الصّعود إليّ قَبْلاً
نصوص من وحي رواية "أرواح كيلمنجارو" للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله
فراس حج محمّد/ فلسطين
(1)
خلال الصُّعود إليَّ
إلى جبلي الدّاخليِّ
قبل أن أرى نفسي على القمّةِ
أعدّ الكثيرَ الكثير من الأسئلةْ
وأفتح جمجمتي لمزيد من ثلوج الأجوبةْ
أعيد قراءة الصّورةِ الأخرى في آلة التّصوير مع (إميلْ)
معْ (نورةْ)
ومعْ (يوسُفْ)
وأزحف معهمُ صخرةً صخرةً
وأحاول التّنقيب عن أثر القدم القصيرة في الثّلج والسُّفوح الوعرةْ
أشاهد مثل الكلّ وقع خطوط أعضائي
وأرقب من بعيدٍ قمّة الجبلِ الدّاخل فيّ ظلاً أبيضَ الرُّؤيا
كألفِ صلاةِ امرأةٍ في محرابها الكونيّ مع مرآتها
أعدّ المزيد من الصّفات لأكتب مثل (هاري) على عجَلٍ
وألقط مشهداً قبل الوصول إلى خطّي الأماميّ
وأهمس للرّعد المفاجئ:
"أنّ قلبي نفخة من بوق إسرافيلْ"
سأكمل دون ماءٍ أو هواءٍ أو طعامٍ أو قليلٍ من حرارةْ
أكتبُ جملة أخرى في روايةٍ عنّي
يحبّ روايتها "المؤلّفُ الضمنيُّ" بعد قراءةٍ أولى
وأخرى ثانيةْ
ويترجم القرّاء بعض ملامحي ويبتكرون طريقتي المبتكرةْ
عندها سيعيدون السّؤال اللّولبيّ
وأنا وأصحابي المصابين فقط من نملك القصّة المكتملةْ
(2)
لا بأسَ إذاً
سأكملُ الفصولَ جميعَها
لأرى الشوك أوضح من ذي قبلْ
وأتركُ الإبرةَ غائصةً في حدِّيَ العصبيِّ المميتْ
لا بأس إذاً
في أن أرى نفسي على سجيّتها المَهينةِ
كي لا أقول لها: "كفى"
وأرى الأصدقاءَ أو من كانوا أصدقاءَ
أشدّ عداوةً من الذين أشركوا مع الله والقلب والحبِّ
كُلَّ أحدْ
لا بأس إذاً
أيُّها الماءُ اللزجُ الــ (تَجَمّعَ) في شديقيّ حتّى النهايةْ
فأنا لا أحسن التأويل والإعرابَ في جمل النحاة البارعينْ
لا بأس إذاً
فليكن ما يكونُ
فلست معنيّاً بشيء من يمينٍ كاذبةٍ وشِمالٍ فاجرةْ
سأسيرُ حتى آخر الشوط إلى حكم الطغاة المفلسين من العدالةْ
لا بأس إذاً
ربّما امرأة هناك ستعرف أنّني كنت ذا قمرٍ خريفيٍّ نشيط السير بين الغيمِ، أجترحُ الغوايةَ كلّما طيف تناهى لغزالةٍ مرّتْ وأشبعتِ الرسائلَ بالشتائمِ والشططْ.
