أبناؤنا يترعرعون كما "نحن الآن بالفعل" لا كما "نرغب". فلو نلتزم بهذه القاعدة في سياق تربية الأطفال، فسوف نشهد نوعاً من التحول في المناهج والرؤى التربوية. أي قبل أن يتحقق لنا ما نطمح إليه نحن الكبار في سياق تربية أبناؤنا لابدّ أن نكون نحن أنفسنا قد توصلنا قبل ذاك إلى ذلك النمط التربوي ليصير أبناؤنا إلى ما صرنا إليه.
من هنا، فإنّ التربية عملية باطنية، خفية، وجودية وطبيعية وغير قصدية، غالباً وتختلف عن لعب الأدوار وتقديم مشاهد تمثيلية مختلقة. فلو لم تتحقق لدينا نحن أنفسنا التربية وارتأينا أن نلعب ظاهرياً دور أشخاص متربين لا نكون قد قدمنا خدمة لتربية الطفل، بل نكون قد فرضنا عليهم القولبة في شخصية أشخاص متنمقين، مرائين، ومن حيث سمات الشخصية، متعددي المظاهر. فأبناؤنا يتوحدون، في سياق النمذجة، مع شخصيتنا، وبالتحديد مع قسم من وجودنا هو جزء من طبيعتنا وطابعنا الذاتي حقاً وليس مع ما نتقنع به من أنقبة وأدوار مختلفة وأنماط سلوكية تصنعية. فلو كنا نرغب في تحقيق تربية صحيحة لأبنائنا لابدّ أن نكون نحن أنفسنا متربين آنفاً ليتمكن المتربون من التربي بأسلوب صحيح.
فلعب الأدوار وقبل أن يؤثر في وجود المتربي يسدل غشاءاً زائفاً على حقائق وصعاب عملية التعليم والتربية. وإرتباط المربي والمتربي خلال لعب الأدوار إنما يصبح حائلاً دون التربي حيث لا تظهر على مرأى المتربي خلاله إلّا السلوكيات الظاهرية بشكل آلي وتصنعي وحتى لو كانت هذه السلوكيات مطلوبة وحميدة، ولكن بسبب عجزها عن الإتصال بوجود الفرد تصبح عقيمة وغير متجذرة، ولا تثير أي إنعكاس خلال عملية التربية.
والدور الأساس للمربي خلال عملية التربية الأخلاقية، من وجهة نظر "جون ديوي" هو أن يعلم أنّ التلاميذ بحاجة إلى الأفكار الضرورية التي تتحول إلى "قوى دافعية ذات فاعلية توجيه أخلاقي" لا "قوى خارجية مختلقة وتصنعية"، أو يترشح عنها "توسيع مجال الحياة المتيقظة الواعية وتعميقها.
ويقول "ديوي" في كتاب "المبادئ الأخلاقية في التعليم والتربية"، جازماً، بأنّه لا هدف أخلاقي للمدرسة دون المشاركة في الحياة الإجتماعية. أي بعبارة أخرى، لو لم يساهم التلاميذ بأنفسهم وتلقائياً في عملية التعليم والتربية، فإن كل تعليم أخلاقي وعملية نقل القيم الأخلاقية إلى التلاميذ سوف يتسم باللاجذرية واللا ثبات. ولتحوّل الأفكار إلى آداب وسلوكيات أخلاقية لابدّ من الإشراف على نمط اتصال التلاميذ أخلاقياً مع الآخرين. فبحسب رأي "ديوي": الدوافع والقوى الغائية الأخلاقية هي، تقريباً لا تمثل شيئاً أكثر من النباهة الإجتماعية. ولتتنامى النباهة الإجتماعية لابدّ من تنظيم المدارس وتنسيقها بنحو يرتبط خلاله منهج التعليم والتربية مع الخبرات الشخصية للتلاميذ.
أمّا ما يلوث بيئة المدارس ومناهج التعليم والتربية الأخلاقية ويُقبِّح ظاهرها، فإنّها الإجراءات الشكلية وحالات لعب الأدوار الإصطناعية المزيفة والتي يتبناها بعض المربين والمعلمين الذين يتقمصون الأدوار في النشاطات التربوية دون إيمان راسخ بما يقولون بل يلتزمون بأدائه ظاهرياً.
فالتعليم والتربية وقبل أن يكون جهداً للإثبات والنقل فإنّها عملية تتحدد بالعرض والإشارة والتقديم ليهتدي التلاميذ تلقائياً ووفق رغباتهم وإرادتهم وإندفاعهم الباطني إلى تلك المؤشرات والخطابات. ففي حالة سيادة مثل هذه الأجواء من الثقة، والتي يُعبَر عنها بأسلوب وجودي، في بيئة المدارس، تنعدم عندئذ الحاجة إلى كل هذا الجهد المبذول لتقمص الأدوار والتحايل بهدف أداء النشاطات التربوية ونقل القيم والمُثل الأخلاقية.
ساحة النقاش