إن النوع الوحيد من فقدان الاستقامة هو ذاك الذي نلاحظه في سلوك الآخرين ولا نلاحظه أبداً في سلوكنا. فنحن معلمو المعلمين في فن خداع الذات وربما يكون معظم سلوكنا، ومعتقداتنا، وأفكارنا، ومشاعرنا من طبيعة مختلفة أو معاكسة لما نظنه فيها. فالشعور بالعطف قد يكون قناعاً للغرور الذي نخبُرُه من موقع التفوق الذي نحتله عندما نشفق على أحدهم. وقد يكون عمل الخير تعبيراً محرفاً للشعور بالذنب؛ والكره تعبيراً عن حب مرفوض؛ والحسد تعبيراً عن تشويه لحب أو إعجاب نشعر به نحو أحدهم؛ والتعصب الأخلاقي تعبيراً عن إخفاقاتنا الأخلاقية الخاصة.
قلما نستخدم عقلانية أعلى لتحليل تصرفاتنا أو تلك المواقف التي نتورط فيها. وعلى العكس، فإننا نلجأ إلى إخفاء رغباتنا وأغراضنا لكي لا نشعر بالخجل منها. فنحن خبراء في تجميل أفعالنا حتى أن دوافعنا الحقيقية، التي نختزنها في داخلنا، تبقى متوارية عن أصدقائنا وتفكيرنا الواعي.
تساعدنا هذه الاستراتيجية المتقنة على التصرف غير الصحيح، فنستولي على ما ليس لنا، أو نكذب، أو نغش، أو نخدع، أو نقتل، مع أننا في الوقت نفسه، نحمل إحساساً داخلياً بأننا أبداً لم نضل الطريق القويم. ويكذب أكثرنا غالباً للحصول على ما يريد؛ ونُخلِف وعداً قطعناه للآخرين؛ ونعيش في خضم النفاق، والادعاء، والمخالفة المقنعة للقوانين؛ ولكننا نحاول عادة أن نظهر كحمائم بيضاء، مما يتطلب مواصلة الكذب إلى ما لا نهاية للظهور بهذه الصورة أمام الآخرين وأمام أنفسنا.
ويرعبنا الاعتراف بانه يمكن أن يكون في أعماقنا شيء من الشر، أو الخسة، أو الخداع، مما يجبرنا غالباً على التظاهر بالكياسة، أو التسامح، أو الصداقة، أو التعاطف مما لا نشعر به في الواقع.
ويسيطر النفاق على وجودنا، وننكر بعناد عيوبنا الشخصية، بادعاء عدم وجودها. ونخاف ممن يعرفون الحقيقة لأنّهم يعطلون النظام ويكشفون حقيقتنا.
وعلى العكس، فنحن نتعاطف مع المنافقين، اللامتحمسين، المعسولي الكلام الذين لا يتحملون مسؤولية ولا يلتزمون بشيء بل يتخذون وضعاً ملتبساً غير محدد لكي يتفادوا النقد. ويحلو لنا أن نسم أنفسنا كشرفاء، وطيبين، وكرماء، وشجعان، وحساسين، ونصدق بأننا نتصرف بشكل محترم.
نريد عالماً يمكن تكييفه وفقاً لتركيبنا النفسي، وعندما نواجه الحقائق التي لا ترضينا أو التي تكدرنا، فإننا نلجأ إلى الآليات المتقنة للدفاع عن النفس لإنكارها، أو كبتها، أو إسقاطها، أو تحويلها إلى ضدها، وهذا كله يتطلب حيل الخداع العقلي الاستثنائية المعقدة لكي نكذب، وفي الوقت نفسه، نحتفظ بقناعتنا بأننا مخلصون. ويتعزز الكذب عن طريق المناجاة العقلية التي فيها يتكلم الناس، بنوع من المحادثة الداخلية، حول وضعهم ودورهم الذي يجب أن يقوموا به في شتى وقائع الحياة اليومية، ويفكرون باستمرار بهدف تعزيز صورتهم الخاصة، ويبتكرون تبريرارت معقدة للإخفاقات والتصرّفات غير اللائقة التي تعرض للخطر احترام الذات عندهم، ويبررون كامل وجودهم لكي لا يواجهوا واقعاً داخلياً أو خارجياً.
