأيام يضم مذكرات الدعوة والداعية ، للأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فقد جاءت هذه المذكرات برهانًا قاطعًا علي إغفال هذه الناحية الهامة ، فلم يسجل في هذه المذكرات عشر معشار ما مر بصاحبها من أحداث ، ولم يكن – رضي الله عنه – عاجزا من تسجيلها وتحليلها ولكن هكذا شاءت الأقدار .

وهذا الفراغ في ميدان التسجيل الذي رأيت دعوة الإسلام في هذا القرن تعانيه هو الذي دفعني إلي النهوض بهذا الواجب ملأ لجزء من هذا الفراغ ، وأداء لحق هذه الدعوة علي . وإعذارًا إلي الله في حق هذا الجيل والأجيال القادمة . ولقد تعرضت في هذه المذكرات لمعالجة نقاط ذات حساسية بالغة ، ربما تحاشي الكثيرون التعرض لها ، وحاولوا تفاديها . ولكنني آثرت التعرض لها مدفوعاً إلي ذلك بدوافع منها :

أن هذه النقاط – مهما بلغت درجة حساسيتها – هي جزء من تاريخ هذه الدعوة ، وكان لها آثار عميقة في هذا التاريخ ، وما كان ينبغي لعارض أحداث تاريخ أن يغفل جزءًا منه استحياء من ذكره أو طمسًا لمعالمه ، أو إهانة للتراب عليه حتى لا يراه الناس .. والتاريخ كما يقولون – لا يرحم . فإذا تعافي عنه أصحابه وأغفلوا فسيتولى نشره غيرهم .. وحينئذ لا يلام الناشرون إذا هم نشروه مشوهاً أو محرفاً .

ومن هذه الدوافع أنني كنت أكثر الناس ملابسة لهذه النقاط ، وأشدهم اتصالا بها ، وأقربهم رؤية لحقائقها ، فكان لزامًا علي أن أتعرض لها لأكشف النقاب عن كثير مما غاب عن الرائين ، وأن أميط اللئام عما خفي من ظروفها وبواعثها ، وأن أقضي حق للتاريخ في تمحيصها وتجليتها . ودافع ثالث هو أن ألفت النظر – نظر أصحاب الدعوات وأتباعها من الأجيال القائمة والأجيال القادمة – إلي أن إطلاق العنان للعواطف – مهما نبلت من العواطف ومهما حسن مقصدها – قد يجني علي الدعوات ومجتمعاتها . وأن السبيل الأقوم دائما فيما يتصل بالمجتمعات هو الاقتصاد في العواطف والسيطرة عليها والحد من انطلاقها . كما ألفت نظر القائمين علي شئون الدعوات الشريفة إلي أن تعلق نفوسهم بأبهة المناصب فيها ، ومحاولة الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ بها ، وقد يكون عاملا مدمرًا لهم ولها .. وأن هذه الدعوات لا يصلح لها إلا من يهبها قلبه كله ووجدانه كله .. أما الذين يتذبذبون بين نداء دعوتهم ونداء مصالحهم الشخصية أو العائلية ، فسرعان ما تشدهم الجاذبية الأرضية بمغرياتها فيهوون إلي القرار " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواءه .

ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، لم تأت لتخاطب طائفة معينة ، ولا لتعامل فئة محدودة ، ولا لنعالج قضايا زمن خاص أو مكان محدد ، فقد كان عليها أن يكون كتابها منشور لا يخفي صغيرة ولا كبيرة دون أن يبرزها بين يدي العالم كله .. فلا حجب ولا أسرار ، ولا خصوصيات يحتفظ بها وراء أستار .. ولقد تعرض القرآن الكريم نفسه لأحداث هي من أخص خصوصيات محمد صلي الله عليه وسلم وأسرته ، قد يتحاشى الكثيرون إذا وقع لهم مثلها أن يسمحوا بذكرها بل يحاولون إخفاءها حتى لا يطلع عليها الناس .. ولكن القرآن تناولها في آياته التي تتلي ليل نهار ، بل تناولها بالبسط والإسهاب وبالتحليل والتفصيل والتعقيب ، وخرج منها بقواعد عامة تنتفع بها المجتمعات .. وما نبأ حادثة الإفك ببعيد . وقد يكون من حق القارئ أن أعتذر إليه فيما قد يلاحظه في الصفحات الأولي من هذه المذكرات من أسلوب هو أقرب إلي الهدوء منه إلي الإثارة ... ذلك أنني .. كما قدمت – لست أتخير موضوعات لمجرد الإمتاع ، وإنما أنا ملتزم بالتمشي مع هذه الدعوة في أطوارها . فإذا كانت الدعوة في مهدها لا تزال تخطو حابية وئيدة – كدأب كل كائن وليد – فما كان لي أن أنتحل لهذا الوليد ما ليس من طبيعته وما هو فوق طاقته . وعلي القارئ أن يوطن نفسه علي أن الذي بين يديه في هذه المذكرات تاريخ حياة لا قصة من نسج الخيال ، ولكل طور من أطوار الحياة وخصائص ، فلا يتعجل ما ينشد من أحداث مثيرة ، فإن الوليد الذي تضرب فوقه الكلل ، وتسدل من حوله الستائر ، لن يلبث حين يشب أن ينبثق عنه فارس مغوار يأتي بالعجب العجاب ، ويأخذ بالقلوب والألباب .