لا بأس من قبلٍ ومن بعدٍ إذاً
سأعرف أنّني كنت كما قد كنت قبل بضع سنينْ
سأصعد ما تبقى من جبلْ
وأقيم حفلتين هناكْ
واحدةً لفمي المعلّق في أحابيل النجومْ
وثانية لوضوح أمرِ المستحيلْ
(3)
ماذا فعلتَ بي هذا الصباحْ
غير أنّي رأيت البحر أجمل في روايةِ كاتبٍ
يأتي إلى البحر كما تأتي الشخوص إلى متنِ الحكايةْ
ورأيت نور الله فيّ يضحك في غناءِ الشمسْ
في تلألؤ صفحة الماء الضحوكْ
لذا فيروز لم تظهرْ
ولم تسكن حُبَيْبات الرمالِ على الشواطئ
من غزّةَ المملوءِ خاطرُها بأحلام الطفولةْ
ماذا فعلتَ بي هذا الصباحْ
وصاحبي مثلي يحبّ البحرْ
كان اسمه بالفعل "يوسُف"
بالرسم يوسُف
بالوسم يوسُف
بالوصف يوسُفْ
يغسل نفسه بقصيدة للبحر يسبح مثل موجة
وقامته الطويلة مثل رمحْ
تحرسه كأمّ
أتذكّر مدح أمّي لقامته الطويلة:
"شجْرة حورْ"
يوسفُ كان يمخر البحر الصديق
ويصعد قمّة أخرى بقاع النفس
ويغلب موج الطائرةْ
فسفورَها الأبيضْ
ويضحك مثل عصفور نديّ قد تعانق والسماء
يسكن مهد غيمةْ
يوسف كان أمهر ممّا قد تخيّله الروائيُّ في المشهدْ
أين الساقْ؟
أمِ التفت الساقُ بالساقِ، فعند الطائرات يومئذ المساقْ؟
أكانت الساق في البحر تقضمها الأقراش
غاص لكي يعيد لحمتها إليه؟
يوسُف لا يرى حلماً ولا رؤيا نبيّ
ولا أحد عشر كوكباً ولا شمساً ولا قمراً
كان يبحث عنها بين الركام تحت الماءِ
في ذاك الظلامْ
هل كان يعرف أنّها في بطن غولْ؟
من سيقتله إذن سوى يوسُف؟
سيصعد نحو "كلمنجارو" ليلتقط الساق البعيدة في الجبل
ويعود حرّاً طائراً يمشي على قدميهِ
ويعيد سرد حكاية أخرى بأرواح الصعود إلى الأبدْ
(4)
ريما تصحو تفتّش بين ركام الثلج والريحْ
عن قهوة عابرة في الأفقْ
لا قهوة هنا في هذي الطقوس الغريبةْ
"سأنسلّ.. أعدو خلف رائحة البنّ كي يستطيع المزاجُ الاعتدال في هذه الرحلة الماثلة"
ريما ستشرب القهوة مثل عبقريّ لا يروم سوى بعض من سؤرة الفنجانِ كي يكمل يومه
"قليل من هذا الشراب الملوكيّ سيجعلني أقدرْ
على رؤية الطريق الغامضةْ
بمزيد من ثقة القلوب المؤمنة بالوصول الأخيرْ"
ريما لن تشرب القهوة قبل اعتلاءِ الجبلْ
هناك في "أروشا" في الفندق لا بد من اكتمال الرحلة المتعبةْ
كثير من الماء الدافئ والأعضاء مبتلّةْ
والقهوة الحاضرة الآنَ ألذّ شرابٍ هذه الساعةْ
ريما لا تفكر بالطعام أو الشرابِ
سوى القهوةْ
صدرها الآن متّسع لركض الرائحة البتولْ
تجلس كما تجلس آلهة منتصرةْ
بعد معركة الوجودِ "الخَطِرةْ"
ومن حولها كلّ الطيور مغرّدةْ
تفتح للهواء كلّ مسربٍ
وتهذي مع كلّ عبقة رائحةْ
وتستجلي الأماكن المرتفعة
ريما الآن شبه حوريّةٍ
خارجةٍ من عنفوان الابتهالْ
وتتلو آية الفنجانْ
بشفاه عطرةْ
ريما تعدّ الآن قهوتها على مهْلٍ وتكتبُ آخر جملةٍ ممّا تبقى من روايتها وتضحك:
"لا أستطيع النوم إن لم أشربِ القهوةْ"
ضحكت مرّة أو مرّتين واستمعت إلى نُكَتٍ كثيرةْ
وبكت في آخر المشهد...
لكنها انتصرت كما انتصر الجميعُ الواثقونْ
بهدوءٍ جمّ عرفت معنى النشوةِ الآن في حضرة هذا الشرابْ
في رشفةِ المتعةْ
____________
[*] الأسماء الواردة في القصيدة (إميل، نورة، يوسف، هاري، ريما) أسماء شخصيّات وردت في الرّواية.