السراج المنير في الطب العربي والإسلامى

المبادئ الشرعية للتطبيب والعلاج

دكتور. عبد الستار أبو غدة
الكويت 

تمهيد:
أغراض الطب ووسائله

إن الغرض من الطب. كما دلى عليه الاستقراء، إحدى أمرين هما: حفظ الصحة، وإزالة المرض.. (1) والعلاج الناجع في الحالين بسلوك الوسيلة المناسبة، وقديماً قالوا: حفظ الصحة يكون بمثلها، وإزالة المرض يكودن بعكسه. ومفاد هذه المقولة أن الصحة لا تدوم إلا بالاستمرار في سلوك. المناهج القويمة الملائمة للطبيعة غير المنافرة للفطرة، والمرض لا يزول إلا بما قاومته بالأسباب المضادة له لأنها يغلب فيها مخالفة ما يعتاده الإنسان حالة الصحة والسلامة.. 

والمراد مما تقدم أن هذين الأمرين (حفظ الصحة وإزالة المرض) يتطلبان الأخذ بكثير من الوسائل الطارئة على مألوف الانسان، وتطبيق جملة من المبادئ التي يتحقق برعاتها استدامة الصحة واتقاء المرض أو درؤه بعد الوقوع. 

على أن الصحة والمرض ليسا من خصائص الأجسام العضوية وحدها ، بل هما مما يطرأ على النفوس والأرواح أيضاً ، (2) انطلاقاً من أن الإنسان ليس جثة ناطقة فحسب ، بل هو نفس عاقلة. والتشريع الإلهي يربأ بالإنسان أن تنحصر همته في استدامة الحياة للحواس والأعضاء ولو كان صاحبها (ميت الأحياء) ذلك أن من وراء الفور المادي : أضرار تلحق بالدين باعتباره وضعاً إلهياً ينظم الحياة ويملأ محتواها بالغايات الرفيعة، أو تعتري النفس العاقلة السوية التي يفلح من زكاها ويخيب من دساها، أو تخل بالتعايش الاجتماعي بين الإنسان وأخيه من بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً .

الضوابط الشرعية للمقاصد والوسائل:

ورعاية هذه الأسس استوجبت إرساء الشريعة العديد من المبادئ التي تتناول، بالإضافة إلى مشروعية التطبيب والعلاج، تنظيم إجراءاته وملابساته ورسم السبل المثلى لتصرفات الطبيب المداوى، والمريض الشاكي، لتحقيق الهدف من خلال الوسائل السليمة ضمن إطار التعاليم الاسلامية، وهذه أبرز معالم الطب الإسلامي، كيلا يكون دفع الضرر عشوائيآ، على نمط الاستجارة من الرمضاء اللافحة بالنار الحارقة.. ولا يخفى أن إضفاء المشروعية على أصل فكرة التطبيب والعلاج، لا يستلزم إطلاق العنان لمتطلبات ذلك، لأن الشريعة الإسلامية كما اهتمت بتجديد المقاصد والأهداف جاءت بتنظيم الوسائل والأسباب، (3) فإن اختيار الوسيلة السليمة من شأنه تمام الغرض وإكمال الثمرة. وذلك للوصول إلى ما  تتراجح فيه المصالح على المضار، فإن المصالح المحضة نادرة جداً كما قرر المعنيون بالاستنباط من علماء الشريعة، ولذا  اكتفى برجحان المصالح في أمر على ما يكتنفه من مضار، (4) كما روعي أثر الوسائل في زوال المصلحة، أو أن يؤ ول الحال إلى أن ما يستهدف بها من منافع يصير كالمضار الخالصة أو أشد.

نشأة " المبادئ " و أهميتها

لا يختلف المراد بكلمة " مبادئ " هنا عن مقتضى الاستعمال في مختلف العلوم ولاسيما الاستعمال الحقيقي الأقرب في الطبيعة إلى الفقه واستعمالاته.. إلا أن كلمة " مبدأ " Principal" يؤثر عليها علماء الشريعة كلمة " قاعدة " فهي المتداولة للدلالة على المعنى نفسه فيما يشمل معظم القضايا الجزئية في موضوع ما، ويحمل الطابع الكلي في الصياغة، وهي ثمرة صياغة جماعية تعاقب عليها التطوير والصقل واكتسبت مزايا التقعيد والدقة والإحكام. وهي- لما تتسم به من الإيجاز والسعة تشبه جوامع الكلم، بالرغم من أسلوبها العلمي المفتقر إلى المقومات الأدبية..

على أن هذه المبادئ أو القواعد ليست دائماً مطردة، بل هي في بعض الأحيان أغلبية، لا تنفك عن استثناء محدد من شأنه عصمة القاعدة من الاضطراب والتردد..

