السراج المنير في الطب العربي والإسلامى

اللمعة الـخامسة والعشرونوهي خـمسة وعشرون دواء

هي عيادة للمريض، وبلسم للمرضىـ ومرهم تسلية لهم، ووصفة معنوية، وقد كتبت بـمثابة القول الـمأثور: ((ذهب البأس وحـمداً لله على السلامة)).

تبنيـه واعتذار

 

تـم تأليف هذه الوصفة الـمعنوية بسرعة تفوق جـميع ما كتبناه(1) ولضيق الوقت كان تصحيحها وتدقيقها – بـخلاف الـجميع – بنظرة خاطفة في غاية السرعة كتأليفها، فظلت مشوشة كالـمسودة الاولى، ولـم نَرَ حاجة للقيام بتدقيقات جديدة، حيث ان الـخواطر التي ترد القلب فطرياً ينبغي عدم افسادها بزخرف القول والتفنن والتدقيق، فالرجاء من القراء وبـخاصة الـمرضى منهم الاّ يضجروا من العبارات غير الـمأنوسة والـجمل الصعبة وان يدعوا لي بظهر الغيب.

سعيد النورسي

بِسمِ اللّهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156)

} والذين هُوَ يُطعِمُني ويَسقينِ ` واذا مَرِضتُ فهوَ يَشْفين { (الشعراء:79-80)

((في هذه اللمعة نبين خـمسة وعشرين دواءً بياناً مـجملاً تلك الادوية التي يـمكن ان تكون تسلية حقيقية ومرهماً نافعاً لاهل البلاء والـمصائب وللمرضى العليلين الذين هـم عُشر اقسام البشرية)).

الدواء الاول

 

ايها الـمريض العاجز! لا تقلق، اصبر! فان مرضك ليس علـّة لك بل هو نوع من الدواء؛ ذلك لان العمر رأس مال يتلاشى، فان لـم يُستثمر فيسضيع كل شيء، وبـخاصة اذا انقضى بالراحة والغفلة وهو يـحث الـخطى الى نهايته، فالـمرض يكسب رأس مالك الـمذكور أرباحاً طائلة، ولا يسمح بـمضيـّه سريعاً، فهو يُبطىء خطوات العمر، ويـمسكه، ويطوّله، حتى يؤتي ثـماره، ثـم يغدو الى شأنه. وقد ذهب طول العمر بالامراض مثلاً، فقيل: ((ألا ما أطول زمن النوائب وما اقصر زمن الـهناء!)).

الدواء الثاني

 

ايها الـمريض النافد الصبر! تـحمـّل بالصبر! بل تـجمـّل بالشكر، فان مرضك هذا يـمكنه ان يـجعل من دقائق عمرك في حكم ساعات من العبادة، ذلك لان العبادة قسمان:

الاولى: العبادة الايـجابية الـمتجسـّدة في اقامة الصلاة والدعاء وامثالـها.

الثانية: العبادة السلبية التي يتضرع فيها الـمصاب ملتجأ الى خالقه الرحيم مستجيراً به متوسلاً اليه، منطلقاً من احاسيسه التي تُشعره بعجزه وضعفه امام تلك الامراض والـمصائب. فينال بذلك التضرع عبادةً معنوية خالصة متجردة من كل انواع الرياء.

نعم، هناك روايات صحيحة على ان العمر الـممزوج بالـمرض والسقم يعدّ للـمؤمن عبادة(1) على شرط عدم الشكوى من الله سبحانه. بل هو ثابت بعدة روايات صحيحة وكشفيات صادقة كون دقيقة واحدة من مرض قسم من الشاكرين الصابرين هي بـحكم ساعة عبادة كاملة لـهم، وكون دقيقة منه لقسم من الكاملين هي بـمثابة يوم عبادة كاملة لـهم. فلا تشكُ – يا اخي – من مرض يـجعل من دقيقة عصيبة عليك الف دقيقة ويـمدك بعمر طويل مديد! بل كن شاكراً له.

 

الدواء الثالث

 

ايها الـمريض الذي لا يطيق! ان الانسان لـم يأت الى هذه الدنيا للتمتع والتلذذ. والشاهد على ذلك: رحيل كل آت، وتشيـّب الشباب، وتدحرج الـجميع في دوّامة الزوال والفراق. وبينا ترى الانسان اكمل الاحياء واسماها واغناها اجهزة بل هو السيد عليها جميعاً، اذا به بالتفكر في لذات الـماضي وبلايا الـمستقبل، يقضي حياته في كدر ومشقة هاوياً بنفسه الى دركات ادنى من الـحيوان.

فالانسان اذاً لـم يأت الى هذه الدنيا لقضاء عيش ناعم جـميل مغمور بنسمات الراحة والصفاء، بل جاء الى هنا ليغنم سعادة حياةٍ ابدية دائمة بـما يُسـّر له من سبل التـجارة برأس ماله العظيم الذي هو العمر. فاذا انعدم الـمرضُ، وقع الانسان في الغفلة نتيجة الصحة والعافية، وبدت الدنيا في عينيه حلوة خضرة لذيذة، فيصيبه عندئذ مرضُ نسيان الآخرة، فيرغب عن ذكر الـموت والقبر، ويهدر رأس مال عمره الثمين هباءً منثورا.. في حين ان الـمرض سرعان ما يوقظه مفتحاً عينيه، قائلاً له: ((انت لست خالداً ولست سائباً، بل انت مسخـّر لوظيفة، دع عنك الغرور، اذكر خالقك.. واعلم بانك ماض الى القبر، وهيىء نفسك وجهـّزها هكذا)).

فالـمرض اذاً يقوم بدور مرشد ناصح امين موقظ، فلا داعي بعدُ الى الشكوى منه، بل يـجب التفيـّؤ في ظلال الشكر – من هذه الناحية – واذا ما اشتدت وطأته كثيراً فعليك بطلب الصبر منه تعالى.

 

الدواء الرابع

 

ايها الـمريض الشاكي! اعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لان وجودك واعضاءك واجهزتك ليست بـملكك انت، فانت لـم تصنعها بنفسك، وانت لـم تبتعها من اية شركة او مصنع ابتياعاً، فهي اذن ملكٌ لآخر. ومالك تلك الاشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء، كما ورد ذلك في مثال في ((الكلمة السادسة والعشرين الـخاصة بالقَدَر)) وهو:

أن صانعاً ثرياً ماهراً بكلـّف رجلاً فقيراً لقاء اجرة معينة ليقوم له لـمدة ساعة بدور ((الـموديل)) الـنموذج. فلاجل اظهار صنعته الـجميلة وثروته القيمة يُلبسه القميص الـمزركش الذي حاكه، والـحلة القشيبة الـمرصعة التي نسجها في غاية الـجمال والصنعة، وينجز عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر، وهكذا..

