الرسالة الحادية والثلاثون
حول فنّ الرسائل
السبت: 12-1-2019
عزيزتي الغالية، أسعدت أوقاتا وحبا، أما بعد:
ها أنا أتورط أكثر في كتابة الرسائل وقراءتها، فقد قرأت رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، ورسائل كافكا إلى ميلينا، ورسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني إلى غادة السمان، ورسائل أنور المعداوي إلى فدوى طوقان، ورسائل فدوى طوقان إلى ثريا حداد، ورسائل يوسا إلى روائي ناشئ، ورسائل حنة آرندت ومارتن هيدغر، ورسائل فرناندو بيسوا إلى حبيبته، وأخيرا رسائل الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك إلى معالجها النفسي ليون أوستروف.
لقد شغفتني كثيرا هذه الرسائل يا عزيزتي، وأحببتها حبا كبيرا، على الرغم من أنها أحيانا لم تكن ذات لغة رفيعة أو أسلوب أدبي نقي، إلا أن ما أعجبني فيها هو صدقها الكبير، وتلقائيتها الباهرة التي تضيء عتمة الذات في تقلباتها الحياتية والفكرية، إن لكل مجموعة من تلك الرسائل ميزة خاصة، ولكنْ لا أجمل من رسائل جبران، ولا أشهى منها، إنها ترقّق القلب، وتُرهف الشّعور، وتدعُ الدمعة تترقرق في العيون. جملتان مهمتان وردتا في الرسائل؛ الأولى: "لم يعقد ضبابي قطرا يا مي" والثانية: "لم يبق لي دور"، جملتان قاسيتان، لكنهما صادقتان. كانت شعلتهما الزرقاء تبهج خاطري كلما كتبت لك سطرا في هذه الرسائل. لعلك قرأت بعضا منها كما أخبرتني أنك قرأت رسائل إلى روائي ناشئ، وأظن أن رسائل غسان كنفاني لم تكن لتفوتك. كم أتمنى لو تتاح لك الظروف فتقرئين كل الرسائل الأخرى أيضا، لتعلمي كم كنت شغوفا بك مع كل رسالة كتبها شاعر لحبيبته أو فيلسوف لعشيقته أو كاتب لزوجته أو فنان لملهمته. لم أكن أكتفي بالقراءة الخالية من التخيل واستحضارك تخطرين بين يديّ وبين عينيّ في كل سطر، وكم كنت أبتسم عندما تتماثلين مع إحداهن في موقف أو نظرة أو جملة أو صورة.
لن أتحدث لك عن جميع تلك الرسائل، ولكن أحب أن أشير إلى بعضها، فمثلا تكتسب رسائل هيدخر وحنة قيمة خاصة، لأنها ذات رؤية مختلفة من وجهين: أن من تبادلاها هما من الفلاسفة، وهنا جدلية الحبّ والفلسفة واضحة فيها، والثانية أنها جمعت أطراف العلاقة الأربعة: هيدغر وزوجته وحنة آرندت وزوجها، الأطراف الأربعة حاضرة في هذه الرسائل، عدا أن هذا الكتاب اشتمل على رسائل الطرفين تلك التي لم نجدها في رسائل مي زيادة إلى جبران خليل جبران ورسائل غسان كنفاني وأنسي الحاج إلى غادة السمان وكذلك رسائل فدوى طوقان إلى أنور المعداوي ورسائل فرانز كافكا إلى ميلينا. وجدير بالذكر أن العلاقة بينهما استمرت حتى موت حنة أولا ثم لحقها هيدغر بمدة ليست طويلة؛ بضعة شهور فقط بينهما. قصة حب فيلسوف هتلريّ لفيلسوفة يهودية صهيونية، تجعل هذه العلاقة جدا مميزة وغريبة وعصية على الفهم، هو هكذا الحب أيضا لا يمكن لأحد أن يفسره. يخرج عن المنطق ليصنع منطقيته الخاصة فيه، ألا يخلق ذلك مبرره الخاص معنا أنا وأنت ونحن ندخل في معمعة هذا الحب المستحيل الذي ليس له نهاية إلا بالموت على ما يبدو حتى وهو يحصل ما يحصل معنا الآن من بُعد وجفاء.