وينبى عن أهمية هذه القواعد اعتبار العلامة القرافي إياها من زمرة أصول الشريعة حيث قسم تلك الأصول إلى (اصول الفقه) أي العلم المعروف وإلى (القواعد الكلية الفقهية) وبين أن الاحاطة بهذه القواعد توضح مناهج التعرف إلى الأحكام وتغني عن حفظ جزئيات لا حصولها.. (6)

الحاجة للمبادئ بوجه عام:

وإذا كانت للمباديء أو القواعد هذه الفائدة الفنية للمختصين في الفقه، فإن من فوائدها لغيرهم، كالطبيب وأمثاله، تكوين الإلمام السريع بجوانب الموضوعات التي تنظمها تلك القواعد- أو المبادئ- وتيسير التعرف إلى الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها في مجال الممارسة من خلال منهج وسط لا هو مسلك الاستنباط المستوعر على غير من له ملكة فقهية وأهلية اختصاصية تتيح له الاستقلال في النظر وبذل الجهد الفكري، ولا هو المنهج البدائي لتلقي الأحكام المنشورة من غير أن ينظمها  أصل تنضوي تحته وهو منهج لا يغني سالكه عن دوام التلقي الحرفي واستمرار الحاجة للتلقين..

 إن هذه المباديء  وإن كانت لها تطبيقاتها العامة في شتى المجالات، يعتبر التطبيق الدقيق والاستثمار الخطير لها متمثلاً  في مجال التطبيب والعلاج، لخطورة آثار التسويغ أو المنع من حيث صلتها بمقصد من مقاصد التشريع هو (حفظ النفس البشرية وسلامتها) وهو على رأس (الضروريات) المعتبرة من أهم مقاصد التشريع الإسلامية. (7)

ولما كانت حدود سلامة التطبيق شرعا لا يتاح وضعها في الميدان النظري بل تفتقر إلى من يملأ ثغرات التوصيف الصحيح، ويرجح أقوى الاحتمالات الدائرة في كل أمر من الأمور قبل اللجوء إلى عنصر التجربة أو مقتضى المقولات المحتكم إليها في كل اختصاص.

فإن من أهداف هذا البحث- وأمثاله- زيادة الوشائج التي تصل بين الفقه والطب وتسهل تناول الفقه المحتاج إليه للأطباء خاصة أو غالباً ، إذ لا بد أن توضع بين أيديهم بالإضافة إلى البيانات المباشرة لبعض التصرفات- طريقة الاحتكام إلى المبادئ القواعد والضوابط) التي هي النبع الثري للتطبيقات، وبها يسهل لهم أيضاً أن يولوا الأهمية للعناصر المؤثرة في وضع التصورات الصحيحة التي لا يقدر طرف واحد على تولي الفصل فيها، وبمثل هذا التعاون يتحقق الوصول إلى معالم الطب الإسلامي ذي الخصائص المميزة له كعلاج للروح والبدن معاً، ومظهر من مظاهر العدل
 

والإحسان والتعاون على البر والتقوى.

المبادئ المقصودة بالبحث:

لقد اشتملت الشريعة الإسلامية (وما صدقته من سابق الشرائع السماوية) على مبادئ وقواعد تبري أحياناً للحض على اجتلاب المصالح، وتنهض أحياناً لدرء المفسدة واجتناب المضار، فإذا كان الضرر عصياً عن الإزالة إلا مع أثر يخلفه أجريت الموازنة بين الضررين للركون إلى أخفهما.. وفي ثنايا هذا المبدأ جملة من القواعد الدقيقة التي تفرز الأضرار بحسب متعلقاتها من الضروريات والحاجيات وبحسب درجتها من الخصوص والعموم..

هذا عن إزالة المرض. أما حفظ الصحة فإن أهم المبادئ المعول عليها لتحقيقه قاعدة تحريم المضار ووجوب التحرز منها قبل الوقوع في أخطارها وسلوك الطرق الوقائية وعدم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.. وإلى جانب هذين المبدأين هناك قواعد أخرى كثيرة منها الحض على النفع، والتعاون، وبذل المعروف، وكرامة النفس الانسانية، رعاية المقاصد الأساسية من حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وهي أساس التطبيب والعلاج بشتى أنواعه كما هي أساس التكييف الشرير لإجراءات الطب الاستعاضي الذي يقوم على هذه المبادئ، مضافاً إليه بعض المبادئ الأخلاقية كالإيثار دون تجاوز حدود الله وحقوقه.

ولو ذهبنا نستعرض جميع المبادئ المتصلة بالموضوع مع الشرح المفصل والتطبيقات الموضحة لخرجنا عن نطاق المجال المرسوم لمثل هذه الأبحاث. لكن الحرص على مطابقة المقال لمقتضى الحال هو الذي يحدونا للاجتزاء بالقدر المحقق للأغراض الخاصة المنوه بها فيما سبق من بيان. ولذلك كان المناسيب استقطاب المباديء الأساسية بالصورة التي يبرز فيها الموضوع والمقصد منها بدلاً من الألفاظ والعبارات، ويستتبع ذلك الاغضاء عن التغاير الذي مرده الترادف أو التشابه في صياغة المبدأ أحيانأ..

أولاً: مباديء المصلحة

إن التيسير من خصائص التشريع الإسلامي العامة، وقد تواردت على إثبات هذه
الخصيصة كثير من نصوص القرآن والسنة منها قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (1) (2/ 185) وقوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون، (5/ 6).

ومن الأحاديث قوله r" إن هذا الدين يسر " أخرجه البخاري وقوله " يسروا ولا تعسروا". أخرجه البخاري ومسلم.