وهناك قضية جديرة أن يضعها القارئ موضع التمحيص والمناقشة ؛هي أن يجنح كاتب المذكرات في ثنايا تسجيله لأحداث الدعوة ، ومواقعها إلي تناول بعض جوانب حياته ومعالم شخصيته .. فهل في هذا ما يمد خروجا عن الموضوع ، وانتقالاً بالقارئ من ميدان هيأ نفسه وفكره لاستطلاعه إلي ميدان آخر لا يعنيه أمره ؟ . أما أنا فأعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل في كتابة المذكرات بل وفي تأليف الكتب عامة ، فإن القارئ حين يقرأ كتابا لا يعرف عن مؤلفه إلا اسمه ، يكون كالغريب الذي يرتاد مدينة واسعة الأرجاء ، مترامية الأطراف ، لا عهد له بها ، دون دليل معه من أهلها ، فقد يضرب في شوارعها وحاراتها وأزقتها علي غير هدي ، وقد يري من معالمها ما تقع عليه عيناه ، وقد يأوي في النهاية إلي مأوى فيها .. ولكنه في ذلك كله لا يشعر بألفة ولا بائتناس ، ولا يخرج بصورة واضحة عنها – أو يكون الذي يتخذ طريقه في الظلام بغير مصباح يكشف له معالمه ، ويدخل الاطمئنان إلي نفسه ، فهو يخطو ما يخطو متوجسًا خائفاً .

فتقديم المؤلف نفسه إلي قارئه ، وكشفه له عن بعض جوانب نفسه ، وإلقاء الضوء بين يديه عن شيء من معالم حياته .. يدخل الأنس إلي نفس القارئ ، ويبعث روح الألفة بينه وبينه ، فيسير في قراءة الكتاب وقد عقد مع المؤلف صداقة أتاحت لهما أن يكونا متلازمين في رحلة طولها طول الكتاب .. وكلما قرأ عن مؤلف أو حدث أو فكرة قرأها وهو يري جذورها التي تنبت منها وبذورها التي انفلقت عنها ، فلا تكون القراءة في هذه الحالة قراءة سطحية لا يصل أثرها إلي أعماق النفس . ثم إن حياة الدعوات ليست إلا حياة رجالها ودعاتها . والفصل بين حياتهم وحياتها أمر غير مستطاع لاسيما إذا كانت الدعوة قد شكلت حياتهم ، وسيطرت علي كل تصرفاتهم حتى فنوا فيها فصاروا وإياها كما قال الشاعر :

ومازلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتـي لذاتـي أحبت

وموتي بها وجدًا حياة هنيئة

وإن لم أمت في الحب عشت بغصة

وتقع هذه المذكرات بطبيعة موضوعها في ثلاثة أجزاء .. يعالج الجزء الأول منها الدعوة في عهد المرشد الأول ، ويعالج الجزء الثاني منها الدعوة في عهد المرشد الثاني ، ويعالج الجزء الثالث الدعوة فيما بين العهدين . ولما شرعت في تبويب الجزء الأول لاحظت أن أطوار الدعوة فيه مرتبطة بالأمكنة التي شغلها العام فجاءت بذلك أربعة أبواب . وقد وطأت المذكرات بمدخل قدمت فيه نفسي إلي القارئ ، وأومأت إلي تأثير نشأتي في اتجاهي الذي انتهي بي إلي دعوة الإخوان المسلمين ، والطريق الذي سلكته إليها . علي أنني وقد طرقت باب التسجيل في دعوة الإخوان المسلمين ، لا أدعي أنني ألمعت بكل شيء وحتى القليل الذي ألممت به لا أدعي أنني أوفيت فيه علي الغاية .. ولكنه جهد المقل .. وحسبي أن تحسست الطريق وارتدته لمن يرغب في سلوكه من بعدي . والله تعالي أسأل أن يجعل هذا المجهود لوجهه ، وأن يتقبله فيما يتقبل من العمل الصالح ، وأن يرفعه وينفع به ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، وإنه نعم المولي ونعم النصير .

