وسطية للثقـافــة والحـوار

اشراف: صالح أبو العباس

    نيلسون مانديلا صاحب الوجه الأسمر والقلب الأبيض دخل المستشفي وهو يصارع الموت مما جعل قلوب محبيه تتابع حالته عبر الشاشات والفضائيات.. وتطوف حول منزله تسأل أسرته وأحفاده عن صحته. إنه أيقونة جنوب أفريقيا التي تكاد أن تودع الحياة تاركة إرثاً لا يستهان به من التسامح والعفو والقيم النبيلة . مانديلا عاش ومرض وسيموت في بلاد الذهب والألماس وكأن أخلاقه قد استقت من معادن بلاده صفاتها وخصالها .. فمانديلا من معادن الذهب والألماس . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إن فقهوا".

وما أحببت أن يسلم أحد مثلما تمنيت أن يسلم مانديلا .. فأخلاقه أفضل من أخلاق كثير من المسلمين .. وزهده في الدنيا أعظم من زهد الكثير منا.. وتعففه عن مغانم السلطة بل وتركه لها بعد فترة رئاسية واحدة لم يفعله من حكام المسلمين أحد سوي الفريق سوار الذهب الذي أحبه حبا َ شديدا َ رغم عدم تشرفي بلقائه . يبدو لي أن مانديلا قرأ سيرة النبي صلي الله عليه وسلم في السجن وتأثر بها وهو الذي أرسل رسالة إلي المصريين عقب ثورة 25 يناير بقليل يحذرهم من دعوات الانتقام والثأر قائلا ً: "أذكركم بقول نبيكم العظيم محمد أذهبوا فأنتم الطلقاء ". سبحان الله.. إنه يفهم رسالة الإسلام ويطبقها عمليا ً أكثر منا.. إنه عاش بوجدانه وقلبه وجوهره مع معاني التسامح في الوقت الذي نعيش نحن مع الشكل لا المضمون.. والمظهر لا الجوهر. لقد أدرك مانديلا أن القيم التي سيتركها أقوي من كراسي السلطة.. وأن القدوة أعظم من السلطة.. وأن نبل المواقف أبقي أثرا ً من النفوذ أو المال.

آه يا مانديلا .. ما أشد ما تحتاج الدعوة الإسلامية إلي معادن الذهب والفضة .. وما أكثر أنين الدعوة الإسلامية من معادن الزرنيخ والرصاص والصفيح والمعادن الرديئة التي ملأت ساحتها ولوثت ثوبها الأبيض الناصع بالشتم والسب والاستعلاء والاستعداء وزرع الكراهية والأحقاد بدلاً من زرع الحب والود والتسامح . لقد قال مانديلا في آخر كلمات له قبل دخوله المستشفي بأسبوعين فقط : "أعظم هدية أن يعطي الله الفرد الوقت والطاقة لمساعدة الآخرين دون انتظار مقابل". وأردف حزينا ً علي حالة الصراع السياسي في العالم كله: "الناس في العالم تعيش حالة من الهرج والمرج جراء الصراع السياسي الذي يتصاعد يوم بعد يوم. لقد دخل مانديلا التاريخ الإنساني بالعفو والتسامح والرفق .. رغم أنه سجن وعذب قرابة 27عاماً ورغم ما أصاب السود الذين كان يحرم عليهم الدخول من باب مخصص للبيض أو ركوب قافلتهم أو استعمال صنبورهم أو الذهاب إلي شاطئهم وذلك حسب وصفه هو .. والذي أكمله بقوله: "خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة ألاف شهر" . لقد كان من السهل علي مانديلا أن يغذي طريق الأحقاد أو يبث الكراهية ضد البيض أو يقصيهم ولديه من المواد ما يعينه علي ذلك..

ولكنه أدرك أن جنوب أفريقيا لن تكون دولة عظيمة إلا بالمشاركة الوطنية للجميع والمصالحة الوطنية مع الجميع.. وأدرك أن الوطن ليس للسود وحدهم رغم أنهم أصحاب الوطن الأصليين .. ولكن الوطن يسع الجميع السود والبيض والهنود والملونين. لقد أدرك أن الانتقام والإقصاء قد يحقق الجوع المرحلي للتشفي والإقصاء .. ولكنة سيدمر الوطن كله استراتيجياً علي المستوي الأبعد. لقد أراد مانديلا أن يكون أباً للجميع ومحباً لهم .. نظر إلي المستقبل ولم يعش يوما ً مع مرارات الماضي وجراحاته .. تسامى عليها إنه لا يريد أن يقع فيما وقع فيه خصومه من عنصرية بغيضة وإقصاء مدمر . لم يكرر صباح مساء عذبت وسجنت .. ولو قال لصدق .. ولكنه انطلق إلى باب الرحمة الواسع ليشمل الجميع برحمته وعطفه .. ويرحم الذين سجنوه لأنه رأي نفسه أباً للجميع ولم يجعل نفسه خصما ً وندا ً لأحد. ثم هاهو يترك السلطة وكأنه يقول لهم: إنما جئت لأصلح بينكم والآن أودعكم..

لقد أدرك أن التربع علي عرش القلوب أعظم من التربع علي عرش السلطة.. ومحبه القلوب أبقي من نزوة السلطة وزخرفها .. وها هو يودع الدنيا كلها ليترك نموذجا ً فذا ً لم يستطع أحد في بلادنا العربية أن يحذو حذوه ..

سلاما ً وتحية لمانديلا.

wasatya

وسطية للثقافة والحوار

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 43 مشاهدة
نشرت فى 8 يوليو 2013 بواسطة wasatya

وسطية للثقافة والحوار

wasatya
نافذة للرأى الحر الوسطى المعتدل من كل طوائف الشعب المصرى والعربى والاسلامى »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,974