بعد أن ارتحنا قليلاً من شبح المحكمة الدستورية، أثناء نظر دعاوى حل التأسيسية ومجلس الشورى في الأيام الماضية، إذا بها تفاجئنا، وعلى حين غرة، بقنبلة موقوتة تنفجر في وجوه الآلاف من المصريين، الذين عارضوا النظام السابق قبل ثورة يناير، وضحوا بزهرة شبابهم فى سجون مبارك ومعتقلاته لوقوفهم ضد فساده وعناده، وظلمه واستبداده. واليوم تخرج علينا المحكمة الدستورية بقرارها الجائر والمتناقض والغاشم، والصادم، بل والمجحف بحقوق آلاف من المصريين الشرفاء المناضلين الذين ثاروا على الظلم.. حيث صدر قرارها فى ظل رقابتها القضائية السابقة على قانون الانتخابات البرلمانية، واعترضت - بجلال قدرها - على البند الخاص بأداء الخدمة العسكرية لعضوية مجلس النواب، والذى ينص على اشتراط أن يكون المرشح قد أدى الخدمة العسكرية، أو أعفى منها، أو استثنى منها طبقاً للقانون. فطالبت المحكمة بإلغاء الفقرة الأخيرة ومنعت هذا الاستثناء الذى أقره مجلس الشورى، ويتوافق مع الدستور والقانون ويحقق أهداف الثورة، والذى مفاده أن الآلاف المؤلفة من المعتقلين الإسلاميين والمعارضين للنظام السابق وأقاربهم الذين استبعدوا ومنعوا من أداء الخدمة العسكرية بدواعى وأسباب أمنية وبتعليمات من جهاز أمن الدولة المنحل، أو ظلوا معتقلين حتى فاتهم سن التجنيد. فهؤلاء لم يؤدوا الخدمة العسكرية فيمنعون من الترشح فى الانتخابات البرلمانية. لهذا السبب ويحرمون من مباشرة حقهم الدستورى.
فلم تنظر المحكمة بعين البصر والبصيرة وتدرك أن النظام السابق، قد أمعن فى إبعاد خصومه السياسيين والمعارضين له من القرب من مؤسسات الدولة وتولى المناصب فيها، وأخصها الخدمة العسكرية. بل وأبعدهم عن العيش فى حياة كريمة، فزج بهم في المعتقلات والسجون ومنعهم وحرمهم من المشاركة فى الحياة السياسية، بل والعامة.
والعجيب أن المحكمة الدستورية التى لم تُقر العزل السياسي لرموز النظام السابق لفترة محددة، وقضت بعدم جواز العزل السياسى، إلا بناءً على حكم قضائى.. فإذا بها هنا تقضى بالعزل السياسى والحرمان من مباشرة حق الترشح الدائم لعضوية مجلس النواب بدون حكم قضائى، بل على قرار اعتقال إدارى، أو تعليمات أمنية بالمنع من الخدمة العسكرية لهم ولأقاربهم حتى الدرجة الرابعة. فكان الأولى بها أن تنصف هؤلاء الشرفاء المظلومين من ضحايا النظام البائد، الذين قالوا للظلم لا، وتحملوا مشقة المعارضة، وأن تعيد لهم حقوقهم المسلوبة، وترفع عنهم تعنت النظام السابق، وتراعي ظروفهم، لا أن تكيل بمكيالين، وتهضم حقهم.. فقد وقعت المحكمة الدستورية فى تناقض قضائى عجيب وغريب،
حيث إن جميع محاكم القضاء المصرى بكل أنواعه، تنصف هؤلاء المعتقلين السياسيين الإسلاميين منذ عام 1954، وحتى بعد ثورة يناير 2011، وتقضى بالإفراج عنهم وتبرئهم، وتقبل تظلماتهم. بل إن محاكم القضاء الإدارى عبر تاريخها تقضى أيضاً، بإلغاء قرار الاعتقال الصادر ضدهم وتصمه بعدم المشروعية وتُحمل وزارة الداخلية مسئولية هذا الخطأ، وتُلزم الدولة بتعويض المعتقلين عن قرارات الاعتقال الخاطئة والمعيبة، ومئات الآلاف من الأحكام القضائية شاهدة على ذلك. والعجب العجاب من هذه التناقضات أن محكمة القضاء الإدارى تقضى بتعويض المعتقلين الإسلاميين عن حرمانهم من مباشرة حقوقهم السياسية، ومنها حق الترشح لعضوية البرلمان خلال فترة اعتقالهم. وتعتبر هذا المنع والحرمان، خطأ يستوجب التعويض عنه. ولا عقوبة إلا بنص وما بُنى على باطل فهو باطل. فقد أصدرت محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية حكمًا تاريخيًا لى شخصياً بتاريخ 15 / 3 / 2012.. يقضى بإلزام الجهة الإدارية بأداء مبلغ مالى تعويضًا عن حرمانى من مباشرة حقوقى السياسية خلال فترة اعتقالى. وبهذا الحكم التاريخى في إنصاف المعتقلين السياسيين وتعويضهم عن حرمانهم من مباشرة الحقوق السياسية يُعد ضربة قوية فى وجه المحكمة الدستورية، التى تقضى بحرمانهم من ممارسة حقهم السياسى لأنهم لم يؤدوا الخدمة العسكرية واستبعدوا منها بتعليمات أمنية مشبوهة.
فيا شرفاء الوطن: ويا رجال القضاء والقانون وحقوق الإنسان:
قفوا فى وجه الظلم البّين، والخطأ الفادح، والتناقض القضائى العجيب، والتمييز الواضح، والكيل بمكيالين، وأزالوا هذا الضرر الواقع على آلاف المصريين الذين عارضوا نظام مبارك واستبداده وفساده وطغيانه، ودفعوا فاتورة ذلك لوجه الله ثم لمصلحة البلد. وإلا سيعود الضرر والإقصاء والمنع والتضييق على كل معارض لنظام مصر أيًا كان، وعندها نقول جميعاً كما فى المثل العربى: (أكلنا يوم أُكل الثور الأبيض)..
والله المستعان.