اكتب هذا المقال و انا ارتدى قبعة المهتم بقضايا التنمية المستدامه و هى الصفة التى لازمتنى كثيراً و لا تزال فأن كنت احترف العمل فى مجال البحوث الزراعية فأننى اهوى العمل فى التنمية و هذا مادرجت عليه منذ شبابى الاول و تجدنى كثيرا و انا اتقمص هذه الدور ولعل لى كثيراً من الاهتمام بالموارد المائية و بنهر النيل تحديداً لارتباطه بمصر.
وفى الاونة الاخيرة طالعتنا اخبار حول تعثر المفاوضات مع الجانب الحبشى حول مدة ملىء بحيرة سد النهضة المشؤوم وهنا بدأ الذعر المصرى , فما نتوقعه انحسار كمية المياه الواردة من الجنوب و التى هى فى الاساس غير كافية فما بالك و انها ستنقص, و كعادة البشر فى مثل هذه الامور يستحضرون السيناريو الاسوأ.
و هذا ما حدث بالفعل فبدأت المناداه بمنع زراعة بعض المحاصيل التى يقال عنها انها شرهة للمياه بل ان الامر كان اكثر تدحرجاً الى ما هو اسوأ حيث يقال ان من سيخالف ذلك سيعرض نفسه للسجن وهذا امر جد خطير.
و بالطبع كان الحديث عن محاصيل لها اهمية استراتيجية كبرى بجانب ان بعضها تتصف بانها محاصيل زراعية صناعية ذات قيمة مضافة بطبيعة تداولها , و ممتصة للعمالة و ربما لها ابعاد اخرى , وكان الكلام تحديداً يطال احد محاصيل الحبوب و هو الارز و احد محاصيل الفاكهة وهو الموز و احد محاصيل السكر و هو القصب, و تناولهم الحديث من حيث انها محاصيل شرهة للمياه, و هو كلام اعلامى و حقق مع الاسف انتشارأً شديد اً حتى اقيمت المحاكمات الصحفيه و الاعلاميه لهم جميعاً, و مما يؤسف له اننا نجيد السير وراء كل ناعق اصبح حكما على هذه المحاصيل انها محاصيل مجرمة مائياً وبالتالى لابد من الحكم عليها بالاعدام بل وسجن من يتعاون او يتعاطف معها , هكذا ببساطة.
و الحقيقة اننا فى مصر نتأثر بشدة بوسائل الاعلام و التى غالبا ما تصنع حالة و تقيم زخما لما تتناوله من المواضيع , وهذا يأخذنا بعيداً عن العقل و التعقل و عن التروى و الرويه, و غالباً ما يصل الامر لمشرعين يتأثروا بشدة بالزخم الاعلامى و يعتبروا ما جاء فيه حقائق ثابتة و لا يسألوا عن رأى الخبراء و مواقفهم بل يكون كل من يخالف المد الاعلامى هو مخطىء وصاحب مصلحة خاصة و من هنا ينتصر الزخم على العلم,
لكن ربما نكون نسينا فى غمرة الزخم الاعلامى و التخوف من المستقبل المائى وهذا أمر بديهى ,ان فى العقدين الماضيين كان هناك اهتمام كبير بالدراسات و الابحاث حول ادارة المياه ادارة فعالة و التقليل من استخدامها و وجدنا من الابحاث ما يبدأ عند استنباط اصناف جديدة مقلة فى احتياجتها للمياه و متحملة للنقص المائى و ربما الجفاف وهذه صفات و مواصفات تصب فى خفض الاستهلاك المائى. بل وهناك من الابحاث ما تناول ادارة عملية الرى فى حد ذاتها من حيث تغيير نظم وطرائق الرى الى النظم الحديثة او تطوير الرى السطحى و الاهتمام بحفظ المياه و تأثير التسوية الدقيقة و الرى التبادلى او استخدام المساطب فى زراعة المحاصيل, و الرى ليلا و غيرها من الافكار التى تصب كلها فى خفض الاستهلاك المائى.
وقد حدثت تطوراً كبيراً فى مسألة الاستخدام المفرط ف للمياه فى محصولى الارز والقصب فوجدنا اصنافاً جديدة مقلة فى احتياجاتها المائية و هذا حقيقى و قد تم الاعلان عنه اكثر من مرة و يتم العمل به لكن و لان الانطباعات الاولى تدوم ظل المحصولان فى قفص الاتهام حتى الان. و ما اقوله و اعنيه ان محصول مثل قصب السكر يمكث 12 شهر فى العام, لكن مكنتنا الابحاث و الدراسات المتعددة من خفض استهلاكه المائى الى ما دون العشرة آلاف متر مكعب مياه فى الموسم تحت نظم الرى المختلفة, و هناك من الاساليب الزراعية التى تؤدى الى خفض المياه المستهلكة به و هى كثيرة و معروفة .