محمود محمد عبد الحليم

الإسكندرية 5 من شهر ربيع الأول 1398

12 من فبراير 1978

 

المدخـل

إلي متى تمضي بنا الأيام والسنون وعامل التسويف هو العامل المتصرف في حياتنا وأعمالنا ؛ فنفكر ثم نعزم ثم يقول عامل ما فنؤجل ، وتمضي الأيام سراعًا – وليتها تمضي مليئة بالعمل – ثم نتذكر فنفكر ، ونعزم ثم يكون التأجيل ... وما هو العمر حتى يتسع لعشرات من هذه الدورات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ؟! ..

وقد لا يكون موضوع التفكير والعزم مثيرًا وهامًا لأن أصحابه لم ينتهوا إلي النهاية المثيرة التي تستحق الإعجاب وتثير الاشتياق ؛ إلا أن الحكم بمجرد النهاية قد لا يكون حكمًا قاصرًا وظالمًا ، فقد يكون استعراض سلسلة الأحداث مما يغير رأي الذين لا ينظرون إلا إلي النهايات وحدها .... ثم إن اعتبار الهزيمة نهاية أمر فيه نظر ، فانهزام الأشخاص في حياة الدعوات واختفاؤها تحت التراب زمنًا حتى تطأها أقدام الغافلين طورًا من أطوار حياتها لا تستقيم حياتها إلا به .... وهذه ظاهرة فيما أعتقد وأعلم تلازم كل الدعوات علي اختلاف أهدافها وأفكارها .. وقد اعتبرها الإسلام سنة لم يستثن نفسه منها ؛ فتاريخ الدعوة الإسلامية منذ بزغ نوره تنتابه هذه السنة ... فمصباحه بين التبلج والخفوت حتى يظن أنه انطفأ .

والدوافع التي وراء المؤامرات التي تدبر للدعوة الإسلامية تنحصر عادة وتنبع دائمًا من حسب السيطرة الذي يستولي علي نفوس بعض الحكام سواء أكانوا من المنتسبين إلي الإسلام بحكم مولدهم أم كانوا من غير المسلمين ، يجد هؤلاء في الدعوة الإسلامية العقبة الكبرى أمام تحقيق مطامعهم في السيطرة لأن الإسلام بطبيعته ما جاء إلا لتحرير الإنسان والقضاء علي الاستبداد والاستعباد لغير الله . ولتوضيح ذلك يجمل بنا ونحن في مستهل الحديث عن طور من أطوار الدعوة الإسلامية أن نحاول تصوير هذه الدعوة تصويرًا مجملا ، مبرزين الخطوط العريضة المسكونة لهيكلها فنجدها ثلاثة هي :

أولا :العقيدة ثانيا : العبادة ثالثا : المعاملة .

 

أولا : العقيدة

هي حجر الأساس وهي الركيزة العظمي التي لا قيام للدعوة الإسلامية إلا عليها ، كما لا قيام لأية دعوة إلا عليها ... ولكل دعوة سواء أكانت دينًا سماويا أو وضعيا عقيدة ، وعلي قدر سلامة العقيدة ينجح العمل المبني عليها .. ونقصد بسلامة العقيدة موافقتها للفطرة للعقل والمنطق ، ومجافاتها للأوهام والتعقيد ، وتجاوبها مع الفطرة السليمة . وعقيدة الإسلام لله وحده ، هي ما نزل وما دعا إليه كل نبي ورسول سبق نبينا ، فهي نفس عقيدة المسيح عيسي وعقيدة موسي وعقيدة إبراهيم " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " لا أن أطماع الدنيا وتسلطها علي نفوس من آلمت إليهم أمور الإفتاء في شئون الدين بعد الأنبياء فعلت فعلها فجعلت من هؤلاء الورثة أداة طيعة في أيدي المستبدين من الحكام فحرفوا في كتبهم وأخفوا منها وزادوا عليها حتى يستقر الأمر لهؤلاء الطغاة من الحكام " وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .

وكيف يستطيع حاكم مستبد أن يحكم قومًا وفي أعماق كل رجل منهم وامرأة وطفل مناد يهتف بهم في كل وقت من ليل أو نهار أن لا خضوع إلا الله وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن لا خوف إلا من الله وأن لا فضل إلا من عند الله " قل أغير الله أبغي ربًا وهو كل شيء " ، " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير " ، " قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يُطعم ولا يطعَم " ، " أليس الله بكاف عبده ويخوفك بالذين من دونه " ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " . " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .

