محاكمة صديق
بقلم: عصام السباعي
حضرات القضاة..حضرات المستشارين .. ان القضية التى نحن بصددها الآن هى الأولى من نوعها ،فالمتهم فيها ليس بمتهم عادى ، ولكنه للأسف ممثل الادعاء الذى كان المفروض أن يجلس على هذه المنصة ليوجه منها الاتهامات والأدلة ، ولكن يا لسخرية الأقدار ! انه يجلس الآن فى قفص الاتهام فى انتظار سماع حكمكم الذى أرجو الا يأخذكم به شىء من الرأفة حتى يكون عبرة لأمثاله ..
ولندخل الآن الى لب القضية..ان المتهم – اسف أقصد ممثل الادعاء السابق والمتهم حاليا بالتقصير قد أخل بواجبات الصداقة ، فقد اتفقت معه على أن يرسل لى الخطابات بمجرد أن تحط قدماه أرض الوطن بعد أنهى البعثة التى أرسل اليها حتى اطمئن عليه ، وانتظرتشهرا وشهرين وثلاثة ،ولكنه لم يبعث الى بشىء حتى هذه اللحظة ..
لذافقد قررت تقديمه اليوم للمحاكمة وأنا واثق من عدالتكم وأرجو أن تنفذ عليه المادة (6) من قانون العقوبات الأدبية رقم(4) لسنة1978 بحذافيرها ودون رحمة أو شفقة
(المخلص حسام)
كان هذا هو نص الرسالة الظريفة التى بعثها حسام صديق المرحوم أخى اليه ، ولما لم يصله أى رد من أخى تابع بارسال رسالة ثانية يقول فيها:
أحب أن أعرفك ان الحكم قد صدر ضدك منذ فترة غير قصيرة ، لذا فقد سقط حقك فى المعارضة والنقض لانقضاء المدة القانونية المحددة لذلك ، وأعتقد أنك بصفتك ممثل ادعاء تعرف ذلك جيدا ، ولكن بما أننا بصدد قضية غير عادية فلا أقل من أن تكون المحاكمة أيضا غير عادية بمعنى أن القرارات التى تسرى على هذه القضية الأولى من نوعها ستكون استثنائية وهذا مبدأ قانونى هام أرسته هيئة المحكمة الموقرة لتفرق به بين المحاكم المدنية والجنائية ،وبين المحاكم الأنسانية والعاطفية ..
من هذا المنطلق فقد سمحت لك المحكمة بالدفاع عن نفسك وتقديم ما يثبت براءتك من التهم والمخالفات المنسوبة اليك.
(المخلص حسام).
ولقد بكيت حقا لما قرأت هاتان الرسالتان لما فيهما من وفاء نادر واخلاص لأخى المرحوم حسن نعم المرحوم حسن الذى مات لا بل لم يمت وانما استشهد ، لقد سقطت الطائرة التى كان يستقلها ،وراح ضحية مع عشرات الضحابا الذين فقدوا فى هذا الحادث المروع ، لقد كانت بضع دقائق باقية لأراه بعينى وأضمه لصدرى .. بضع دقائق وتراه زوجته التى تحملت وصبرت وعانت من أجله من أجل أطفاله وضحت بكل ما تستطيع حتى لا تشعرهم بلوعة فراقه ومدة غيابه ..
وفى اليوم المكتوب توجهنا الى المطار أنا وزوجته وجمع من الأقارب وانتظرنا وصول الطائرة ساعة .. ساعتان .. ثلاث ساعات ، وكلما سألنا قيل لنا أن الطائرة تأخرت عن موعدها .. كان الوقت يمضى مملا بطيئا الى أن كانت الصاعقة !
جاءنا خبر سقوط الطائرة وتحطمها بمن فيها وعدم نجاة أحد من ركابها ، وفى أقل من لمح البصر كانت زوجته ملقاة على الأرض ، وكانت صرخات البكاء والعويل تخرق آذانى من كل جانب ، وكان هذا المشهد هو آخر ماوقعت عليه عيناى ، بعدها غامت الدنيا أمامى وتباعدت الأشياء وأخذت تتراقص فتبدو لعينى كأشباح متهالكة ، ورحت فى غيبوبة طويلة لم أفق منها الا على أصوات بعض الأقدام التى جاءت متزاحمة لتؤدى واجب العزاء !