لم أك قديسا، أو متبتلا في محراب الوطنية ذاك الذي دنسه المدعون والمهرجون ليضيع المعنى في أغوار نفوسهم المظلمة. لم أك أحد أولئك الذين يلوكون في أفواههم كلمة الوطن صباح مساء.
نعم لم أك أحد هؤلاء.
بل كنت واحدا من الذين ينظمون أناشيد البهجة والمرح ليترنموا بها نهارا، وإذا ما احتوى الليل أحدهم استعرض الوطن في قصيدة لشاعر مرابط على دروب المعنى الحقيقي له. كان قوام حديثي الفخر بما كان، والسخط على ما هو كائن، والأمل فيما سيكون.
ثم كانت غضبتي. كانت ثورتي. انا ابن العشرين. لم أنفثها في وجه الطغاة من أجل لقمة عيش، أو من أجل تراتيل أيدلوجية أرددها كالببغاء، كما كان يفعل الآخرون من حولي، لا يفقهون لها معني. إذ قد نزهت نفسي أو أراد الله تنزيهي ـ عن ذلك ـ ليوم معلوم. وإنما هو حلمٌ راودني منذ الصبا، حلمٌ امتزجت فيه معاني الحرية والكرامة والعزة والكبرياء، وكان النتاج انسان رأيته أنا.
نعم. هذا أنا . . لا لست من عصر الأفول. . انا ساعة الهتك العظيم أتت . . وخلخلة العقول، أبيات رددتها ـ وأنا أثور ـ لشاعر لا أتذكر اسمه، وقد كنتها.
وإذا بشمس الحرية قد بزغت من بعيد لتطوح بشعاع نحو وطني، لأول مرةٍ. ولي الفخر كل الفخر فأنا من بشرت بها، ودعوتها فلبت دعوتي.
وإذا بهاتف ينادى أن حان وقت الرحيل.. قد كانت مقايضة، فتبسمت، وها أنا راحل؛ هادئ النفس؛ مطمئن، فوداعا. ولي كلمة أخيرة أقولها؛ كلمة ثائر مازلت نفسه تحمل نفثة من غضب. أقول لأولئك الذين يرقصون فوق رفات الشهيد ليجذبوا إليهم الأنظار أن عليكم لعنتي. أقول لأولئك الذين أسرتهم بجميلي فتنكروا لي وله، إذ لم يعضوا بالنواجز على ما قايضت عليه بدمي، أن عليكم لعنتي. وأقول لأولئك الذين سلبتهم الثورة المعنى أن عليكم رحمتي.
محمد السيد الطناوي
ساحة النقاش