فيا تُرى أيـحق لذلك الفقير الاجير ان يقول لذلك الصانع الـماهر: ((انك تتعبني وترهقني وتضيـّق عليّ بطلبك مني الانـحناء مرة والاعتدال اخرى.. وانك تشوّه الـجمال الـمتألق على هذا القميص الذي يـجمـّل هندامي ويزيـّن قامتي بقصـّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)).

وكذلك الـحال بالنسبة للصانع الـجليل سبحانه وتعالى – ولله الـمثل الاعلى – الذي البسك ايها الـمريض قميص الـجسد، واودع فيه الـحواس النورانية الـمرصعة كالعين والاذن والعقل، فلأجل اظهار نقوش اسـمائه الـحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في اوضاع مـختلفة. فكما انك تتعرف على اسـمه ((الرزاق)) بتجرعك مرارة الـجوع، تتعرف على اسـمه ((الشافي)) بـمرضك.

ونظراً لظهور قسم من احكام اسـمائه الـحسنى بالآلام وانكشافه بالـمصائب، ففيها لـمعات الـحكمة وشعاعات الرحـمة وأنوار الـجمال. فاذا ما رُفع الـحجاب فستجد فيما وراء مرضك الذي تستوحش منه وتنفر، معاني عميقة جـميلة مـحببة ترتاح اليها، تلك التي كانت تنزوي خلف حـجاب الـمرض.

 

الدواء الـخامس

 

ايها الـمبتلى بالـمرض! لقد توافرت لديّ القناعة التامة خلال تـجربتي في هذا الزمان، بان الـمرض نوع من الاحسان الإلـهي والـهدية الرحـمانية لقسم من الناس(1). فقد التقاني بعضُ الشباب في هذه السنوات الثـماني او التسع، لـمعاناتهم الـمرض، ابتغاء دعاء لـهم، رغم اني لست اهلاً لذلك. فلاحظت أن مَن كان منهم يعاني مرضاً هو اكثر تفكراً في الآخرة وتذكراً لـها، وليس ثملاً بغفلة الشباب، بل كان يقي نفسه – الى حدّ ما – تـحت اوجاع الـمرض وأوصابه ويـحافظ عليها من الشهوات الـحيوانية. وكنت اذكـّرهم بأني ارى أن أمراضهم هذه، ضمن قابليتهم على الـحمـّل انـما هي احسان إلـهي وهبة منه سبحانه. وكنت اقول: ((يااخي ! انا لست ضد مرضك هذا ولاعليه، فلا اشعر بشفقة عليك ورأفة لاجل مرضك، كي اقوم بالدعاء لك، فـحاول التجمل بالصبر والثبات امام هذا الـمرض، حتى تتحقق لك الافاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي الـمرض مهامه سيشفيك الـخالق الرحيم ان شاء)). وكنت اقول ايضاً: (( ان قسماً من امثالك يزعزعون حياتهم الابدية بل يهدمونها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لـمضيـّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الـموت وغافلين عن الله عز وجل. اما انت فترى بعين الـمرض القبرَ الذي هو منزلك الذي لا مناص من الذهاب اليه، وترى كذلك ما وراءه من الـمنازل الاخروية الاخرى، ومن ثـم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضك اذاً انـما هو بـمثابة صحةٍ لك، والصحة التي يتمتع بها قسم من امثالك انـما هي بـمثابة مرضٍ لـهم)).

 

الدواء السادس

 

ايها الـمريض الشاكي من الالـم! أسألك أن تعيد في نفسك ما مضى من عمرك وان تتذكر الايام الهانئة اللذيذة السابقة من ذلك العمر والاوقات العصيبة والاليمة التي فيه.

فلا جرم انك ستنطق لساناً أو قلباً: إما بـ((أوه)) او ((آه)). أي اما ستتنفس الصعداء وتقول: ((الـحمد لله والشكر له)) او ستتنهد عميقاً قائلاً: ((واحسرتاه!. واسفاه!)). فانظر كيف ان الآلام والنوائب التي عانيت منها سابقاً عندما خَطَرتْ بذهنك غمرتك بلذة معنوية، حتى هاج قلبك بـ((الـحمد لله والشكر له))؛ ذلك لان زوال الالـم يولـّد لذة وشعوراً بالفرح. ولان تلك الآلام والـمصائب قد غَرست بزوالـها لذةً كامنة في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حـمداً وشكراً. اما حالات اللذة والصفاء التي قضيتها والتي تنفث عليها الآن دخان الالـم بقولك: ((واأسفاه، واحسرتاه)) فانها بزوالـها غَرست في روحك ألـماً مضمراً دائمياً، وها هو ذا الالـم تتجدّد غصـّاتُه الآن بأقل تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمر دموع الاسف والـحسرة. فما دامت اللذة غير الـمشروعة ليوم واحد تذيق الانسان – احياناً – ألـماً معنوياً طوال سنة كاملة، وان الالـم الناتـج من يوم مرض موقت يوفر لذة معنوية لثواب ايام عدة فضلاً عن اللذة الـمعنوية النابعة من الـخلاص منه، فتذكر جيداً نتيجة الـمرض الـموقت الذي تعانيه وفكـّر في الثواب الـمرجو الـمنتشر في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفـّع عن الشكوى وقل: ((ياهذا.. كل حالٍ يزول..)).

 

الدواء السادس (1)

ايها الاخ الـمضطرب من الـمرض بتذكر اذواق الدنيا ولذائذها! لوكانت هذه الدنيا دائمة فعلاً، ولو انزاح الـموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت اعاصير الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ الـمستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء الـمعنوية، لانـخرطتُ في صفك ولرثيتك باكياً لـحالك. ولكن مادامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: ((هيا اخرجوا..!)) صامـّة اذانها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نـحن قبل ان تطردنا هي نابذة لنا، ان نهجر عشقها والاخلاد اليها من الآن، بايقاظات الامراض والسعي لاجل التـخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل ان تتخلى هي عنـّا.

نعم، ان الـمرض بتذكيره ايانا هذا الـمعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً:

((بنيتك ليست من الصلب والـحديد بل من مواد متباينة مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وادرك عجزك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتك وتعلـّم ما الـحكمة والغاية من مـجيئك الى الدنيا؟)).

ثم ما دامت ان اذواق الدنيا ولذاتها لاتدوم، وبـخاصة اذا كانت غير مشروعة، بل تبعث في النفس الالـم وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بـحجة الـمرض، بل تفكـّر في معنى العبادة الـمعنوية التي يتضمنها مرضك والثواب الاخروي الذي يـخفيه لك، واسع لتنال ذلك الذوق الـخالص الزكي.

