زهقنا من جس النبض، قرفنا من بالونات الاختبار، هرمنا من الغموض، سئمنا من عدم المصارحة، ورمنا من الاستهانة بدماء الشهداء.
لماذا لا يخرج أحد من حكام هذه البلاد ليقول لنا صراحة: نحن لن نحاكم حسنى مبارك ولا زوجته ولا ابنيه ولا كبار رجاله، لأنهم جميعاً أخذوا الوقت اللازم لتستيف أوراقهم وحساباتهم وليس هناك ما يدينهم، وبما أنه ليست لدينا قوانين تُحاكم الفساد السياسى، ولسنا راغبين فى استصدارها ولا حتى راغبين فى محاكمتهم طبقاً لما هو موجود من مواد قانونية تحدث عنها رئيس محكمة جنايات الإسكندرية منذ شهر ولا حياة لمن تنادى، فكل ما هنالك أن هناك بعض كباش الفداء ستسقط، بعضها سمين مثل حبيب العادلى، وبعضها هزيل مثل مدير تلك المؤسسة أو رئيس ذلك الاتحاد.
قولوا لنا ذلك لكى نعود فى التو واللحظة إلى الميادين والشوارع، وننال الشهادة التى كنا نحلم بها، أنا آسف لأن حماسة اللحظة جعلتنى أقع فى الكذب، نعم، كذبت وأعترف لكم الآن بأننى لم أحلم بالشهادة عندما شاركت فى يوم الخامس والعشرين من يناير والأيام التى تلته، فقد كنت خائفا بشدة، وكنت راغبا بجنون فى أن أشهد هذه البلاد وقد تغيرت إلى الأبد، نعم كنت أحب الحياة وأكره الموت، لكننى وأقسم بالله العظيم بعد أن رأيت خيرة أبناء مصر يسقطون إلى جوارى شهداء وجرحى ويضحون بأرواحهم من أجل مصر، أحب الموت الآن وأكره الحياة يوماً واحداً فى ظل ثورة مقطومة لأسباب لا أعلمها ولا أريد أن أعلمها. كل ما أعلمه أن الله سيلعننا جميعاً لو فرطنا فى حق هذه البلاد وسمحنا لها أن تعيش يوماً واحداً فى ظل نظام شبه صالح أو شبه عادل أو شبه مستقيم.
لن نسألكم عن عفو لم تأخذوا رأينا فيه، سنسألكم لماذا تتباطأون فى وضع حسنى مبارك وزوجته فى المكان الذى يليق بكل فاسد وظالم وسارق ومنتهك لحق الناس؟
ومن قال لكم إن غاية المراد من رب العباد هو أن نحاسب لصوصا بعد أن منحناهم الوقت الكافى لإخفاء المسروقات؟ أنا لا أتحدث باسم أحد، أتحدث عن نفسى فقط، أنا لم أخرج يوم ٢٥ يناير حاملا أدويتى فى جيبى مستودعا الله زوجتى وبناتى لكى أشعر الآن بالنصر فقط لأن حسنى وزوجته أعادا كذا مليون إلى خزانة الدولة، أنا أصلا لم أبلع أبداً شعار (عيش حرية كرامة إنسانية) الذى وجدت من حولى يهتفون به، بل هتفت من أعماق قلبى ومن أول لحظة أصابنى فيها دور الهتاف صارخا (يسقط يسقط حسنى مبارك)، ليس لأن بينى وبينه ثأرا شخصيا،
فقد نشأت ونموت وترعرعت وكان يفترض أن أموت فى عهده هو وابنه، بل هتفت بسقوطه لأنه رجل أهان هذا البلد العظيم الذى عرفت عظمته من كتب التاريخ، فأنا من جيل لم يشهد تلك العظمة فى الواقع، هتفت ضده من أعماق قلبى لأننى تذكرت مئات المرضى الذين كنت أراهم يرقدون إلى جوار والدتى فى معهد الأورام المنهار، لأن خيالات ضحايا العبارة الغارقة ومراكب الموت ومسرح بنى سويف وقطار الصعيد ستظل تطاردنى حتى أموت، لأن دموع المعذبين فى زنازينه كانت ستلعننى لو لم أهتف بسقوطه، لأن كل لحظة قضيتها فى بلاد الله التى تقدمت وتطورت واحترمت كرامة الإنسان كانت ستلعننى لو لم ألعنه.