والعدالة بين الطغاة من الحكام وبين العقيدة الإسلامية مستحكم من قديم ، فهذا الحاكم المستبد الذي أحسن خطورة هذه العقيدة علي استبداده فاستدعي " إبراهيم " عليه السلام وهو في غرور سلطته وأدار معه حوارًا علي النحو الذي ورد في الآية الكريمة " ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " وينهزم الحاكم المستبد حين يدخل مع العقيدة الإسلامية في الحوار فيطيش صوابه ولا يجد في حصته إلا البطش والإرهاب فيأمر بإحراق صاحب هذه العقيدة لعلها تحترق باحتراقه وتبيد ويستريح منها ولا يجد أمام استبداده عائقًا يقف في وجهه " وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتختلفون إفكًا ، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " ، " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " .

والقارئ حين يقرأ قصة موسي وفرعون ويري القرآن يقلبها بين صفحاته وفي ثنايا سوره علي كل وجه من وجوهها ليبرز من معاني الظلم والاستبداد ومن ألوان الزهو والكبر والغرور من فرعون وحاشيته ومن أفانين الاضطهاد والتعذيب وأصناف التنكيل والإبادة الموجهة إلي العقيدة الإسلامية التي كان يحملها في ذلك الوقت قلة من بني إسرائيل ... هذا القارئ سيبين له لماذا يكن الملوك المستبدون والحكام الطغاة الكراهية لهذا الكتاب ولماذا يحيكون ضده المؤامرات فهو يؤجج ثورة عارمة ضد كل مستبد ظالم " طسم . تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .

ورسالة موسي رسالة واضحة صريحة ، لا تخرج عن كونها دعوة لإنقاذ شعب اضطهده حاكم مستبد لا لشيء لأنه مستمسك بعقيدته التي تتعارض وطغيان هذا الحاكم " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل " . ويحس فرعون من موسي قوة وصلابة فيحاول استمالته فيقول له " ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ... وقد يلين الرجل إذا ذكر بهذا الفضل الذي لا يجحد في كل موقف إلا في موقف واحد هو موقف يتعلق بالعقيدة التي لا مساومة عليها فيرد عليه موسي فيقول " فعلتها إذن وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين ثم يقرر موسي مبدأ خطيرًا بأن استعباد الناس جريمة يذهب مع فظاعتها كل فضل أتاه المستبد فيقول " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ".

ولسنا بصدد السير مع قصة موسي وفرعون بكل الوجوه التي قلبها القرآن ، فإن ذلك مجال جد فسيح ن وإنما قصدنا إلي إيراد وجه من هذه الوجوه لندرك منه مدي خطورة هذه العقيدة علي طموح المستبدين وآمال الطغاة الظالمين ، وكيف أن هذا الكتاب بما جاء به من عقيدة هو تحد دائم لا ينشي وسيف مصلت لا ينثلم وحده في وجه الطغيان والاستبداد .

 

ثانيا : العبادة

لاشك في أن العبادة وليدة العقيدة ، وكل عبادة ليست وليدة عقيدة إنما هي نوع من النفاق لأن العبادة هي اقوي أنواع مظاهر الاعتراف بالفضل ، ومظاهر الاعتراف بالفضل كثيرة متنوعة ، ولكن قمة هذه الأنواع الاعتراف بالعبودية لصاحب الفضل . ويحث الإسلام الناس على الاعتراف بالفضل للمخلوقين بجميع مظاهر الاعتراف إلا بمظهر العبودية الذي حرمه على الناس ألا لله وحده وجعل الاعتراف بمظهر العبودية لغير الله شركا لا يغفره الله (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر من دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثما عظيما )) (النساء 48) .

والمقصود من العبادة أولا أن يرى الله تعالى من عباده مدى امتثالهم لأمره . والامتثال هو نوع من الطاعة إلا أنه أعلى درجاتها ؛ فإذا كانت الطاعة هي تنفيذ الأمر فيما يسيغه العقل ويسلم به المنطق فإن الامتثال هو الصدوع بالأمر لمجرد أنه أمر ، وكل مبرراته الثقة الكاملة في الذي أصدره . فإذا أمرنا الله تعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة في مواقيت محددة وكل منها ركعات محددة فإذا هذا التوقيت وهذا التحديد إذا عرضا على العقل والمنطق لم يجدا لهما تعليلا ولا تبريرا ؛ فالتزامك بأداء هذه الصلوات بهذا التوقيت وهذا التحديد هو امتثال لأمر الله لأنك تؤديها لمجرد أنه أمر من الله عز وجل الذي آمنت به من قبل عن طريق العقل والمنطق وفى الامتثال معنى العبودية الكاملة التي أرادها الله حيث يقول (( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون )) (الذاريات 56) .