 

الدواء السابع

 

ايها الـمريض الفاقد لنعمة الصحة! ان مرضك لا يذهب بلذة النعمة الإلـهية في الصحة بل على العكس، انه يذيقك أيـّاها ويطيـّبها ويزيدها لذة، ذلك ان شيئاً ما اذا دام واستمر على حاله يفقد طعمه وتأثيره. حتى اتفق أهل الـحق على القول: ((انـما الاشياء تُعرف بأضدادها..)) فمثلاً: لولا الظلمة لـما عُرف النور ولظل دون لذة، ولولا البرودة لـما عُرفت الـحرارة ولبقيت دون استساغة، ولولا الـجوع لـما اعطى الاكل لذته وطعمه، ولولا حرارة الـمعدة لـما وَهَبنا احتساء الـماء ذوقاً، ولولا العلـّة لكانت العافية بلا ذوق، ولولا الـمرض لباتت الصحة عديـمة اللذة.

ان الفاطر الـحكيم لـمـّا اراد اشعار الانسان واحساسه مـختلف احسانه واذاقته انواع نَعمه سوقاً منه الى الشكر الدائم، جهـّزه بأجهزة في غاية الكثرة لتُقبل على تذوق تلك اَلآلاف الـمؤلفة من انواع النعم الـمختلفة، لذا فلابد من انه سيُنزل الامراضَ والاسقام والعلل ايضاً مثلما يُلطف ويرزق بالصحة والعافية.

واسألك: ((لو لـم يكن هذا الـمرض الذي اصاب رأسك او يدك او معدتك.. هل كان يـمقدورك ان تتحسس اللذة الكامنة في الصحة التي كانت باسطة ظلالـها على رأسك او يدك او معدتك؟ وهل كنت تتمكن ان تتذوق وتشكر النعمة الإلـهية التي جسّدتها تلك النـعمة؟ بل كان الغالب عليك النسيان بدلاً من الشكر، او لكنت تصرف تلك الصحة بطغيان الغفلة الى سفاهة دون شعور!)).

 

الدواء الثامن

 

ايها الـمريض الذاكر لآخرته! ان مرضك كمفعول الصابون، يطهـّر ادرانك، ويـمسح عنك ذنوبك، وينقيك من خطاياك. فقد ثبت أن الامراض كفـّارات للذنوب والـمعاصي، وورد في الـحديث الصحيح:

((ما من مسلم يصيبه اذىً الاّ حاتّ الله خطاياه كما تـحاتّ ورق الشـجر))(1) والذنوب هي امراض دائمة في الـحياة الابدية. وهي في هذه الـحياة الدنيا امراضٌ معنوية في القلب والوجدان والروح. فاذا كنت صابراً لا تشكو نـجوت بنفسك اذاً بـهذا الـمرض العابر من امراض دائمة كثيرة جداً. واذا كنت لاهياً عن ذنوبك، ناسياً آخرتك غافلاً عن ربك، فاني أؤكد معاناتك من داءٍ خطير، هو أخطر وأفتك واكبر بـمليون مرة من هذه الامراض الـمؤقتة، ففـّر منه واصرخ.. ! لان قلبك وروحك ونفسك كلها مرتبطة بـموجودات الدنيا قاطبة، وان تلك الاواصر تنقطع دوماً بسيوف الفراق والزوال فاتـحة فيك جروحاً عميقة، وبـخاصة انك تتخيل الـموت اعداماً ابدياً لعدم معرفتك بالآخرة. فكأن لك كياناً مريضاً ذا جروح وشروخ بـحجم الدنيا، مـما يـحتم عليك قبل كل شيء ان تبحث عن العلاج التام والشفاء الـحقيقي لكيانك الـمعنوي الكبير الذي تفسـّخه العلل غير الـمحدودة والكلوم غير الـمعدودة، فما اظنك تـجدها الاّ في علاج الإيـمان وبلسمه الشافي، واعلم ان اقصر طريق لبلوغ ذلك العلاج هو الاطلال من نافذتي ((العجز والفقر)) اللتين تتفتحان بتمزيق الـمرض الـمادي لـحجاب الغفلة واللتين جُبلَ الانسان عليهما، وبالتالي تبلغ معرفة قدرة القادر ذي الـجلال ورحمته الواسعة.

نعم ان الذي لا يعرف الله يـحمل فوق رأسه هموماً وبلايا بسعة الدنيا وما فيها، ولكن الذي عرف ربه تـمتلىء دنياه نوراً وسروراً معنوياً، وهو يشعر بذلك بـما لديه من قوة الإيـمان – كل حسب درجته – نعم ان ألـم الامراض الـمادية الـجزئية يذوب وينسحق تـحت وابل السرور الـمعنوي والشفاء اللذيذ القادمين من الإيـمان.

 

الدواء التاسع

 

ايها الـمريض الـمؤمن بـخالقه! ان سبب التألـم من الامراض والـخوف والفزع منها ينبع من كون الـمرض احياناً وسيلة للموت والـهلاك، ولكون الـموت – بنظر الغفلة – مرعباً مـخيفاً ظاهراً، فان الامراض التي يـمكن ان تكون وسائل له، تبعث على القلق والاضطراب. فاعلم:

اولاً: آمن قطعاً:

 

ان الاجل مقدّر لا يتغيـّر. فقد حدث ان مات اولئك الباكون عند الـمحتضرين في مرضهم. مع انهم كانوا يتمتعون بصحة وعافية، وشفي اولئك الـمرضى الذين كانت حالتهم خطرة وعاشوا بعد ذلك احياءً يرزقون.

ثانيا:

 

ان الـموت ليس مـخيفاً في ذاته، كما يبدو لنا في صورته الظاهرية، وقد اثبتنا في رسائل كثيرة اثباتاً قاطعاً – دون ان يترك شكاً ولا شبهة – بـموحيات نور القرآن الكريـم.

أن الـموت للـمؤمن اعفاء وانهاء من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء تسعة وتسعين من الاحبة والـخلاّن الراحلين الى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الـحقيقي والـمقام الابدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانه الدنيا الى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو الفرصة الواجبة لتسلم الاجرة ازاء الـخدمة الـمؤداة، تلك الاجرة التي تغدق سخية من خزينة فضل الـخالق الرحيم.

فما دامت هذه هي ماهية الـموت – من زاوية الـحقيقة – فلا ينبغي ان يُنظر اليه كأنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير الرحـمة والسعادة. حتى أن قسماً من ((اهل الله)) لـم يكن خوفهم من الـموت بسبب وحشة الـموت ودهشته، وانـما بسبب رغبتهم في كسب الـمزيد من الـخير والـحسنات بادامة وظيفة الـحياة.

نعم ان الـموت لاهل الإيـمان باب الرحـمة. وهو لاهل الضلالة بئر مظلمة ظلاماً ابدياً.

 

الدواء العاشر

 

ايها الـمريض القلق دون داع للقلق! انت قلقٌ من وطأة الـمرض وشدته، فقلقك هذا يزيد ثقل الـمرض عليك. فاذا كنت تريد ان تـخفف الـمرض عنك، فاسع جاهداً للابتعاد عن القلق. أي: تفكـّر في فوائد الـمرض، وفي ثوابه، وفي حثه الـخطى الى الشفاء. فاجتث جذور القلق من نفسك لتجتث الـمرض من جذوره.