ربما تبدأ هذه الأنماط من التفكير في الطفولة، عندما يكسر الطفل شيئاً ثميناً ويترتب عليه أن يبتكر تعليلاً يعفيه من المسؤولية أمام والديه ولذا يلقي اللوم على الآخرين فيما حدث. فإذا نجح في مسعاه وتكرر هذا الموقف كثيراً، فإنه يكتشف وسيلة فعالة للإفلات وتفادي الإدانة. ربما كانت هذه واحدة من الطرق التي يكون فيها تتكون تدريجياً آلية عدم الاستقامة عند الفرد. وإضافة إلى هذا، يمكن للطفل أن يكتشف كذب والديه على الناس، ويستنتج بسرعة أنهما يهدفان إلى الحصول على منفعة منهم. وعلى هذا النحو تتكون أشكال مختلفة وخطيرة تقريباً من الكذب، لابتداع قصة زائفة كلياً، بتحريف ما حدث فعلاً عن طريق حجب جزء من الحقيقة أو بإلقاء اللوم على الآخرين فيما حدث. والكذبات الصغيرة في المدرسة التي تبدو غير مؤذية، كتلك التي يحاول فيها الطفل أن يبيِّن مدى أهمية والديه، أو المغامرات والنشاطات التي يفترض أنه يشاركهم بها، يكتسب من ورائها شهرة وإعجاباً من رفاقه. ولكن جميع آليات الخداع التي تحقق أهدافه تتحول تدريجياً إلى أنماط دائمة من السلوك، مما يؤدّي إلى نمط حياتي غير مستقيم.
ونظراً لعدم وجود حد لعدم الاستقامة، فإنه يمكن للفرد أن يصعد، عن طريق الاستفادة من هذا السلوك، إلى ذرى عالية من القدرة الثقافية، أو الاقتصادية، أو السياسية، ومع ذلك، فإنه يحتفظ بقناعة تامة في عالمه الداخلي بنزاهته واستقامته. وقلما يُكتَشَف هؤلاء الناس عندما يحرزون مكانة اجتماعية مرضية، لأنّهم محميون وفوق الشبهات بسبب الصفات المثالية التي يخلعها عليهم الحشد.
تشير عبارة عدم الاستقامة إلى مواقف ذات طبيعة جانحة، ولكنني أستخدمها أساساً بمعناها الأوّل لتعريف عملية خداع الذات التي من خلالها يتم تحقيق أهداف مقنعة من نوع احتيالي بوسائل غير شرعية، دون نوايا سيئة ظاهرة، لأن الفرد يوسع خداعه إلى الناس من حوله بقدر ما يكذب على نفسه.
وهي، في معناها الثاني، تشير إلى تزييف لاواع لحقيقة تصرفات المرء، التي تساعده على حماية صورته وتفادي اللوم عندما يرتكب أخطاء أو يتصرف على نحو خاطئ أو بطريقة لا أخلاقية. وفي هذه الحالة، وعن طريق المناورات العقلية غير الشريفة، يلقي اللوم على طرف ثالث بسبب الفشل أو أنه يُقنَع نفسه بحقيقة ادعاءاته، أو ينكر أنه تصرف على نحو غير سليم.
وهناك حالات أخرى يفشل فيها في مجال ما من حياته لأنه يزيف أو يقلل، دون وعي، حجم المشكلات التي يتوجب عليه أن يواجهها لكي ينجح. وهكذا، ينزلق إلى الانتصارية، أو التبسيطية المفرطة، أو التقييم المبالغ فيه لقدراته، أو جهل العوائق التي عليه أن يواجهها في الموقف الذي يجب أن يعالجه. فعلى سبيل المثال، هناك أناس يتلهفون كثيراً إلى النجاح في عالم الأعمال، ممن يتصرفون بتهور، دون الاعتماد على معلومات موثوقة أو رأسمال كافٍ، يدفعهم تصور مبتسر لتوقعاتهم للنجاح، وينفقون المال سلفاً من الأرباح التي سيكون الحصول عليها صعباً. علاوة على ذلك، يرفض هؤلاء الناس الإصغاء إلى النصح المخلص ممن هم أكثر منهم تجربة. إنهم فعلاً لا يريدون أن يتعلموا أي شيء يمكن أن يعرقل، أو يشوش، أو يؤخر وهم النجاح والسعادة بما خططوه لأنفسهم من قبل. وهذا لا يحدث فقط في مجالات العمل الحر في المجالات المربحة، بل أيضاً فيما يخص العلاقات بين زوجين. فكثيراً ما يلجأ الناس عادة، لكي يُحدِثوا تأثيراً إيجابياً، إلى تزييف صورهم بشكل مثير عندما يريدون إغراء البعض، وهذا هو السبب الحقيقي لفشل الكثير من الزيجات، لأنه، مع مرور كل يوم، تتزايد تدريجياً صعوبة ومشقة الاستمرار في عرض الصورة المزيفة بنجاح. وتصطدم الصفات المفترضة للفرد بالواقع القاسي وتأزف، بصورة حتمية، لحظة الحقيقة عندما يتحتم على الزوجين أن يتقبل كل منهما قيمة الآخر وأهليته.
