في تأمّلِ تجربة الكتابة:
عندما يكون الحوار مُبهرا وجميلا وجادّا
فراس حج محمد/ فلسطين
عليّ أن أنوّه أوّلا إلى مشكلة حقيقيّة، تكمن في تأخّر وصول المجلات العربية إلى مكتبات فلسطين/ (نقاط بيع الدوريات الثقافية)، لتصلك بعد شهر أو يزيد من صدورها. مجلة العربي الكويتية، عدد آذار، 2019، هي أحدث نسخة بين يديّ الآن، وحتى وقت قصير جدا، لم يصل عدد شهر نيسان، وعليّ أن أنتظر لما بعد العاشر من حزيران لوصول عدد شهر أيار، وهكذا...
المهم ليس هنا، ولكن المهم يكمن في أنني مدمن على قراءة المجلات، ومتابعتها، ومهتم بشكل أساسي بالحوارات التي تجريها المجلات مع الأدباء والشعراء والكتاب والمثقفين. أقرأ تلك الحوارات أوّلا وأستمتع بالاكتشاف، والتلصص على خبايا الكتاب، وقد أفادتني هذه الحوارات وتعدد مصادرها كثيرا في تأليف كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، هذا الكتاب الضخم الذي له حكاية خاصة، ربما سأتحدث عنها في وقفة أخرى.
الآن، بين يديّ مجلة العربي، عدد شهر آذار 2019، هذه المجلة التي أحتفظ في مكتبتي الخاصة بما يزيد على مئتي عدد من أعدادها، أحرص دائما على قراءة العدد كاملا، وتوقفت أولا كما هي العادة عند "حوارات العربي"، فقد ضم العدد ولأول مرة خمسة حوارات مع شاعرين وروائيّيْن ومفكر واحد.
استوقفني بشكل لافت الحوار مع الروائي المصريّ أشرف الخمايسي. روائي ذو رصيد إبداعي كبير، قصص قصيرة وروايات، لم أقرأ له من قبل، ولا أذكر أنني صدفت كتابا له في مكتباتنا التي أزورها سواء في نابلس أو رام الله، ولم أعرفه بما يكفي، على الرغم من أن اسمه صادفني وأنا أتابع الحركة الثقافية عموما، فلم أقف طويلا عند الاسم لأبحث عنه، على الرغم من وصوله مرتين إلى القائمة الطويلة لجوائز روائية عربية، ربما لأنه لم يتخطَّ "الطويلة" إلى القائمة القصيرة، وفي العادة كأي متابع، لا ينصبّ التركيز إلا على المتقلّصين في "القصيرة"، فإليهم تتجه الأنظار والتكهنات وخاصة لإعلان الفائز بالجائزة. هذا ليس عذرا بالتأكيد، وهو ربما مرض من أمراض الحياة الثقافية، مصاب به كالآخرين، ولكن لا بد مما ليس منه بدّ على ما يقولون.
ولنتحدث قليلا إذن عن الحوار مع الكاتب كما جاء في العدد (724) من المجلة. تبدو في هذا الحوار الذي أجراه الشاعر أحمد اللاوندي جماع شخصية الخمايسي، وفي البداية أسجل إعجابي بالمحاوِر الذي استطاعت أسئلته أن تحفر بعمق في تجربة الكاتب الأدبية، وتعرّف القراء بمصادر إبداعه، سواء على الصعيد الفكري أم النفسي، وحتى البيئتين الجغرافية والاجتماعية، ظهرت في الحوار أصوله الصعيدية وأثرها في شخصيّته وإبداعه، كما ظهر حبه للاعتزال وشغفه بالسفر، وتقديسه للكتابة، مع أنه اعتزل الكتابة عشر سنوات؛ احتجاجا على المثقفين المصريين "الذين لم يتخذوا موقفا قويا من مصرع الطفل الفلسطيني محمد الدرة على حجر أبيه برصاص الاحتلال". يناقش هذه المسألة، لائما المثقفين على فعلتهم تلك وسكوتهم عن الكتابة في هذا الموضوع.
لفت انتباهي في الحوار ربطه بين المجرم والأديب، فيرى "أن لدى كليهما خللا في التركيبة النفسية. نفس المجرم تحت السوية. نفس الأديب فوق السوية". كما يقدم وجهة نظره في الكتابة عموما محددا موقفه من الكتاب المتكسّبين من صنعة الكتابة، فيقول: "الندرة من كتابنا استطاعت تناول الكتابة بنبل وعفة، وإن أكثرهم اتخذها أثداء يأكل بها، منهم من انتشر بها في المؤسسات الثقافية والمجلات الأدبية كأهم مصادر لأكل العيش ماديا ومعنوياً! ومنهم من يبحث بها عن الوجاهة، وأقربهم للصدق يتعامل معها على أنها لعبة مسلية أو متنفس، في حين الكتابة أعز من كل هذه التوجهات".