نعم، ان القلق (او الوسوسة) يضاعف مرضك ويـجعله مرضين. لان القلق يبث في القلب – تـحت وطأة الـمرض الـمادي – مرضاً معنوياً، فيدوم الـمرض الـمادي مستنداً اليه، فاذا ما أذهبتَ عنك القلق والـهواجس بتسليم الامر لله والرضا بقضائه، وباستحضار حكمة الـمرض، فان مرشك الـمادي سيفقد فرعاً مهماً من جذوره فيُخفف، وقسمٌ منه يزول، واذا ما رافقت الـمرض الـمادي اوهام وهواجس فقد يكبر عشر معشار تلك الاوهام بوساطة القلق الى معشار، ولكن بانقطاع القلق يزول تسعٌ من عشرة من مفعول ذلك الـمرض، وكما ان القلق يزيد الـمرض، كذلك يـجعل الـمريض كأنه يتهم الـحكمة الإلـهية وينتقد الرحـمة الإلـهية ويشكو من خالقه الرحيم، لذا يؤدَّب الـمريض بلطمات التأديب – بـخلاف ما يقصده هو – مـما يزيد مرضه. اذ كما ان الشكر يزيد النعم فالشكوى كذلك تزيد الـمرض والـمصيبة. هذا وان القلق في حد ذاته مرض، وعلاجه انـما هو في معرفة حكمة الـمرض. واذا ما عرفت حكمته وفائدته، فامسح قلقك بذلك الـمرهم وانـج بنفسك وقل بدلاً من ((واآسفاه)): ((الـحمد لله على كل حال)).

 

الدواء الـحادي عشر

 

ايها الاخ الـمريض النافذ صبره! مع ان الـمرض يعطيك ألـماً حاضراً فهو يـمنحك في الوقت نفسه لذة معنوية مستدرة من زوال مرضك السابق، مع لذةٍ روحية نابعة من الثواب الـحاصل من جراء ذلك الـمرض. فالزمان القابل بعد اليوم، بل بعد هذه الساعة لا يـحمل مرضاً. ولاشك أن لا ألمٍ من غير شيء، وما لـم يكن هناك ألـمٌ فلا توجـّع ولا شكوى. ولكن لانك تتوهم توهماً خطأً فان الـجوع ينتابك، اذ مع زوال فترة الـمرض الـمادي قد ذاب ألـم تلك الفترة ايضاً وثبت ثواب الـمرض وبقيت لذة زواله.. فمن البلاهة بل من الـجنون ان تتذكر بعد الآن الـمرض السابق وتتألـم منه، فتفقد صبرك وتنفده، في حين بلزمك الانشراح بذهابه والارتياح بثوابه. اما الايام القابلة فانها لـم تأت بعد. أليس من البلاهة إشغال النفس من الآن بالتفكير في يوم لـم يولد بعد، وفي مرض لـم ينزل بعد وفي الـم لـم يقع بعد؟. فهذا النوع من التوهم – نتيجة التفكر الـمرير وتكليف النفس ألـماً مبرحاً - يدفع الى فقدان الصبر ويُصبغ ثلاثة انواعٍ من العدم بثلاث مراتب من الوجود. أليس هذا جنوناً؟. فما دامت أزمنة الـمرض التي سبقت هذه الساعة تبعث على النشوة والـحبور، وما دام الزمان القابل بعد هذه الساعة معدوماً، فالـمرض معدوم والالـم معدوم.

فلا تبذّر يا اخي ما وهب لك الـحق سبحانه وتعالى من قوة الصبر يـميناً وشمالاً. بل احشدها جـميعاً مقابل الالـم الذي يعتريك في هذه الساعة وقل: ((ياصبور)) وتـحمل صابراً محتسباً!…

 

الدواء الثاني عشر

 

ايها الـمريض الـمحروم من العبادة واورادها بسبب الـمرض! ويا ايها الآسف على ذلك الـحرمان! اعلم انه ثابت في الـحديث الشريف(1) ما معناه: ان الـمؤمن التقي يأتيه ثواب ما كان يؤديه من العبادة حتى في اثناء مرضه، فالـمرض لا يـمنع ثوابه. فان الـمريض الـمؤدي للفرائض – على قدر استطاعته – سينيب الـمرض عن سائر السنن ويـحل مـحلـّها اثناء شدة الـمرض إنابة خالصة، لـما يتجمل ذلك الـمريض بالصبر والتوكل والقيام بالفرائض، وكذا يشعر الـمرضُ الانسان بعجزه وضعفه، فيتضرع الـمريض بذلك العجز وذلك الضعف بالدعاء حالاً وقولاً. وما اودع الله سبحانه وتعالى في الانسان عجزاً غير مـحدود وضعفاً غير متناه الا ليلتجىء دائماً الى الـحضرة الإلـهية بالدعاء سائلا راجياً، حيث ان الـحكمة من خلق الانسان والسبب الاساس لأهميته هو الدعاء الـخالص بـمضمون الآية الكريـمة:

} قُل مَا يَعبَؤا بِكُم رَبـّي لَولا دُعاؤكُم { (الفرقان:77) ولكون الـمرض سبباً للدعاء الـخالص، فلا تصح الشكوى منه، بل يـجب الشكر لله؛ اذ لا ينبغي ان تُجَفـّف ينابيع الدعاء التي فجـّرها الـمرض عند كسب العافية.

 

الدواء الثالث عشر

 

ايها الـمسكين الشاكي من الـمرض! ان الـمرض يغدو كنزاً عظيماً لبعض الناس، وهدية إلـهية ثـمينة لـهم. وباستطاعة كل مريض ان يتصور مرضه من هذا النوع، حيث ان الـحكمة الإلـهية اقتضت ان يكون الاجلُ مـجهولاً وقته، انقاذاً للانسان من اليأس الـمطلق ومن الغفلة الـمطلقة، وابقاءاً له بين الـخوف والرجاء، حفظاً لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الـخسران.. أي أن الاجل متوقع مـجيئه كل حين، فإن تـمكـّن من الانسان وهو سادر غفلته يكـّبده خسائر فادحة في حياته الاخروية الابدية. فالـمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكـّر بالآخرة ويستحضر الـموت في الذهن فيتأهب له. بل يـحدث ان يربـّحه ربـحاً عظيماً، فيفوز خلال عشرين يوماً ما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة. فعلى سبيل الـمثال:

كان هناك فَتَيان – يرحـمهما الله – احدهما يدعى ((صبري)) من قرية ((إيلاما)) والآخر ((مصطفى وزير زادة)) من ((اسلام كوي)) ورغم كونهما اُميين من بين طلابي، فقد كنتُ الـحظُ باعجاب موقعَهما في الصف الاول في الوفاء والصدق وفي خدمة الإيـمان، فلـم ادرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت انهما كانا يعانيان من داءين عضالين، وبارشاد من ذلك الـمرض اصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم. فنسأل الله أن تكون سنتا الـمرض والـمعاناة اللتان قضياهما في الـحياة الدنيا قد تـحولتا الى ملايين السنين من سعادة الـحياة الابدية.