والمقصود الأخر من العبادة هو أن تكون وسيلة للتعرف على الله والتقرب إليه واستمداد العون منه باعتباره سبحانه هو وحده القادر الوهاب الفعال لما يريد .. وإذا كانت الحياة الدنيا بشرورها وغرورها مسلطة على قلب الإنسان . وإذا كان الإنسان بطبيعته لا يقوى على مدافعة هذه الشرور وهذا الغرور وقد قال الله تعالى في شأن الإنسان (( يريدا لله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)) ( النساء 28) فما كان أحوجه إلى ركن شديد يأوي أليه وإلى سند منيع يفزع إليه ؛ فكان من فضل الله على عباده إن أتاح لهم فرصا للفزع إليه والاستمداد منه ؛ فشرع لهم العبادة صلة بينهم وبينه وبابا يهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو قست عليهم نوائب الحياة (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين )) (الذاريات 50 - 51 ). (( يا عبادي اللذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون )) (العنكبوت56) ... ولذا فإن المؤمن لا يتطرق اليأس إلى قلبه مهما ادلهمت عليه الخطوب وأظلمت في وجهه سبل الحياة .. وكيف يجد اليأس سبيلا إلى قلبه وهو يسمع واهب الحياة ومدبر الآمر وصاحب الملك كله يناجيه فيقول (( ورحمتي وسعت كل شئ فساكبتها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )) (الأعراف 156 ). ويقول (( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) ( يونس 57 -58) . ويقول (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين )) (الأنبياء 87-88 ).

والعبادة تلعب الدور الأكبر في تكوين الأمة ؛ لأنها تكون الفرد وتصقل روحه وتصفى قلبه وتزكى نفسه وتغسل بما فيها من مناجاة الله صدره . فهو بها دائم التذكر لربه دائم الخوف من عذابه ، دائم الشوق إلى جنته ، يرى الجنة دائما عن يمينه والنار عن شماله ؛ ومثل هذا لا يصدر منه إلا فضائل الأعمال ... وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 110 ) .

والفرد المسلم في هذه الحالة لا يندفع إلى قول أو عمل من صميم قلبه لا من آمال تتعلق بمتاع الدنيا ، وكلم شدته الدنيا إلى متاعها ، وجرته إلى مغرياتها ، وحاولت تلويثه ببهرجها ، وكادت تغمسه في فتنتها ؛ سمع المؤذن ينادى إلى الصلاة فكان الآذان تنبيها له من غفلته فيترك ما هو فيه شان ويجيب النداء فيتوضأ ويقف بين يدي ربه فيذكر الله بلسانه فينبه لسانه قلبه ثم يستعرض في صلاته عظمة ربه وجلال فضله وشدة عذابه وواسع مغفرته ومدى رقابة الله عليه ومدى احتياجه إلى عونه فيخرج من الصلاة خلقا آخر كأنما اغتسل من قذر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( أرئيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يترك ذلك من درنة شيئا ؟ قالوا لا قال ذلك مثل الصلوات الخمس )) وكما يقول الله تعالى في الزكاة (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) (التوبة 102) . وكما يقول في الصيام ((يأيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون )) (البقرة 183)(( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ((من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)) .

والأمة التي يتجه زعماؤها وحكامها في تربيتها إلى غير هذا الطريق إنما هي أمة تائهة ؛ لأن القوانين - مهما تضمنت من عقوبة – لا تردع الفرد متى استطاع التهرب من طائلتها فإن حراس القانون لا يستطيعون مراقبة كل فرد في كل وقت وفى كل مكان . فإذا لم يكن للفرد رقابة على نفسه من نفسه فهيهات أن تجدي القوانين ... وهذه الرقابة النفسية إنما هي الأثر المباشر للعقيدة والعبادة . فالعقيدة تزرعها فى النفس والعبادة نتعهدها فترويها وتنميها والى ذلك يشير قوله تعالى (( وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عن عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) (يونس 61) . والتهرب من القانون وحراسة أمر سهل وميسور ، أما التهرب من الله عز وجل فأمر غير مستطاع ولذا فإن القرآن قد جعل الإ�

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 133 مشاهدة
نشرت فى 25 أغسطس 2011 بواسطة BADRFOUDA

ساحة النقاش

ابو استشهاد

BADRFOUDA
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

132,458