لم يسع هذا الكاتب للنقاد، ولم يشارك الأدباء والمثقفين جلسات القهاوي. يلتفت فقط لعمله كاتبا، حريصٌ على انتقاء والتقاط كل ما هو مثير ومدهش، وصرّح أن لكثير من الحيوانات حضورا في قصصه ورواياته، وسيجد القارئ كما قال "قصصا أبطالها بطّ، وإوزّ، وكلاب، وحمير، وقطط"، ويهتمّ بربط أحاسيس تلك المخلوقات وإبرازها في كتاباته.
لقد كان للخمايسي كذلك تفسيراته الخاصة للنفس البشرية، فمن أجمل تعليلاته للحزن قوله: "الحزن رفيق كل من لا يكون في عهدة امرأة تحبه"، ومن هنا ربما سنفهم المرأة أكثر عندما تقول للرجل: لن أجعلك تحزن ما دمت معي، فهمتْ فأحبّتْ، فصارت منبع سعادة كونيّة، وهذا الاستطراد تأويل خاصّ بي؛ محاولة لفهم طرفي المعادلة الإنسانيّة.
وأما فيما يخص القراءة، فإن الروائي أشرف الخمايسي لا يكثر من قراءة الروايات؛ خشية أن يرتبك وهو يكتب في موضوع سبقه إليه غيره، يريد أن يكون حرا من أفكار الآخرين، ويتحرر من وجودها في رأسه، ولكنه يقرأ كثيرا في شتى الموضوعات والأفكار. ومن دقيق ما قاله في هذا الجانب: "وعلى أحدنا ألا يخشى من قراءة الرديء، إذا كانت هاضمته قوية، لأن في الرديء أمورا يحتاج إليها المبدع لن يجدها في الجيد".
نظرة صائبة وشديدة الغور في صنعة الكتابة، تذكرني بما وقفت عنده في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" عندما تناولت الموضوع من جهة أخرى تحت عنوان "الكتابة الرديئة ضرورة إبداعية"، فتحدث الخمايسي عن قراءة الرديء في حين تحدثت عن الكتابة الرديئة، ولعل ذلك عائد إلى تدريب الذائقة الفنية الإبداعية وترسيخ مفاهيم الكتابة الجيدة وجودة العمل الأدبي والعمل على جمالياته وارتفاع مستوى النّصوص شكلا ومضمونا أيضاً، فإذا ما كنت تعرف ما هو الرديء إذن ستكون على علم بما هو جيد، قراءة وكتابة، فالخط المستقيم لم يكن ليُعرف لولا وجود الخطوط المعوجة الشوهاء، وهذا من ذاك بطبيعة الحال، فبضدها تتميز الأشياءُ!
ويقدم كذلك الخمايسي مفهوما آخر لنظرية "موت المؤلف" في سياق حديثه عن النقاد وتعاملاتهم القائمة أحيانا على العلاقة بشخص المبدع، فلا يرى ضرورة أن يكون بينهما علاقة صحبة لنقد العمل الأدبي والحديث عنه، وعلى الناقد أن يفهم "أن المؤلف ميّت بالنسبة له، وأن الحي هو النص"، بمعنى أنه يتوجب على الناقد تناول الأعمال الأدبية بعيدا عن شخص الكاتب والعلاقة معه، وكأنه يقول: اعرف الأدب تعرف أدباءه، على غرار قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، "اعرف الحق تعرف رجاله"، وهذا من جنس ذلك أيضا.
وأخيرا، قليلة هي الحوارات التي تبدأ وتنتهي وهي تتمتع بالسلاسة، وتسير على وتيرة واحدة من الجمال والدهشة والمباغتة والطرافة والجدة، كهذا الحوار الممتع المفيد، وما زاد من توهجه الجميل خاتمته بهذه الحكمة السامية: "في عمق النهر شِراك مدسوسة في طعوم، وعلينا ألّا نكون أسماكا". فيا ليت أن حوارات الكتاب العرب كهذا الحوار عالي المستوى، والجميل جمالا لافتا كأنه بحد ذاته مقطوعة أدبية مبهرة.