والآن فقط أفهم أنّ دعائي لـهما بالشفاء قد اصبح دعاء عليهما من زاوية الدنيا، ولكن ارجو الله ان يكون دعائي مستجاباً لصحتهما الاخروية.

وهكذا استطاع هذان الشخصان – حسب اعتقادي – الـحصول على ربح يساوي الكسب الذي يـحققه الانسان بالسعي والتقوى لعشر سنين في الاقل(1)، فلو كانا متباهيين بصحتهما كبعض الشباب وسائقين لنفسيهما الى شراك الغفلة والسفاهة حتى يأتيهما الـموت الـمترصد، وهـما يتخبطان في اوحال الـخطايا وظلماتها، لكان قبراهما الان حـجور العقارب والافاعي بدلاً من كونهما الآن دفائن النور وكنوز البهجة.

فما دامت الامراض تـحمل في مضامينها هذه الـمنافع الكبيرة فلا يـجوز الشكوى منها، بل يـجب الاعتماد على الرحـمة الإلـهية بالتوكل والصبر بل بالـحمد والشكر.

 

الدواء الرابع عشر

 

ايها الـمريض الـمسدل على عينيه! اذا ادركت ان هناك نوراً، واي نور! وعيناً معنوية تـحت ذلك الـحجاب الـمسدل على أعين أهل الإيـمان، فستقول: ((شكراً والف شكر لربي الرحـيم)). وتوضيحاً لـهذا الـمرهم سأورد الـحادثة الآتية:

لقد اصيبت عمة ((سليمان)) وهو من ((بارلا)) الذي ظل يـخدمني دون أن يـملـّني يوماً او يضيق مني بشيء طوال ثـماني سنوات خدمة مقرونة بكمال الوفاء والاحترام… اصيبت هذه الـمسكينة بالعمى فانطفأ نور عينها، ولفرط حسن ظن تلك الـمرأة الصالـحة بي اكثر مـما استحق بكثير تشبثت بي وانا اغادر الـمسجد قائلة: ((بالله عليك ادع الله لي من اجل عيني))، وانا بدوري جعلت صلاح تلك الـمرأة الـمباركة الـمؤمنة قريباً وشفيعاً لدعائي فدعوت الله بتضرع وتوسل قائلاً: ((اللهم ياربنا بـحرمة صلاحها اكشف عن بصرها)). وفي اليوم التالي جاء طبيب من ولاية ((بوردور)) القريبة، وهو مـختص بالعيون، فعالـجها، فردّ الله عليها بصرها، وبعد اربعين يوماً عادت عينها الى حالتها الاولى، فتألـمت لذلك كثيراً ودعوت دعاءً كثيراً، وارجو ان يكون دعائي مستجاباً على حساب آخرتها والاّ فان دعائي ذلك سيصبح - خطأ- دعاءً عليها، حيث قد بقيت لتستوفي اجلـها اربعين يوماً فقط، اذ بعد اربعين يوماً مضت الى رحـمة الله.

وهكذا، فان حرمان هذه الـمرأة الـمرجوة لـها الرحـمة من نعمة النظر ببصر الشيخوخة العطوف والاستمتاع بـجمال الـحدائق الـحزينة لـ((بارلا)) واسدال الـحجاب بينها وبين الـمروج اللطيفة خلال اربعين يوماً، قد عوض عنها الآن في قبرها، إطلالـها على الـجنة ومشاهدة ألفاف حدائقها الـخضراء لاربعة آلاف يوم و يوم.. ذلك لان أيـمانها كان راسخاً عميقاً وصلاحها كان مشعاً عظيماً.

نعم ان الـمؤمن اذا ما اُسدل على عينيه حجاب ودخل القبر هكذا، فانه يستطيع ان يشاهد عالم النور – حسب درجته – بنظر اوسع من نظر اهل القبور. اذ كما اننا نرى بعيوننا اكثر الاشياء في هذه الدنيا، والـمؤمنون العميان لا يستطيعون رؤيتها، ففي القبر ايضاً سيرى اولئك العميان – بتلك الدرجة – ان كانوا اصحاب ايـمان – اكثر مـما يراه اهل القبور، وسيشاهدون بساتين الـجنة ونعيمها كأنهم مزوّدون بـمراصد – كل حسب درجته – تلتقط مناظر الـجنة الرائعة وتعرضها كالشاشة السينمائية امام اعين اولئك الـمكفوفين الذين حرموا من نور ابصارهم في الدنيا.

فبامكانك ايها الاخ الـحصول على هذه العين النورانية التي تكشف عن الـجنة فيما فوق السموات العلى وانت بعدُ تـحت الثرى، وذلك بالصبر والشكر على ذلك الـحجاب الـمسدل على عينيك، واعلم ان الـحكيم الـمختص بالعين والقادر على رفع ذلك الـحجاب عن عينينك لترى بتلك العين النورانية، انـما هو القرآن الـحكيم.

 

الدواء الـخامس عشر

 

ايها الـمريض الـمتأوه بالانين! لاتتأوه ابداً ولا تئن ناظراً الى صورة الـمرض القبيحة الـمذمومة، بل انظر الى معناه وفـحواه وانبسط قائلاً: الـحمد لله.

فلو لـم يكن معنى الـمرض شيئاً جـميلاً لـما كان الـخالق الرحيم يبتلي احبّ احبائه من عباده بالامراض والاسقام، فقد جاء في الـحديث الشريف: ((أشدّ الناس بلاءً الانبياء ثـم الاولياء، ثـم الامثل فالامثل))(1) او كما قال. ويقف في مقدمة الـمبتلين النبي الصابر ايوب عليه السلام، ثـم الانبياء الباقون عليهم السلام، ثـم الاولياء ثـم الصالـحون. وقد تلقوا جـميعاً تلك الامراض التي قاسوها عبادة خالصة وهدية رحـمانية، فأدوا الشكر من خلال الصبر، وكانوا يرونها نوعاً من العمليات الـجراحية تـمنح لـهم من لدن الرحـمن الرحيم.

فانت ايها الـمريض الـمتأوه الـمتألـم! إن كنت تروم الالتحاق بهذه القافلة النورانية، فأد الشكر في ثنايا الصبر، والاّ فان شكواك ستجعلهم يـحجمون عن ضمـّك الى قافلتهم، وستهوي بنفسك في هوة الغافلين! وستسلك درباً تـخيم عليه الظلمات.

