فارق كبير بين الصورة التي بدا عليها الشعب قبل 25 يناير وصورته بعدها، كتلك التي بين شعب تيبست أطرافه وتجلطت دماؤه وتفحمت جذور الحياة فيه، وبين آخر تدفقت في أوصاله حيوية شابة ليتوقد بجذوة الحياة. ولكل منهما قادته وزعمائه، فالأول له سياسيوه الذين تماهوا مع حالته تلك وألفوها فكانت لهم حياة، والثاني له سياسيوه الذين يتشكلون اليوم ليشكلوا المستقبل في الغد.
وصاحبنا واحد من ساسة الشعب الأول الذين حُق عليهم أن يندثروا معه بغير رجعة.
هو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية و"المؤسس الثاني" لجماعة الإخوان المسلمين التي لفظته منذ ما يزيد على العام فلم يلفظها، إذ لطالما تصور أنه الجماعة، ومع كون ذلك مجرد تخييل من الرجل، لكنه ما حاد عن تصوره ذاك إلى اليوم، رغم تهميشه لفترة طويلة داخل الجماعة، تبعها إقصاءه من مكتب إرشادها في آخر انتخابات له قبل الموجة الأولى للثورة، وفصله من الجماعة بعدها.
يفصح عما ذهبنا إليه مواقف عدة لأبو الفتوح مع الجماعة، كان من أبرزها وأبلغها دلالة ـ كذلك ـ على الشقاق بينه وبين المجموعة القطبية التي سيطرت على التنظيم بشكل كامل، يوم كشف الإخوان عن برنامج لحزب سياسي في عام 2007، حينها أعلن أبو الفتوح عن تباعده وهذا البرنامج، الذي كان يرفض إعطاء الحق للمرأة والقبطي للترشح إلى منصب رئيس الجمهورية، وكان يقر هيئة لكبار العلماء لها الحق أن تصادر قرار البرلمان ورئيس الجمهورية إن بدا لها أنه يتعارض مع الشريعة، وصرح أبو الفتوح يومئذ أن برنامج الجماعة يقول بالمواطنة ولا يميز بين فرد وآخر على أساس من الدين أو اللون أو الجنس، متجاهلا نص البرنامج الذي لا لبس فيه، وتصريحات القيادات القطبية وقتها، التي دافعت عن وجهة النظر تلك، وأصرت عليها.
هذا التعامي من أبو الفتوح لم يقتصر على تلك القضية وغيرها، بل نزعم أنه كان موقفا فكريا يعتنقه الرجل.
عاش أبو الفتوح يظن ـ وبعض الظن غفلة ـ أنه هو الأحق بقيادة التنظيم ليس فقط باعتباره المؤسس الثاني، بل لكونه كذلك وريثا لـ"مدرسة البنا الوسطية" (ألم يقر له القرضاوي غير ذات مرة بذلك؟)، من ثم أرتأى أن القطبيين الذين استحوذوا على التنظيم هم دخلاء، أما هو فأصيل كل الأصالة.
وفي هذا تعاميا عن كون البنا لم يكن يوما صاحب مدرسة فضلا عن كونها وسطية، يُلحق نسبها بالأستاذ الإمام محمد عبده زورا وبهتانا، فوسطية محمد عبده خاضت المعارك الشرسة من أجل آراء تحزبت لها، أما البنا فلم يدعو لطرح فكري بعينه، بل وضع أطر عامة تتيح لكل من يحمل اليافطة الإسلامية أن يتدثر بتنظيمه.
فلا غرو أن جاء سيد قطب من بعده فصب في هذا الوعاء الفارغ أفكاره التكفيرية، فلم يقذف بها الوعاء، وما كان له ان يفعل، ولو جاء آخر وصب بدلا من هذه الأفكار أفكارا أخرى لأخذت مجراها إلى عقول أعضاء الجماعة. ونستدرك فنشير إلى أفضلية أفكار قطب عن غيرها فيما يتعلق بتماسك التنظيم وصلابته.