الا انه يتبقى لدينا عقبة كؤود و هى سلوك و اتجاهات المزارعين حيال استخدام المياه فنجد المزارعين يبالغوا فى كميات المياه التى يمدون بها حقولهم وهذا ما درجت على تسميته (بالرى للركب) و هذا هو بيت القصيد و التحدى الذى يجب علينا ان نفكر فيه و فى كيفية مواجهته و هنا الامر يحتاج الى مزيد من الدراسات و التوعية و ايجاد البدائل المختلفة الى جانب ضرورة وجود حلول تشريعية, و تغير طرائق التعامل فى الامدادات المائية, و يمكننا الاستعانة بدول مجاورة او مشابهة لظروفنا المائية.
بل قد يتطلب الامر منا اعادة ترتيب اولوياتنا فى التركيب المحصولى من منظور استراتيجى فى اختيار المحاصيل التى نزرعها حتى لو كانت تخالف المنظور الاقتصادى لان المياه هنا هى العنصر النادر و ليست النقود, و يمكن ان تكون اولويتنا المحاصيل الاستراتيجية كالحبوب و السكر و الزيت و الالياف, ثم تكون الاولية الثانية هى المحصول القابل للتعامل بالقيمة المضافة به اى المحاصيل التى تصنع و تتحول الى سلع اغلى سعراً و فى ذات الوقت تفتح فرص عمل بدخولها المصانع, ثم يلى ذلك ترتيب المحاصيل من حيث استهلاكها المائى و اخيراً نرتب المحاصيل من حيث قيمتها الاقتصادية.
كما ان هناك امور اخرى هامه يجب النظر اليها بعين الاعتبار وهى ان الدلتا بموقعها الملاصق للبحر يجعل منها دوما هدفاً للتمليح و ما يمنع ذلك هو تدفق المياه الكثيرة الناجمه عن زراعة الارز وهذه المياه الكثيرة هى التى تغسل الملوحة و تعيد قذفها الى البحر فهو بذلك يشكل خط الدفاع الاساسى و ربما الوحيد عن خصوبة الدلتا. و يضاف الى هذا ارتباط مضارب الارز و ما بها من عمالة بوجود مساحات الارز التى تعودت مصر على زراعتها و انخفاض هذه المساحة معناه فقد المزيد من فرص العمل و تحول كثيرين الى بطالة.
نفس الامر سيكون مع قصب السكر فيما يخص العمالة و خاصة ان قصب السكر فى مصر يمتص قرابة خمسة ملايين مصرى و أن تم استبدال البنجر بالقصب (لان هذه المصانع يجب ان تستمر بالعمل) فى ذات المساحة فأن السكر الذى سينتج من هذه المساحة من البنجر يساوى 70% من انتاج السكر فى حالة زراعة القصب, هذا على افتراض نجاح زراعة البنجر فى محافظات جنوب الصعيد و هو بالتأكيد امر تحيط به شكوك كثرة جداً ويحتاج الى دراسة متأنيه.
كما انه يتوجب علينا النظر فى زراعة محصول كالبرسيم الحجازى يستهلك كمية مياه تقارب ان لم تساوى المياه التى يحتاجها القصب, و يتم تصدير قسم كبير جداً منه و كأنما نصدر المياه , الى جانب مساحات ملاعب الجولف التى يقدرها البعض بحوالى 40 الف فدان و ربما اكثر و يستهلك الفدان منها حوالى 15 الف متر مكعب مياه فى السنة, بالاضافة الى المساحة الكبرى من مسطحات مجارينا المائية او نهر النيل المغطاء بورد النيل و الذى يعتبر هو الاكثر استهلاكا للمياه من بين جميع افراد المملكة النباتية, فهل فكرنا فيه؟
اذن قبل ان يكون لدينا قرار فى هذه الامور علينا اعادة دراسة كل شىء بشكل جيد حتى نتخذ القرار المناسب الذى سيكون فى مصلحة مصر, و اننى على يقين بوجود الكثيرين ممن سيكون لهم دور فاعل فى انجاز الدراسات التى يتطلبها اخذ مثل هذه القرارات. و من هنا فأننى ادعو الى التريث حتى لا نتخذ قرار ثم نقول سبق السيف العزل.
ساحة النقاش