والتيسير ليس شعارا معنويا  فقط بل هو مرتكز لكثير من القضايا التي لم يرد نص بشأنها ولا ورد بشأن ما هو قريب منها مشابه له ليقاس عليه لذا ظهر هذا المبدأ بصورة قواعد تشريعية عامة: 

(الأصل في المنافع الإباحة): 

ومعنى هذا المبدأ أن الإباحة هي الأصل فيما فيه نفع للناس ،- مما لم يتناوله نص أو يكن مقيسا على منصوص- إلا أن هذا فيما تمحض من الأشياء منفعة خالصة، والشأن في هذه الزمرة أنها تدرك من النصوص أو من سكوت الشارع وهي مرتبة سماها بعضهم (مرتبة العفو) اشتقاقاً من قوله مجاز (وما سكت عنه فهو مما عفا لكم) أخرجه البزار بسند صالح كما في قول ابن حجر، وفي رواية (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). ومن الأدلة المشهورة لهذا المبدأ قوله تعالى : (خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) والهدف من هذا المبدأ: الإقدام على ما تحققت فيه صفة المنفعة ولم يرد بشأنه منع، واطمئنان القلب إلى إباحته وانتفاء الإثم عن الانتفاع به.. (9)

(الأصل في المضار التحريم:)

والمضرة  بعمومها  تشمل ما كان شدة في البدن، ويفيد هذا المبدأ أن المضار مما طلبت الشريعة طلباً جازماً الكف عن فعلها ولو لم يرد فيها نص يخصها. وإن ما سلف من  مستندات للمبدأ السابق تتناول من طرف خفي هذا المبدأ فضلاً عن اقتضائه بالعقل السليم المجرد عن الشوائب .

على أن هذين المبدأين (أصالة إباحة المنافع- وأصالة تحريم المضار) رغم  استمدادهما الشرعي لا يرقيان إلى معارضة الأدلة والقواعد الشرعية العامة ما كان منها خاصاً في الموطن المخصوص أو عاماً يتناول جميع أفراده.. وفضلاً عن ذلك لا بد من التزام التوصيف الدقيق للضرر والنفع بأن يتولى الشارع نفسه بيان ذلك فيكون حكمه هو الفصل، أو تراعى قواعد المصالح والمفاسد القائمة على استهداف ما كان النفع أو الضر فيه خالصاً ، أو هو الغالب الراجح، ولا عبرة بالنفع المغمور المغلوب، في جنب الضرر الغالب، كما لا عبرة بالطارئ المؤقت في إزاء الدائم الثابت.. وتأمل هذه الأشباه والنظائر ينمي مقدرة البت في المسكوت عنه مما المآل فيه إلى الاستنباط الدقيق.

وسؤال أهل الذكر: أهل الاختصاص كل منهم في مجال خبرته.

قال العلامة القرافي: ان الموجودات في هذا العالم قسمان: الأول حرام لصفته،
وهو ما اشتمل على مفسدة تناسب التحريم (أو  الكراهة ) والثاني مباح لصفته وهو
ما اشتمل على مصلحة، أو كان ليس فيه مفسدة ولا مصلحة، وهو قليل، فلا يكاد
يوجد شيء إلا فيه مصلحة أو مفسدة. (10)

(ثانيا) تجنب المضار وإزالتها

مقتضى المبدأ السابق أن المضار متناولة بالوقف العام للمنع، تحت طائلة الاثم والعاقاب، سواء كان الضرر بالمبادرة أو على سبيل الانعكاس وقد تجلى ذلك بإحدى جوامع كلمه  r وهي قوله "لا ضرر ولا ضرار " (11) و (الضرر) حصول الأذى أو المفسدة ابتداء، و (الضرار) حصوله على سبيل الجزاء ورد الفعل وقد استمد من هذا الحديث، في ظل قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، (2/ 195) من مبدأ شرعي، وهي إذا روعيت مجتمعة كانت نبراسا في الممارسة الصحيحة لإجراءات التطبيب والعلاج لتوفير الطمأنينة من الإثم الذي يحاك في النفس، ولتحاشي المسئولية وموجبات الضمان إذا لم تستخدم موازين العدل.

وتشتمل هذه القاعدة على جملة من المبادىء مكونة من نوعين: وقائي، وعلاجي.
 

الجانب الوقائي
الحفاظ على الفطرة السليمة

شرع الله عر وجل مبدأ الحفاظ على الفطرة الانسانية. باعتبارها (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللة) (35/ 30)، وهي الحالة الأصلية المستحقة للبقاء بعيداً عن التغير المعنوي و المادي (كل مولود يولد على الفطرة) (12) ووسيلة تحقيق هذا الهدف إرساء المبادىء  وتعزيزها بالتطبيقات العديدة مما تكفي هنا الإشارة إلى أنها جاءت متنوعة.

(الضرر يدفع بقدر الإمكان)

والدفع هو الحيلولة دون الوقوع، باتخاذ الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه/ جاء كانت سلبية بالامتناع عن أفعال مؤدية للضرر، أو إيجابية بالأخذ بما يعصم منه، ومفاد هذأ أن الضرر لا يتريث فيه حتى يقع بل يبذل كل ما أمكن لدفعه.

كما أن دفع الضرر إن لم يمكن كلية يدفع المقدار الممكن منه، فليس هناك تلازم بين الدفع الاستئصال، بل إن التخفيف للمقدار الموشك وقوعه يحظى بالاهتمام الشرعي نفسه إذا تعذر تفادى جميعه. وهذا المبدأ بشقيه (دفع الضرر- ولو الممكن منه) هو المظلة الفنية للمثلين المتداولين: (الوقاية خير من العلاج) و (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه). 