وهناك أيضاً نمط آخر لخداع الذات أتى على دراسته "تيودور رايك" في كتابه الحب كما يراه عالم نفساني، ذاك هو عرض الصورة المُمَثْلَنَة، الذي يعني، في حالة المرأة، تركيز كل أحلامها وتوقعاتها حول على من تظن أنه رجل مثالي، وتسلطها على فرد حيادي تستخدمه كمجرد ستارة خلفية أو مشجب تعلق عليه صورتها الخاصة المُمَثْلَنَة. وعند إنجاز هذه العملية، فإنها ستعمل فقط على تذوق عرضها الخاص وتهمل الصفات الحقيقية للفرد. وبمرور الوقت، سينتهي الوضع إلى أزمة، لأن الواقع يجعل من الصعب الاحتفاظ بالحلم، وتأتي اللحظة التي فيها تكتشف حتماً الصورة الممثلنة التي رسمتها وزوال الوهم الذي ينتج عن هذا الاكتشاف. ويعني عدم الاستقامة، في الأساس، تعديلاً خبيثاً محرفاً في الطريقة التي نركّب بها واقع العالم بزخرفة اعتباطية للخرائط العقلية المزيفة لكي نكيفها مع أحلامنا، ومخاوفنا، وإخفاقاتنا. وبهذه الطريقة، وعلى ضوء ذلك الواقع، يمكن أن تمثل طواحين الهواء مسوخاً (إسقاط). وعلى العكس، يمكن تصور الأسد الشرس كحمل وديع (إنكار الخطر).
إن التزييف العقلي للواقع هو ما أدعوه عدم استقامة، للتعبير عن حقيقة أن الفرد لا يكيف سلوكه مع الواقع الموضوعي، متهرباً من بذل الجهد الذي يتطلبه ذلك، وعلى عكس ذلك، عقلنة الحياة وأحدثها وفقاً لمعيار الانغماس المعاند في الملذات، والبحث دائماً عن الطرق المختصرة المضللة أو الترتيبات العقلية لتحقيق الأهداف، التي قلما كانت هي ما يؤمن به. يكمن منشأ عدم الاستقامة في استبدال الأهداف، أي استبدال هدف حقيقي بأهداف أخرى ظاهرية.
يتضح هذا بحقيقة أن الأكثرية الكبيرة من عوامل الدفع اللاواعية غير أخلاقية، بمعنى أنه إذا تدفقت هذه العوامل بحرية، فإنها سوف تنتهك، بشكل مكشوف، المبادئ الرئيسة، الأخلاقية والأدبية، التي هي عادة سبب كبتها. ولكن جزءاً منها يعبر عوائق الوعي الأخلاقي، متنكراً بقناع الأغراض الشريفة. وهذا يعلل سبب تأكّل النوايا الطيبة بصورة خفية وبطريقة ماكرة وينتهي الفرد إلى "الاحتياج دون حاجة"، أو الخداع، أو الاحتيال، أو إيذاء الآخرين، ولكن بطريقة متقنة ليس من السهل إثباتها. والأكثر احتمالاً أن يحتفظ مدبر هذه المكائد إلى ما لا نهاية بقناعته في أنه شريف. ويمكن أن نفهم هذه الألاعيب على نحو أفضل إذا وضعنا في اعتبارنا أن الفرد لا يمكنه أن يتحمل الظهور بمظهر الشريف أمام نفسه، حتّى أنّه يجب عليه أن يُقنِع نفسه، بأيّ ثمن، بأن دوافعه نظيفة، مهما كانت قذرة في الواقع، بهدف المحافظة على صورته نظيفة لامعة. ويصدق بأنه طيب مع أنه مجرم عريق، وهكذا ينظم الأشياء، مستخدماً كافة الوسائل الماكرة لواقعه الداخلي، لتبرير تصرفاته، إما بإنكارها أو بإلقاء اللوم على الآخرين من أجلها. الشخص غير المستقيم هو محتال الحياة، غشاش رخيص، كسول، يبحث دائماً عن السبيل السهلة، ولكنه، في النهاية، سيكون ضحية مناوراته الخاصة. ومن سوء الحظ أن القسم الأكبر من الجنس البشري ينتهي إلى ان يتورط في هذه اللعبة أو يُحتَبَل بها.
الأخلاقية هي العلم السامي للحياة، وهي تمنحنا – عن مساعدتنا على التصرف باستقامة – القدرة على تحقيق خططنا في الطبيعة (الاستقامة هي التصرف دائماً باحترام الطبيعة) لحمل أجسامنا وعقولنا على الاتفاق مع الواقع نفسه.
وعندما نحقق هذا الهدف، نصبح مستعدين لمحاولة المرحلة التالية، التي تتوافق مع الجسم، والعقل، والعواطف، والروح، في الزمان والمكان. فإذا جاءت تلك اللحظة، فإن الفرد يكون روحياً حقاً ومستعداً للصعود على امتداد سبيل الارتقاء.
ساحة النقاش