لا يهم ذلك الآن، ولكن اسمحي لي، بمناسبة الحديث عن رسائل الأدباء أن أحدثك، عدا قيمتها الإبداعية في حد ذاتها، عن أهميتها في الدراسة النقدية والأدبية، فهي مصدر مهم من مصادر فهم الكاتب، ولاسيما الشاعر، كما وضحتُ ذلك في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية". وفي هذا الباب، فإن هذا الكتاب جدا رائع، مميز ومختلف، أقصد رسائل إليخاندرا بيثارنيك، إلى معالجها النفسي ليون أوستروف، يبدو في هذه الرسائل أن هذه الشاعرة التي لم تعمر طويلا كانت تنوي كتابة جانب من سيرتها الذاتية، وأشارت إلى ذلك في واحدة من الرسائل: "أرقّم رسائلي من أجل كتّاب سيرتنا المستقبليين". كما أشارت إلى يومياتها التي كانت تكتبها بالتزامن مع هذه الرسائل، وهناك تشابه كبير في الموضوعات التي تتحدث عنها في هذه الرسائل واليوميات كما أشار من كتب عنها. إضافة إلى أن هذه الرسائل تبين العوالم الداخلية والهواجس التي كانت تعاني منها الشاعرة، وكيف كانت تنظر إلى الشعر، وما تمثل لها كتابة القصيدة، إنها ليست مجرد كتابة نص، فالشعر يمثل بالنسبة لها واحدة من القيم الروحية التي تتمنى ألا تفقد إيمانها بها، فـ "الشيء الوحيد الذي يهمني في هذا العالم هو أن أكتب الشعر"، فلا عجب إذن أن تصبح شاعرة عالمية ومشهورة وهي في ريعان شبابها، إذ لم تتجاوز الخامسة والعشرين. كما أن هذه الرسائل بينت التكوين الثقافي لهذه الشاعرة وماذا كانت تقرأ، وفي أي المجلات نشرت قصائدها وريبورتاجاتها الصحفية، وذكرت إصداراتها وترجمة أشعارها، كأنها بالفعل كانت ترسم سيرة فكرية أيضا ليستعين بها كتاب سيرتها المستقبليين، ولعلها تقدم تفسيرا للتحليل النفسي في الكشف عن دوافعها للانتحار، حيث انتحرت وهي في عمر السادسة والثلاثين، هل امتلأت من الهواجس أم أن صراعها مع الحياة والموت حسمته لصالح الموت؟ هنا سيكشف الدارسون عن ذلك لو أرادوا. أتمنى أن تتاح لك هذه الرسائل لتقرئيها فهي مهمة جدا في بيان صراعها من أجل العمل، لتأمين معيشتها، وضيقها من العمل أيضا. إنه صراع، لكنه كان حتميا، وربما ضاقت به ذرعا، وسارع في حسم مسألة حياتها.
كم بقي من هذه الرسائل اليوم، ومن منطقية وجودها ومبرر حياتها، فقد جنت علينا التكنولوجيا بأدواتها المعاصرة، فحرمتنا المزيد من الرسائل، فكما قالت أحلام مستغانمي في روايتها الأسود يليق بك: "أية سعادة وأية مجازفة أن يحتفظ المرء برسالة حب إلى آخر العمر، اليوم "أحبك" قابلة للمحو بكبسة زر، هي لا تعيش إلا دقيقة ولا تكلف إلا فلسا". إن سهولة الوصول إلى الطرف الآخر والعبث معه قضى على إمكانية كتابة رسائل حب أدبية، فشروط نشأتها وازدهارها قد انتهت، هذا ما قاله أحد القراء معلقا على واحدة من هذه الرسائل التي أكتبها لك، متجاوزا هذا الظرف وغاضا الطرف عن هذا المنطق: "أدب الرسالة، أدب عريق وعميق في سبر أغوار النفس البشرية والتأريخ لمرحلة أو مراحل مجتمعية. هذا الفن مات، استشهد على يد التقنية الحديثة". لا تسمحي له بالموت يا عزيزتي واكتبي؛ لعلنا نساهم في جعل جذوة هذا الفن صالحة إلى أمد طويل.
وقبل أن أنهي هذه الرسالة أود أن أخبرك أنني بعثت لك في البريد العادي الكتب التي وعدتك بها، كتابي الجديد "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، وكذلك عددين من مجلة "كتابنا كُتابنا"، آمل أن تصلك بأسرع وقت. أرجو أن تبلغيني في حال وصولها.
أقبل شفتيك الناعمتين، منتظرا فرصة أن نلتقي أو أن تكتبي لي عن نشاطاتك الأخيرة.
فراس حج محمد