الجانب العلاجي
العودة إلى الفطرة الأصلية

إذا حل الضرر، في غيبة الضمانات المقامة سدوداً دون وقوعه، فإن الإجراء المطلوب حينئذ إيجابي فعالة من شأنه تصحيح ما نزلت من انحراف عن الطبيعة برفع الضرر وإزالته وهو مفاد المبدأ القائل:

(الضرر يزال):

أي الشأن فيه أن ينحى عمن أصابه، ولا يعتبر حصوله وضعاً طبيعياً وأمراً واقعاً مهما تقادم أو تضاعف أثره، ولا ذريعة للمتواكلين المدعين الركون للمقادير، وهي كما تحرى بما لا يعرفه الإنسان إلاً بعد حصوله، فإن بقاءها كذلك لا يحكم له باللزوم والثبات إلا بعد المحاولة والأخذ بالأسباب، وإذا كان المر ض (أو الضرر عامة، أمراً  مقدوراً فإن الشفاء والمعافاة هو من قدر الله، وبذلك أجاب عمر رضي الله عنه من تردد في تجنب البيئة الموبوءة (نفر من قدر الله إلى قدر الله).

وتعبيراً عن بقاء (الضرر) دخيلاً هجيناً جاء المبدأ القائل: (الضرر لا يكون قديماً) أي لا يحظى بحصانة ولا يكتسب استيطاناً مهما تطاول زمانه بل يظل مزلزل الأركان مضطرب الجنان يهدده نداء الرحيل، لأنه ( لا تبديل لخلق الله) (30/ 30)

وللمبدأ الأساسي (إزالة الضرر) هالة يحف به من المباديء التي يتم بها تنظير كامل له يتناول في آن واحد رسم الوسائل وتحديد المقاصد، منها: (الضرر لا يزال بمثله) وبعبارة أخرى تقدم البديل:

(الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وبأسلوب آخر:
(يختار أهون الشرين) وتحديد الشرية والخيرية ليس بالهوى بل ضابطه : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) وبالتحديد: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) وبكلمة جامعة:
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) (13)

وهذه المبادئ الغنية عن التطويل بشرحها توحي بالخطوات الحكيمة التي ينبغي سلوكها في مجال التطبيب والعلاج: بأن لا يطغى خوف الخطر الماثل في الداء على استشعار الخطر الكامن في الدواء، إذا كانت كفة هذا راجحة على ذاك..

والمحظورات، على ما في بعضها من ملاذ أو أرباح موقوتة أو فردية، جديرة بالمنع ولو أهدرت به المصالح الجزئية، ومن هنا نشأ حكم الشريعة (وما وافق منهجها) بالحجر على الطبيب الجاهل بأصول الصنعة، والحيلولة بينه وبين فوائد المزاولة النافعة له شخصياً، لما في ذلك من حفظ المصالح العامة ودرء المفاسد المتوقعة..

وهو كذلك مناط الفصل في مسائل العلاج بوسائل هي في الأصل محرمة، أو التداوي ببعض المحرمات إذا تعين ذلك سبيلاً لإزالة الضرر..

ثالثاً رفع الحرج ومراعاة الضرورة

رفع الحرج ومقاصد التكليف:

إن رفع الحرج عن المكلفين من المقاصد الأساسية للتشريع الإسلامي عامة، وله هنا مظاهره الخاصة الكثيرة التي يتعاقب أثرها لتحقيق سمو الشريعة عن أن يكون طابعها الجمود على نمط واحد من التكاليف، تأسيساً على أن تلك التكاليف نصبها الشارع الحكيم، بالنسبة للأفراد، لمقصد عام هو: " إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً " (14) وإن المقصد بالنسبة للمجموع هو " إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي " فهناك نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، ومطلوب من كل فرد أن ينضوي تحت هذا النظام وينقاد له لا لهواه.

ولهذا جرت الشريعة الإسلامية في التكليف على الطريق الوسط الأعدل الداخل تحت طاقة الإنسان من غير مشقة عليه، ولا انحلال ربقة عبوديته لله، وجاءت تكاليفها لتحقيق توازن ينشد غاية الاعتدال في جميع المكلفين.. فإن آل الأمر للميل إلى جهة التشديد بسبب واقع خاص، أو حال متوقعة، عالجت الشريعة ذلك بالرخص الشرعية الدائمة، أو بمراعاة ظروف الضرورة الطارئة، ليظل المكلف في جميع أحواله ملتزماً بما نصبه الله من معالم دينه التي لا تغادر صغيرة أو كبيرة من شئون الحياة إلاً وضعت لها أصلاً يرجع إليه ومعقلاً يلجأ إليه. وهذا غاية الإحسان والإنعام من الله. (15)

المبادئ المنظمة للضرورة:

والضرورة التي اشتملت الشريعة على كثير من المبادئ لمراعاة ظروفها هي كل ما فيه مشقة بالغة وحرج، وهي الحالة التي  تلجىء الإنسان إلى فعل الممنوع عنه شرعاً، أو هي الحالة التي يصير بها الإنسان معرضاً للتلف إن لم يقدم على الممنوع. ولما كان من خصائص الشريعة الإسلامية رفع الحرج ودفع المشقة سواء كانت المشقة من النوع غير المقصود للشارع أصلأ، وهي المشقة غير المعتادة، أو من النوع الذي لا يخلو عنه أصل التكليف، لأنها في بعض الظروف تتحول إلى منزلة المشقة غير المعتادة، وهذا التحول ليس واقعاً على طبيعتها بل هو بحصول سبب اقتضاه. قال القرافي: " كل ما حرم لصفته لا يباح إلا بسببه، وهو الاضطرار " (16) وفي التعليل الدقيق لإباحة المحظور هنا يقول العز ابن عبد السلام: "الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها (17) أي للمصلحة المغلوبة بمفسدة راجحة، بناء على أن معظم الأمور تشتمل على مصالح ومفاسد، والعبرة بالراجح فيها منهما، ففي حال الضرورة يستفاد من تلك المصلحة النادرة التي أهدر أمرها في الأحوال الطبيعية.

وقد صاغ علماء الشريعة هذا المبدأ بجملة من القواعد المشهورة المتداولة بين المختصين بل بين غيرهم من طبقات الناس على حد سواء مع شىء من التحريف أو إغفال القيود الواجب مراعاتها..

وقطب الرحى لتلك القواعد هو قول الله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) (2/ 173) وقول الرسول  r: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (18) وقوله فما أجاب به قوماً سألوه عن أكل الميتة في المخمصة (فشأنكم بها)، وها هي نبذة عن تلك القواعد بتوضيح ي!سهل به استثمارها على الوجه السليم: (19)

(المشقة تجلب التيسير):

في هذا المبدأ وصف للحال المعهودة من لشريعة الإسلامية السمحة مما تقدمت الإشارة إليه من استهداف التوازن وإعطاء كل طرف ما يناسبه، وزيادة عما سبق عن الضرورة من بيان توضيحي فإن المراد بالمشقة الجالبة لليسر: المشقة التي تجاوز حدود المعتاد، لأن التكليف لا يخلو عن المعتاد منها فهو إلزام ما فيه كلفة، ولو شمل التخفيف جميع التكاليف لكان- كما قال الإمام الشاطبي نقضاً لما وضعت الشريعة له من إخراج المكلف عن داعية هواه، (20) وضرب من الأمثلة على تسويغ ذلك طلب المعاش بالاحتراف وسائر الصنائع فإنه مع اعتياده لا يزيل ما فيه من الكلفة.. وأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل الله له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهرها.. (!2)

وفي نحو هذا المبدأ الوصفي جاءت قاعدة أخرى مؤكدة هي:
(الأمر إذا ضاق اتسع):

على أن ثمرة الخاصة التشريعية المعبر عنها بالمبدأين السالفين جاءت في مبدأ مشهور متداول هو:

(الضرورات تبيح المحظورات):

وقد سبق بيان استمداد هذا المبدأ وهو ذو غزارة في التطبيقات وأبرزها يتصل بقضايا التطبيب والعلاج، فإن ممارسة أي من الإجراءات المندرجة فيهما هي في الأصل محظورة ومعتبرة جناية على النفس الانسانية أو جزء منها، أو تسبباً في إتلافها وإلحاق الضرر بها لولا عامل الضرورة الذي تسوغ معه تلك التصرفات وتغدو من باب أداء الواجب أو الفعل المأذون به.. ولا مجال لسرد التطبيقات الخاصة بدءاً من إباحة النظر والمس للعورة عند الاقتضاء، وانتهاء بأعمال المبضع في البدن دون أن ينشأ عنه قصاص أو ضمان..

وإلى جانب المبدأ المراعي لحال الضرورة التي تستلزم التعرض للتلف أو وقوع الخطر هناك مبدأ يعطي الحكم نفسه لحال (الحاجة) وهي ما ينشأ عنها عسر وصعوبة في الظروف الجماعية الشاملة للأمة أو الخاصة بطائفة أو مجموعة خاصة، لا للأفراد فيكون (عموم الظرف) في! الحاجة) مدعاة لإحلالها منزلة الضرورة التي يطبق مبدؤها ولو كانت فردية، (22) وهذا المبدأ هو:

(الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) 0 (23)

والمبادئ المتناولة لأثر الضرورة والحاجة العامة للأمة أو الخاصة بمجموعة من فئاتها محاطة بالضمانات الكافية للحيلولة دون اتخاذ ذلك ذريعة للخروج عن دائرة التكليف، وإلغاء الالتزام بأحكام الشريعة على نطاق زائد عن مقتضى الضرورة أو الحاجة، وللتعبير عن أهم تلك الضمانات جاءت المبادئ التالية:

(الضرورات تقدر بقدرها):

فيباح بالضرورة القدر الذي يدفع الخطر، من غير بغي ولا عدوان، وتطبيق هذا المبدأ سار في تصرفات التطبيب، فلا يتجاوز المقادير المجزئة إلى غيرها سواء من جهة أصل الفعل الاضطراري، أو من جهة توقيته واستمراره.

(ما جاز لعذر بطل بزواله) أو بصياغة أخرى لفكرة المبدأ هي:
(إذا زال المانع عاد الممنوع)، وهو كما ينظم بثتاء المسوغ الاضطراري من حيث الزمن يؤكد الىهـ بط بفثتدان البديل السائغ ووجوده..
 