العفو!، أى عفو؟ يا سادة العفو عند المقدرة، ونحن لم نعد قادرين على التحمل بصراحة، ولذلك عفواً لن أسألكم: هل ستعفو عن مبارك وعن رجاله أمهات الشهداء؟ هل ستعفو عنهم ابنتا طارق الأقطش؟ هل ستعفو عنهم أم زياد بكير؟ هل ستعفو عنهم زوجة أحمد بسيونى؟ لن أعدد لكم أسماء الشهداء ولن أذكركم بصورهم، أنا آسف، لن أفعل ذلك،
لأننى موقن بحتمية محاكمة مبارك ورجاله ولست محتاجا من أجل ذلك إلى كل تلك الدماء الطاهرة التى لا يساوى مبارك وكل رجاله نقطة واحدة منها، لقد كاد مبارك يزهق روح مصر ومصر فوق الجميع وأغلى من الجميع، لقد أهان رجال مبارك كرامة مصر، وكرامة مصر فوق كل اعتبار، إذا كنتم حقا حريصين على اقتصاد البلاد واستقرارها وأمنها، فاعلموا أن مصر أغلى من حسنى مبارك ورجاله ونسائه، إذا كانت لديكم اعتبارات خفية فقولوها لنا لأننا زهقنا من هذا الملل، لا تطلبوا منا أن ننظر إلى الأمام وأنتم تجبروننا كل يوم على أن ننظر إلى الخلف بقلق وترقب، لا تحرموا أحلامنا من فرصتها فى أن ترى النور كاملة قبل أن تطالبونا بأن نسير خلفكم.
لقد وقفنا ضد كل من يريد أن يوقع بيننا وبينكم تحت أى مسمى أو أى سبب، لأننا ندرك أنكم العمود الصلب الوحيد الذى نجا من تهشيم مبارك والذى لا تستغنى عنه مصر أبدا، ولذلك نرجوكم ألا تجعلوا تلك الوقيعة تحدث بفعل قرارات متعجلة قد يزينها من يبدو أنهم حسنو النية، اتركوا هذا الملف الشائك للشعب والشعب وحده، اجعلوه حقا للرئيس المنتخب والبرلمان المنتخب القادمين، اتركوا مبارك ورجاله يواجهون مصيرهم الذى سيقرره الشعب، والشعب وحده.
أنا لا أتحدث باسم أحد، أنا أتحدث عن نفسى فقط، وما أعرفه أنه إذا كانت مصر تحتاج إلى ثورة ثانية وثالثة ورابعة من أجل أن تصبح وطنا يتمتع بحرية كاملة وعدالة كاملة وتغيير شامل، فوالله العظيم ثلاثة، وحياة شهداء ستة أكتوبر وثمانية وعشرين يناير، سأمنحها روحى ودمى وحريتى، فلست أغلى من الذين استُشهِدوا أو جُرِحوا أو اعتُقِلوا قبل الثورة وأثناءها وبعدها، أنا ببساطة مثل كل الذين رأيتهم فى الميدان، لست طالب ثأر، بل طالب عدل، والعدل لا تصنعه الغرف المغلقة، بل يولد فى قاعات المحاكم المفتوحة للناس التى تمنح عدالة كاملة، وليس عدالة إلا ربع كالتى كان يمنحها نظام مبارك بمزاجه وقتما يشاء ويحجبها عمن يشاء.
هل أنا وحدى الذى يفتقد التحرير ياجدعان؟
ساحة النقاش