إذن فكر حسن البنا لم يكن يوما معاديا أو مخاصما لفكر سيد قطب، بل كان حاضنة له، لكن الرجل المتعامي (هو وغيره) اعرض عن إبصار هذه الحقيقة، ومن ثم كانت ادعاءاته في مواجهة القيادات القطبية ادعاءات زائفة، وكانوا هم أقرب إلى الصواب في عدم التفرقة بين ما قال به حسن البنا وما دعا إليه سيد قطب.
وظل الرجل لعقود يتسربل بهذا الوهم، بينما كانت تلك القيادات قد سيطرت على التنظيم وأقصت كل من رأى رأيه، ليعيش فيه مهمشا لا وزن له، ومع ذلك لم يجترأ على قرار الانفصال رغم ضرورته، بعد إعلان نيته للترشح إلى منصب رئيس الجمهورية، وبعد أن هدمت الموجة الأولى للثورة الجدر الحائلة بين الساسة والممارسة السياسية الحقة (بخاصة وأنه كان يدرك قطعا أن هذه القيادات لن توليه دورا ذا قيمة في المرحلة الجديدة) إلى أن فصلوه هم، لكنه مع ذلك لم يتلفظ بكلمة سوء عن الجماعة رغم إدراكه لخطورة الأفكار التي يحملها قادتها في بواطن عقولهم على الدولة والمجتمع (والتي صاغوا منها مادة ومنهجا لتربية أعضاء الجماعة عليه)، ورغم كون مشاهداته تفوق ـ قطعا ـ ما قصه صديقيه السابقين أبو العلا ماضي وعصام سلطان، على مدى جاوز الخمسة عشر عاما قبل ارتقاء الإخوان السلطة، من حكايات التزوير والكذب والتكفير والعنف المؤجل، عبر مئات التصريحات وعشرات المقالات واللقاءات التلفزيونية، كذا تفوق ما سطره القيادي السابق بالجماعة ثروت الخرباوي في كتبه عنها، فالثلاثة السابقي الذكر كان أعلى ما بلغوه من مناصب قيادية بالجماعة هو منصب عضو مجلس شورى الجماعة لأبو العلا ماضي، في حين أن أبو الفتوح كان من أقدم أعضاء مكتب الإرشاد إن لم يكن أقدمهم.
الجم الرجل لسانه عدا نقد خفيف نفث به عن غضبه تجاه هذه القيادات، مؤملا أن يأتي اليوم الذي يعود فيه إلى جماعته أو تعود هي إليه.
ووازن الرجل مواقفه السياسية تبعا لذلك، وكان آخرها موقفه من 30 يونيو، فلم يتحمس للنزول، بل وسعى داخل حزبه أن يجيئ القرار بعدم المشاركة، لكن رأي الشباب كان هو الغالب، لهذا لم يبعث برسالة يحث فيها الجماهير على الاحتشاد بالميادين كغيره من مرشحي الرئاسة السابقين (البرادعي وصباحي) بل جاءت رسالته بعد أن تفجرت ميادين مصر بأعداد غفيرة، لم يسبق لها مثيل، ليبعث بشكره وتقديره إليها لنزولها إلى الميادين لإسقاط النظام!.
ثم ارتد الرجل المتقلقل على عقبيه واصفا تدخل الجيش ـ أكثر من مرة ـ بأنه انقلاب عسكري، في تصرف ادهش الكثيرين، إذ تجاوز هنا موقف حزب إسلامي آخر أكثر محافظة، وهو حزب النور، الذي عزف عن النزول بـ30 يونيو ـ بخلاف حزب أبو الفتوح ـ لكنه لم يصف أبدا ما حدث من تدخل القوات المسلحة لإنفاذ إرادة الشعب بأنه انقلاب عسكري!.
وغالب الظن أن الرجل لاح لناظري خياله أن الفشل الذريع الذي لاقته قيادات الجماعة يبعث الروح في حلمه من بعد موات، ليكون هو بديلها المنتظر.
إن هذا السياسي المتعامي المتقلقل هو نموذج لساسة نمت في عهد الأنظمة الاستبدادية وانتمت إليها وإن عارضتها، فأطالت في عمرها بفشلها، وعجزها، وتغافلها، وقلقتها، وها هو وأشباهه ونحن نسطر صفحة جديدة من صفحات تاريخ الأمة يأبون إلا أن يسطروه بمدادهم المغشوش !.
محمد السيد الطناوي
ساحة النقاش