نعم، هناك امراض اذا اعقبتها الـمنية، يكلل صاحبها شهادة معنوية تـحرزه مقام الولاية لله، وهي تلك الامراض التي تتمخض عن الولادة(2) وغصص البطن، والغرق والـحرق والطاعون، فهذه الامراض اذا مات بها صاحبها فانه سيرتفع الى درجة الشهيد الـمعنوي، فهناك امراض كثيرة ذات بركة تكسب صاحبها درجة الولاية بالـموت الذي تنتهي به، ولـما كان الـمرض يـخفف من شدة حب الدنيا وغلوائها ومن عشقها والعلاقة الشديدة بـها فهو يـخفف كذلك الفراق الاليم والـمرّلاهل الدنيا وهـم يغادرونها بالـموت بل قد يحببه اليهم.

 

الدواء السادس عشر

 

ايها الـمريض الشاكي من الضجر! ان الـمرض يلقـّن صاحبه اهم عرى الـحياة الاجتماعية والانسانية واجمل اواصرها وهما الاحترام والـمحبة، لانه ينقذ الانسان من الاستغناء عن الآخرين، ذلك الاستغناء الذي يسوق الى الوحشة ويـجرد الانسان من الرحـمة، لانه يتبيتّن من الآية الكريـمة } إنَ الانسانَ ليطغى ` أن رآهُ استغنى { (العلق:6-7) ان النفس الامارة الواقعة في شباك الاستغناء – الناجـم عن الصحة والعافية – لن تشعر بالاحترام اللائق تـجاه العلاقات الاخوية، ولن تـحس بالرحـمة والرأفة بالـمبتلين يالـمصائب والامراض الـجديرين بالرحـمة والعطف، ولكن متى ما انتاب الانسان الـمرض وادرك مدى عجزه، ومدى فقره، تـحت ضغوط الـمرض وآلامه واثقاله فانه يشعر بالاحترام باشقائه الـمؤمنين اللائقين بالاحترام الذين يقومون برعايته، او الذين يأتون لعيادته، ويشعر كذلك بالرأفة الانسانية وهي خصلة إسلامية تـجاه اهل الـمصائب والبلايا – قياساً على نفسه – فتفيض من قلبه الرحـمة والرأفة بكل معناهما تـجاههم، وتضطرم عنده الشفقة حارة ازاءهم، واذا استطاع قدّم لـهم يد العون، وان يقدر عليه شرع بالدعاء لـهم، او بزيارتهم والاستفسار عن راحتهم واحوالـهم مؤدياً بذلك سنةً مشروعة كاسباً ثوابها العظيم.

 

الدواء السابع عشر

 

ايها الـمريض الشاكي من العجز عن القيام باعمال البر! كن شاكراً! فاني ابشرك: بان الذي يفتح ابواب اخلص الـخيرات، انـما هو الـمرض نفسه، فالـمرض فضلاً عن انه يورث ثواباً مستمراً للـمريض وللذين يرعونه لله، فهو يـمثل اهم وسيلة لقبول الدعاء.

نعم، ان رعاية الـمرضى تـجلب لاهل الإيـمان ثواباً عظيماً، وان زيارتهم والسؤال عن صحتهم وراحتهم بشرط عدم تنغيصهم لـهي من السنة الشريفة(1)، وهي كفارة للذنوب في الوقت نفسه. وقد ورد حديث بهذا الـمعنى: اطلبوا دعاء الـمريض فدعاؤه مستجاب(2)، وبـخاصة اذا كان الـمريض من الاقربين، وبـخاصة اذا كان والداً او والده، فان خدمتهما هي عبادة مهمة وهي مثوبة كبرى ايضاً. وان تطمين افئدة الـمرضى وبث السلوان في قلوبهم، يعتبر بـحكم صَدَقة مهمة. فما أسعد اولئك الابناء الذين يقومون برعاية آبائهم او أمهاتهم عند مرضهم ويدخلون البهجة في قلوبهم الرقيقة الـمرهفة فيفوزون بدعاء الوالدين لـهم.

نعم، ان الـحقيقة التي تستحق احتراماً اكثر ومكانة اسمى في الـحياة الاجتماعية هي شفقة الوالدين، وتعويض الابناء الطيبين لتلك الشفقة، بتوجيه الاحترام اللائق والعاطفة البارّة الزكية اليهما حينما يعانون من مرض. وهي لوحة وفية تظهر الوضع الـجيد للابناء وسـمو الانسانية بـحيث تثير اعجاب كل الـمخلوقات حتى الـملائكة، فيحيـّونها مهللين مكبرين وهاتفين: ((ماشاء الله، بارك الله)).

نعم ان العواطف والرأفة والرحـمة الـمحلقة حوالي الـمريض لتذيب ألـم الـمريض وتـحوله الى لذاتٍ حلوة مفرحة.

ان قبول دعاء الـمريض والاستجابة له مسالة مهمة جديرة بالاهتمام. فمنذ حوالي اربعين سنة كنت ادعو للشفاء من مرض في ظهري، ثم ادركتُ ان الـمرض انـما يُمنح لاجل الدعاء، وكما ان الدعاء لا يرفع دعاء، أي ان الدعاء لعدم تـمكنه من إزالة نفسه فان نتيجته اُخروية(1). والدعاء بذاته نوع من العبادة، اذ يلتجىء الـمريض الى الـملاذ الإلـهي عند ادراكه لعجزه.

ولـهذا فان عدم القبول الظاهري لدعوتي بالشفاء من مرضي طوال ثلاثين سنة لـم يصرفني ابداً من ان افكر في يوم من الايام بتركه والتخلي عنه، ذلك لان الـمرض أوان الدعاء ووقته، والشفاء ليس نتيجة الدعاء بل اذا وهب الله سبحانه – وهو الـحكيم الرحيم – الشفاء فانه يهبه من فضله وكرمه، وان عدم قبول الدعاء بالشكل الذي نريده لا يقودنا الى القول بأن الدعاء لـم يُستَجب، فالـخالق الـحكيم يعلم افضل منا ونـحن نـجهل، وانه سبحانه يسوق الينا ما هو خير لنا وانفع، وانه يدّخر لنا الادعية الـخاصة بدنيانا احياناً لتنفعنا في أُخرانا، وهكذا يقبل الدعاء. ومهما يكن فان الدعاء الذي اكتسب الاخلاص والنابع من سرّ الـمرض والآتي من الضعف والعجز والتذلل والاحتياج، قريبٌ جداً من القبول. والـمرض اساس لـمثل هذا الدعاء الـخالص ومداره. فالـمريض والذين يقومون برعايته من الـمؤمنين ينبغي ان يستفيدوا من هذا الدعاء.

الدواء الثامن عشر

 

ايها الـمريض التارك للشكر والـمستسلم للشكوى!