هذا، وإن مبادئ مراعاة الضرورة هي المظلة الشرعية لكثير من قضايا التطبيب والعلاج، ليس للأفعال وحدها!، بل للأشياء المحتاج إليها لإزالة الحالة المرضية التي يتحقق فيها شروط الاضطرار، كالتداوي ببعض المحرمات عند تعين الاستشفاء بها وعدم وجود دواء طاهر حلال يؤدي الغرض، حسب أخبار الطبيب المسلم الثقة قي تدينه وخبرته، (وذلك إذا لم يسعف تطبيق مبادئ المطهرات التي منها: انقلاب العين الأصلية واستحالة المادة إلى خصائص مادة أخرى " فحينئذ)) تسوق الضرورة إلى استعمال بعض المواد في العلاج والمداواة ولو كان محكوماً- في الأحوال الطبيعية- بتحريمها للنجاسة أو لسبب آخر من أسباب الحظر دون أن ينشأ عن ذلك المساس بمقصد أساسي من مقاصد التشريع فيباح بالضـرورة- عند بعض الفقهاء- التداوي بالمقدار الذي لا يسكر. (،2) أما المقدار الذي يسكر فتحريمه موضع اتفاق، ولو للدواء، لأنه كما يقول الأمام الشافعي، ومذهبه هو الأرحب في هذه المسألة:

" يمنع من أداء الفرائض ويؤدي إلى فعل المحرمات ". ومستند اتفاق الفقهاء على تحريم التداوي بما يسكر هو قول النبي  r عن الخمر مخاطباً من كان يصفها للدواء: إنها ليست بدواء. أما المشمول بحكم الضرورة فهو المقدار الذي لا يسكر، والمعروف أن ما يستعمل في الأدوية من المواد القابلة للاسكار هي مقادير قليلة وفي أوقات متباعدة. 

ومع هذا يحسن بالمسلم الخروج من مواطن الخلاف والحرص على الالتزام بالجادة في أمور الدين، ومثل هذا الموقف إذا اتخذ طابعاً جماعياً يجعل المعنيين بصناعة الدواء يذعنون لمراعاته تحت وطأة المصالح الاقتصادية بعد أن أهدروا مصلحة الدين وحفظ العاقل..

وقبل مغادرة الكلام عن هذا المبدأ الهام لا بد من الإشارة إلى إشكال قديم أثير بشأن اعتبار (المرض) حالة ضرورة مسوغة للمحظور على قدم المساواة مهم حال (المخمصة) من حيث إن هذه إن لم يتناول فيها الغذاء المحظور أدى ذلك الامتناع إلى التلف يقيناً، لما سن الله من السنن الكونية بزوال الجوع عند تناول الغذاء. أما الدواء المتناول فقد يحصل مع الشفاء أو لا يحصل فانتفى عنصر اليقين.. (25) وقد جاء جواب هذا الإشكال على لسان الإمام السرخسي بأن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة ويقيناً يكتفي فيه بغالب الظن.. (26) ولا شك أن الظن يقوى بما بلغته طرق التشخيص والعلاج من شأن رفيع بسبب التطور الزمني واكتشاف كثير من الوسائل الآخذة من اليقين يحظ كبير، بدءا بالمجهر، ومروراً بالتخطيط والأشعة، إلى ما يكشف عنه العلم من جديد كل يوم..

(رابعاً) حق الغير وال!أن فيه

إن من المبادئ المنظمة للتصرفات مبدأ (الحق) لاسيما إن كان للعباد أو في ملكهم، وهو شديد الصلة بمبدأ (الإذن)، وكل من الحق، والإذن إما أن يرجع إلى الشارع (حق الله) و (الإذن الشرعي) أو إلى الإنسان (حق العبد) و( إذن المالك)، وإن للحقوق تقسيمات وأنواعاً ليس من المناسب التوسع فيها بمجال كهذا. (27) ولاسيما أنها موضوع مشترك بين المعاملات المالية والتصرفات الجنائية، وإن ذلك يجر إلى الكلام عن المسئولية) وهو جانب عولج على حدة لاتصاله بأمور أخرى غير الحق والاذن، كالقصد وطبيعة الفعل والخبرة...

على أن من المفيد لتنويع المبادئ المنوه بها الإشارة إلى أن منها: ا لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير  بلا إذن):

وبدن الإنسان ملك لله عر وجل وفيه مع ذلك حق للعبد نفسه، فهو مما يجتمع فيه الحقان (حق الله وحق العبد) (28) وهذا من حكمة التشريع فهذا الإجماع للحقين مما يستظهر به على صيانة محل الحق بدلاً من سهولة سقوطه أو إسقاطه ما لم يتوافر اجتماع إذن الشارع مع إذن المالك. وإذن الشارع منه المنصوص عليه في صورة أحكام شرعية، ومنه المنوط بالولاية العامة التي تقود قاعدتها:

(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة):

على أن إذن الشارع سواء كان بالأحكام المنصوصة أو بالقواعد العامة هو المرجع في حال القصور أو العجز عن إصدار الإذن ممن كان الأصل أن يملكه ولهذا كان إلى جانب الولاية العامة: الولاية الخاصة والوصاية والقوامة.
أما إذن المالك فهو بإطلاق التصرف ابتداء أو إجازته بعد وقوعه.