ان الشكوى تكون نابعة من وجود حق يعود اليك، وانت لـم يذهب حَقـّكَ سدىً حتى تشكو، بل عليك حقوقٌ كثيرة لـم تؤدّ بعدُ شكرها، انك لـم تؤدّ حق الله عليك، وفوق ذلك تقوم بالشكوى بالباطل وكأنك على حق، فليس لك ان تشكو ناظراً الى مَن هو اعلى منك مرتبة من الاصحاء، بل عليك النظر – من زاوية الصحة – الى اولئك العاجزين من الـمرضى الذين هم ادنى منك درجة.

فانت مكلف اذاً بالشكر الـجزيل. فاذا كانت يدُك مكسورةً فتأمل الايدي الـمبتورة ـ واذا كنت ذا عين واحدة فتأمل الفاقدين لكلتا العينين.. حتى تشكر الله سبحانه.

نعم، فليس لأحد في زاوية النعمة حق بـمدّ البصر الى من هو فوقه، لتتأجج نار الشكوى الـمحرقة عنده، الاّ انه عند الـمصيبة يتحتم على الـمرء من زاوية الـمصيبة النظر الى من هو اشد منه مصيبة واعظم مرضاً ليشكر بعد ذلك قانعاً بـما هو فيه. وقد وضح هذا السرّ في بعض الرسائل بـمثال مقتضاه كالآتي:

((شخص يأخذ بيد مسكين ليُصعدهُ الى قمة منارة، ويهدي اليه في كل درجة من درجات المنارة هدية. واخيراً يـختم تلك الـهدايا بأعظم هدية يهبها له عند قمة الـمنارة. واذ كان الـمفروض على هذا الـمسكين ان يقدم الشكر والامتنان ازاء الهدايا الـمتنوعة، تراه يتناسى كل تلك الـهدايا التي اخذها عند تلك الدرجات، او يعدّها غير ذات بال، فلا يشكر، رافعاً ببصره الى مَن هو اعلى منه شاكياً قائلاً: لو كانت هذه الـمنارة اعلى مـما هي عليه، لأبلغ اعلى درجة من هذه الدرجات! لِـمَ لـم تصبح مثل ذلك الـجبل الشاهق ارتفاعاً او الـمنارة الـمجاورة؟…)).

وهكذا اذا قام هذا الرجل بهذه الشكوى، فما اعظم ما يرتكبه من كفران بالنعمة وما اعظم ما يقترف من تـجاوز على الـحق!

وكذا حال الانسان الذي اتي الى الوجود من العدم ولـم يصبح حجراً ولاشجراً ولا حيواناً، بل كان انساناً مسلماً وقد تـمتع كثيراً بالصحة والعافية، ونال درجة من النعمة سامية… مع هذا يأتي هذا الانسان ويُظهر الشكوى من عدم تـمتعه بالصحة والعافية نتيجة بعض العوارض، او لاضاعته النِعَم بسوء اختياره، او من سوء الاستعمال، او لعجزه عن الوصول اليها، ثم يقول: ((ياويلتا ماذا جنيت حتى حلّ بي ما حلّ))، ناطقاً بـما يشيء بانتقاد للربوبية الإلـهية. فهذه الـحالة هي مرض معنوي ومصيبة اكبر من الـمرض الـمادي والـمصيبة التي هو فيها، فهو يزيد مرضه بالشكوى كمن يتصارع ويده مرضوضة. لكن العاقل يتمثل قوله تعالى: } الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156) فيسلـّم الامر لله صابراً حتى ينتهي ذلك الـمرض من اداء وظيفته ويـمضي الى شأنه.

 

الدواء التاسع عشر

 

ان التعبير الصمداني باطلاق ((الاسـماء الـحسنى)) على جـميع اسـماء الله الـجميل ذي الـجلال يدل على ان تلك الاسـماء جـميلة كلـّها. وحيث ان الـحياة هي اجـمل مرآة صمدانية وألطفها واجـمعها في الـموجودات، وان مرآة الـجميل جـميلة ايضاً، وان الـمرآة التي تعكس مـحاسن الـجميل تصبح جـميلة ايضاً، وان كل شيء يصيب تلك الـمرآة من ذلك الـجميل هو جـميل كذلك، فكل ما يصيب الـحياة جـميل ايضاً من زاوية الـحقيقة؛ ذلك لانه يُظهر النقوش الـجميلة لتلك ((الاسـماء الـحسنى)) الـجميلة.

فلو مضت الـحياة بالصحة والعافية على نسق واحد، لاصبحت مرآة ناقصة، بل قد تُشعر – في جهة ما – بالعدم والعبث فتذيق العذاب والضيق، وتهبط قيمة الـحياة، وتنقلب لذة العمر وهناؤه الى ألـم وغصـّة، فيلقي الانسان بنفسه إما الى اوحال السفاهة او الى اوكار اللهو والعربدة ليقضي وقته سريعاً، مَثَله كمثل الـمسجون الذي يعادي عمره الثمين ويقتله بسرعة، بغية انهاء مدة السجن. ولكن الـحياة التي تـمضي بالتـحولات والـحركة وتقضي اطواراً شتى فانها تُشعر ان لـها قيمة ووزناً وتنتج – هذه الـحياة – للعمر اهمية وتُكسبه لذة، حتى ان الانسان لا يرغب في ان يـمضي عمره، رغم ما يعانيه من اصناف الـمشاق والـمصائب ولا يتأوه ولا يتحسر قائلاً: ((أنـّى للشمس ان تغيب وأنـّى لليل أن ينجلي)).

نعم، ان شئت فاسأل شخصاً ثرياً عاطلاً، كل شيء عنده على مايرام. اسأله: كيف حالك؟ فستسمع منه حتماً عبارات أليمة وحسرة مثل: آه من هذا الوقت.. انه لا يـمرّ.. ألا تأتي لنبحث عن لـهو نقضي به الوقت.. هلم لنلعب النرد قليلاً..!. او تسمع شكاوى ناجـمة عن طول الامل مثل: ان أمري الفلاني ناقص.. ليتني افعل كذا وكذا.. اما اذا سألت فقيراً غارقاً في الـمصائب او عاملاً كادحاً: كيف حالك؟ فان كان رشيداً فسيقول لك: اني بـخير والـحمد لله وألف شكر لربي، فاني في سعي دائم.. ياحبذا لو لـم تغرب الشمس بسرعة لا قضي ما في يدي من عمل. فالوقت تـمر حثيثاً والعمر يـمضي دون توقف، ورغم اني منهمك في الواقع، الا أن هذا سيمضي ايضاً، فكل شيء يـحث خطاه على هذا الـمنوال..!. فهو بهذه الاقوال انـما يعبـّر عن قيمة العمر واهميته ضمن اسفه على العمر الذي يهرب منه، آسفاً على ذلك.. فهو يدرك اذاً ان لذة العمر وقيمة الـحياة بالكدّ والـمشقة، اما الراحة والدعة والصحة والعافية فهي تـجعل العمر مراً وتثقله بـحيث يتمنى الـمرء الـخلاص منه بسرعة.