ومما يتصل بهذا المبدأ ما أبداه العلامة القرافي من فرق في الأثر، بين الإذن من صاحب الشرع (وهو لا الغالب عام) وبين الإذن من قبل المالك (وهو من الإذن الخاص) بأن إذن المالك يسقط الضمان، أما إذن الشارع فالأصل فيه إسقاط التبعة الأخروية والعقوبة دون الضمان (المسئولية المدنية) وهذا تفضل من الله على عباده حيث جعل ما هو حق لهم لا يصح الإبراء فيه إلا برضاهم وإسقاطهم ضما نه. (29) وهذا الفرق تدل عليه القاعدة العامة:

(الاضطرار لا يبطل حق الغير):

وهو مطرد حيث يكون هناك قيود للإذن الشرعي، أما إذا كان الإذن من صاحب الشرع- أي الجواز- مطلقاً عن أي قيد (ومثاله مما هنا الإجراء الطبي حسب المعتاد إذا أدى لتلف غير مقدور على التحرز منه) فان المبدأ المستحق التطبيق هنا أن:

(الجواز الشرعي ينافي الضمان):

وهو كما حققه الشراح  لهذه القاعدة: الجواز الشرعي المطلق عن أي قيد (عدا عدم التقصير والتعدي) ومثاله: أن يكون التصرف الطبي لم يلحظ فيه القيود الشرعية العامة كحفظ حق الغير (بحصول الإذن) أو التحرز من مضاعفات يمكن التوخي منها لأن تجويز الشرع لهذه التصرفات مقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه..(30)

ومن تمام القول في الحق والإذن تصريح العلماء كالعز بن عبد السلام والقرافي إن ما هو حق خالص لله تعالى، أو فيه حق له وحق العباد لا يتمكن العباد من إسقاط-حق الله في الحالين بل ذلك يرجع إلى صاحب الشرع. (31) وينوب عن إذن المالك إذن غيره من الأولياء، ومنهم أولو الأمر، في حال الاضطرار إذا ما فقد صاحب الحق مقدرة التصرف المعتبر.

(خامساً) التعاون والنفع والإيثار

من المبادىء المقررة أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن. وبدن الإنسان ملك الله عز وجل، وفيه مع ذلك حق للإنسان نفسه، فهو مما يجتمع فيه الحقان: حق الله، وحق العبد، وهذا من حكمة التشريع حيث إن اجتماع الحقين يستظهر به على صيانة المحل الذي اجتمعا فيه.. فلا يسهل إسقاط الحق ما لم يتوافر إذن الشارع مع إذن الإنسان.. وإذن الشارع حاصل في حال الضرورة وحال غلبة المصلحة، أو درء المفسدة. فإذا وقع هذا الإسقاط والتنازل على سبيل الإيثار وبذل المعروف من الشخص لغيره فهو أمر مشروع مرغوب، ذلك لأن الحض على التعاون والإحسان وفعل الخير مما تواردت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية المعروفة، ونفع الناس من الرغائب المشروعة المحمودة إلا فيما نهى الشارع عنه، والنهي إما لمحظور يتصل بالفعل النافع لضرر ديني عام أو لأن النفع يقابله ضرر أكبر الباذله، 321) على ما سبق في مباديء إزالة الضرر ومراعاة الضرورة.. فإذا خلا الفعل النافع للغير من ذلك وكان الضرر الذي يرفع عن الآخرين أشد من الضرر اللاحق بالمقدم على النفع فهو من الإيثار على النفس ولو لحقها شيء من الخصاصة أو الضرر المحتمل، أو المتوهم..

وهذه المبادئ هي المسوغ الشرعي للتطبيب القائم على تقديم الدم والأعضاء البديلة إلى المرضى التالفة أعضاؤهم مما يبذله المحسنون دون أن يؤدي ذلك إلى التهلكة المنهي عنها. ومستند ذلك مقتضى النصوص التي ألمحنا إلى كثيرتها في هذا المجال كقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (5/ 2) وقوله: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (2/ 195) وقوله (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) (22 لم 77) وقوله (ويؤثر ون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (59/ 9) ومن الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) وفي رواية (فليفعل) أخرجه مسلم قي صحيحه.

فهذه النصوص وغيرها كثير، ليست مباد 2 أخلاقية فحسب، بل هي ذات أثر تشريعي في الإباحة والترغيب إن لم يكن بالوجوب عند من يجعله أولى ما تقتضيه صيغ الأمر.. فهذا العمل من الجائز  شرعاً وهو من صنائع المعروف وأبلغ صور الإحسان و (ما على لمحسنين من سبيل) (9/ 91) وهذا كله إذا كان على سبيل التبرع، لأن المبدأ أنه: (يغتفر في التبرعات ما لا يفتقر في المعاوضات).

أما إن كان ذلك على سبيل المعاوضة نظير بدل، فانه تصرف يثير كثيراً من الحرج والشبهة بالحرام، جرياً على أن أجزاء الآدمي ليس لها مالك إلا الله تعالى فليست مما يباع ويشتري. وقد بلغ التحرز ببعض الفقهاء أن يفسروا بيع لبن المراضع بأنه استئجار لشخص الظئر (المرضع) والانتفاع بلبنها أمر تبعي مع أنه مما فصلت في شرعيته النصوص الصريحة رعاية لضرورة حفظ الأنفس، وما اللبن هنا إلا  أجزاء مبانة بصورة طبيعية عن بدن المرضع ولا نفع مقصود لجسدها منه، فكأنه مما استودعها الله إياه لنفع الرضعاء..