ايها الاخ الـمريض! اعلم ان اصل الـمصائب والشرور بل حتى الذنوب انـما هو العدم كما اثبت ذلك اثباتاً قاطعاً ومفصلاً في سائر الرسائل، والعدم هو شرّ محض وظلمة تامة. فالتوقف والراحة والسكون على نسق واحد ووتيرة واحدة حالات قريبة جداً من العدم والعبث، ودنوّها هذا هو الذي يُشعر بالظلمة بالـموجودة في العدم ويورث ضجراً وضيقاً. اما الـحركة والتـحول فهما وجودان ويُشعران بالوجود، والوجود هو خيرٌ خالص ونور.

فـما دامت الـحقيقة هكذا، فان الـمرض فيك انـما هو ضيف مُرسلٌ اليك ليؤدي وظائفه الكثيرة فهو يقوم بتصفية حياتك القيمة وتقويتها ويرتقي بها ويوجه سائر الاجهزة الانسانية الاخرى في جسدك الى معاونة ذلك العضو العليل ويبرز نقوش اسـماء الصانع الـحكيم، وسينتهي من وظيفته قريباً، ان شاء الله ويـمضي الى شأنه مـخاطباً العافية: تعالى الآن لتمكثي مكاني دائماً، وتراقبي اداء وظيفتك من جديد، فهذا مكانك تسلـّميه واسكنيه هنيئاً.

 

الدواء العشرون

 

ايها الـمريض الباحث عن دوائه! اعلم ان الـمرض قسمان: قسم حقيقي وقسم آخر وهمي.

اما القسم الـحقيقي: فقد جعل الشافي الـحكيم الـجليل جلّ وعلا لكل داءٍ دواءً، وخزَنَه في صيدليته الكبرى التي هي الكرة الارضية، فتلك الادوية تستدعي الادواء، وقد خلق سبحانه لكل داء دواء، فاستعمال العلاج وتناوله لغرض التداوي مشروع اصلاً. ولكن يـجب العلم بأن الشفاء وتأثير الدواء لا يكونان الا من الـحق تبارك وتعالى، فمثلما انه سبحانه يهب الدواء فهو ايضاً يهب الشفاء. وعلى الـمسلم الالتزام بارشاد الاطباء الـحاذقين الـمسلمين وتوصياتهم. وهذا الامتثال علاج مهم؛ لان اكثر الامراض تتولد من سوء الاستعمال، وعدم الـحمية، واهمال الارشاد، والاسراف، والذنوب، والذنوب، والسفاهة، وعدم الـحذر. فالطبيب الـمتدين لاشك انه ينصح ضمن الدائرة الـمشروعة ويقدم وصاياه، ويـحذر من سوء الاستعمال والاسراف ويبث في نفس الـمريض التسلية والامل، والـمريض بدوره اعتماداً على تلك الوصايا والسلوان يـخفّ مرضه ويغمره الفرح بدلاَ من الضيق والضجر.

اما القسم الوهمي من الـمرض: فان علاجه الـمؤثر الناجع هو: ((الاهمال)) اذ يكبر الوهم بالاهتمام وينتفش، وان لـم يُعبأ به يصغر وينزوي ويتلاشى. فكما اذا تعرض الانسان لوكر الزنابير فانها تتجمع وتهجم عليه، وان لـم يهتم تتفرق عنه وتتشتت.

وكما ان الذي يلاحق باهتمام خيالاً في الظلمات من حبلٍ متدلٍ، سيكبر امامه ذلك الـخيال حتى قد يوصله الى الفرار كالـمعتوه، واذا لـم يهتم فسينكشف لـه ان ذلك انـما هو حبل وليس بثعبان.. ويبدأ بالسخرية من اضطراب ذهنه وتوهمه. فهذا الـمرض الوهمي كذلك اذا دام كثيراً فسينقلب الى مرض حقيقي، فالوهم عند مرهف الـحس، عصبي الـمزاج مرض وبيل جداً، حيث يستهوله ويـجعل له الـحبة قبة، فتنهار قواه الـمعنوية، وبـخاصة اذا صادف أنصاف الاطباء ذوي القلوب الغلاظ الـخالية من الرحـمة، او الاطباء غير الـمنصفين، الذين يثيرون اوهامه ويـحركونها اكثر من ذي قبل حتى تذهب امواله وتنضب ان كان غنياً، او يفقد عقله او يـخسر صحته تـماماً.

الدواء الـحادي والعشرون

 

ايها الاخ الـمريض! حقاً ان في مرضك الـماً مادياً، الا أن لذة معنوية مهمة تـحيط بك، تـمحو كل آثار ذلك الالـم الـمادي؛ لان ألـمك الـمادي لايفوق تلك الرأفة او الشفقة اللذيذة التي نسيتها منذ الصغر، والتي تتفجر الآن من جديد في اكباد والديك واقاربك نـحوك، ان كان لك والدان واقارب. حيث ستستعيد تلك العواطف والنظرات الابوية الـحنونة الـحلوة التي كانت تتوجه اليك في الطفولة، وينكشف الـحجاب عن احبائك من حواليك ليرعوك من جديد وينطلقوا اليك بـمحبتهم ورأفتهم بـجاذبية الـمرض التي أثارت تلك العواطف الداخلية، فما أرخص تلك الآلام الـمادية التي تعاني منها امام ما يؤديه لك من خدمات جليلة مـمزوجة بالرحـمة والرأفة بـحكم مرضك اولئك الذين سعيتَ انت – بكل فـخر – لـخدمتهم ونيل رضاهم، فاصبحت بذلك سيداً وآمراً عليهم وفزت ايضاً بـمرضك في كسب الـمزيد من الاحبة الـمعاونين والاخلاء الـمشفقين. فتضمهم اليك للرقة والرأفة الانسانية التي جُبل عليهما الانسان.

ثم انك قد اخذت بـمرضك هذا اجازة من الوظائف الشاقة الـمهلكة، فأنت الآن في غنى عنها وفي راحة منها… فلا ينبغي ان يسوقك ألـمك الـجزئي الى الشكوى بل الى الشكر تـجاه هذه اللذات الـمعنوية.

 

الدواء الثاني والعشرون

 

ايها الاخ الـمريض بداء عضال كالشلل! انني ابشّرك اولاً بأن الشلل يعدّ من الامراض الـمباركة للـمؤمن.. لقد كنت اسمع هذا منذ مدة من الاولياء الصالـحين فكنت اجهل سرّه، ويـخطر الآن احد اسراره على قلبي هكذا:

ان ا

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3851 مشاهدة
نشرت فى 26 يونيو 2012 بواسطة tebnabawie

سالم بنموسى

tebnabawie
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,214,445