ولا يتنافى مع حظر المعاوضة عن هذا البذل أن يقبل الباذل ما يكافأ به من غير مشارطة ولا مواطأة لقوله تعالى: ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) وما روي عنه (r):- بالرغم من ضعفه- (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له) فهو مما تشهد له قواعد الشريعة العامة.

كما يملك أولو الأمر تخصيص مكافآت تشجيعية لا مشارطة فيها ولا التزام للترغيب في هذا اللون من الإحسان وفعل الخير أو المعونة على تعميم آثاره على الجسم، لتشجيعهم على أشباه ذلك من الأعمال المندوبة أو الواجبة لكونها من الطاعات المفروضة أو مما ينبغي إحتساب الأجر فيه...

وأخيراً، ليست هذه المبادئ كل ما يتصل بموضوعنا، وهي أيضاً لا يقتصر تطبيقها عليه بل هي أهم مجالات استثمارها والاستنارة بها في تكوين الإلمام بمنحى الشريعة في هذه الأمور عن طريق وسط بين تلقي الفروع المجردة، أو التوسع غير الميسور في غمار الأدلة،ومقتضاها و (كل ميسر لما خلق له) وإتقان العلوم والمعارض والحرف والصناعات كلها مما فرضه الله على جماعة المسلمين بإزاء ما عم بفرضية كل مسلم من طلب العلم بما تقتضيه حاله وتمس إليه حاجته في حياته ومهنته بعد الفرائض العينية المعروفة..

ا لهوا مش

ا- زاد المعاد في هدي خير العباد- وفيه الطب النبوي- لابن القيم 3/ 111
2- قال اللة تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) (2/ 10)
3- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام 1/ 154 وما بعدها.
4- القواعد، للعز بن عبد السلام 1/ 93 وما بعدها.
5- المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى احمد الزرقاء2/ 945 ف/ 560
6- الفروق، للإمام القرافي 1/ 3 طبع دار المعرفة.
7- نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار، للشوكاني 8/ 110 وإرشاد الفحول، له أيضاً 285.
9- رفع الحرج، رسالة دكتوراه، للدكتور يعقوب عبد الوهاب الباحسين ص 550
10- الفروق للقرافي 3/ 96.
11- أخرجه مالك وابن ماجه والدارقطني.
12- أخرجه البخاري ومسلم.
13- الأشباه والنظائر، للسيوطي 95- 97 والأشباه والنظائر لابن نجيم 07 1- 09 1
14- الموافقات، للشاطبي 2/ 168.
15- الموافقات، للشاطبي 2/ أ 16.
16- الفر وق، للقرافي 3/ 96
17- القواعد، للعز بن عبد السلام 2/ 5 وأصول السرخسي 2/ 258
18- أخرجه الحاكم والدارقطني والطبراني ورجاله ثقات (فيض القدير 2/ 267).
19- الأشباه والنظائر، للسيوطي 1/ 92- 93
20- الموافقات للشاطبي 2/ 153
21- ا لموا فقات، للشاطبي 2/ 123
22- المدخل الفقهي العام، للزرقاء الفقرة 650 رفع االرج للدكتور الباحسين 540.
23- يتضح الفرق الجوهري بيرة كل من (الضرورة) و (الحاجة) والمراتب الأخرى الأدنى درجة، من عبارة للإمام الزركشي يقول فيها خلاصته:
 - الضرورة: بلوغ الشخص حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك.
 - - الحاجة؟ بلوغه حداً لا يهلك بعدم تناول الممنوع لكنه يصير لا جهد ومشقة.
- المنفعة: مثل اشتهاء لحم الغنم، أو الطعام الدسم..
- الزينة: مثل اشتهاء الحلو.
- الفضول: التوسع في أكل الحرام أو الشبهة..
من مخطوط (المنثور في القواعد) للإمام الزركشي، حرف الضاد، قاعدة (الضرورة). تحقيق د. تيسير فائق، رسالة دكتوراه.
24- بحث الضرورة، من مجموعة بحوث فقهية، للدكتور عبد الكريم زيدان 170 وقد صرح ابن حزم والمهدي من الزيدية بجواز التداوي بالسكر للضرورة دون التقييد بالمقدار الذي لا يسكر. المحلى لابن حزم 1/ 175 ط (1) البحر الزخار للمهدي 4/ 351.
25- حاشية أبن عابدين 5/ 343 ط. بولاق والفتاوى الهندية 5/ 2 34 والتاج والإكليل 3/ 233
26- المبسوط، للإمام السرخسي 24/ 50
27- القواعد، للعز بن عبد السلام 1/ 29 1- 1 13
28- القواعد، للعز 1/ 133
29- الفروق، للقرافي 1/ 195.
30- شرح القواعد الكلية للمجلة، للشيخ أحمد الزرقا (مخطوط).
31- الفروق 1/ 195، القواعد للعز 1/ 129.
32- القواعد، للعز بن عبد السلام 1/ 24 وما بعدها.
ثم تقدم الدكتور ماهر حتحوت لإلقاء بحثه

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 358 مشاهدة
نشرت فى 11 مايو 2012 بواسطة tebnabawie

سالم بنموسى

tebnabawie
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,212,203