حسن البنا لم يأت بجديد !
الجملة للوهلة الأولى قد تضايق الكثيرين وفي الحقيقة, ليس هذا تقليلاً من شأن الرجل, ولكنه تجريد للأمور, فحسن البنا لم يخترع مذهباً يسمى ( الاسلام الإخواني ), الرجل فقط أتاه الله البصيرة وأدرك في وقت مبكر أن قيم الاسلام نفسها تتعرض للتشويه وأن المجتمع كله يتعرض لهجمة ثقافية شرسة يشنها المستعمر البريطاني. كان البريطانيون يسعون لمحو هوية الأمة منذ البدايات الأولى للاحتلال, وكان اللورد كرومر هو من وضع السياسة التي تسير عليها الإدارات البريطانية من بعده, في محاولة لمحو آثار الاسلام في مصر وتحويله إلى دين شعائري طقوسي, وانشاء طبقة من المشككين في الدين بعد تلقيهم التعليم في أوربا, وإذا راجعتم كلام كرومر في الاسلام لن تجدو اختلافاً يذكر بينه وبين ما يقوله اصغر غلمان العلمانية في مصر.
كان الاحتلال البريطاني يسعى لترسيخ وجوده في مصر, ولتحقيق هذا الهدف, فلابد من فصلها نفسياً أولاً عن دولة الخلافة الكبرى ولتحقيق هذا الهدف, فلا بد من تفكيك الرابطة التي تربط المصريين بالعثمانيين وغيرهم من الشعوب الاسلامية. ولكي ينجح البريطانيون في هدفهم, فلابد أن يربوا جيلاً من الغلمان المتعلمين في أوربا, جيل يرى الاسلام ديناً لا يناسب العصر! هذا هو ما تنبه إليه حسن البنا وبدأ يحاربه بفاعلية, كان حسن البنا يدافع عن الهوية في مواجهة تلك الهجمة.
الهوية الاسلامية هي التي جعلت المصريين يحاربون الصليبيين في المنصورة تحت قيادة بيبرس, وهي التي جعلت المصريين يخرجون خلف العز بن عبد السلام لكيلا يرحل عن مصر بعد أن خرج منها غاضباً, هي هوية المصريين التي حاول نابوليون استرضاءها, في بيانه الأول بعد احتلال مصر, عندما ادعى الاسلام. وهي احدى المكونات الجينية للمصريين والتي جعلت الجمعية الوطنية التي اجتمعت لبحث الاحتلال الانجليزي لمصر بدعوة من أحمد عرابي تأمر بوقف أوامر الخديوي وعدم عزل عرابي, بعد أن افتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر ” بمروق الخديوي توفيق عن الدين ” !
هي نفسها الهوية التي خاطر بسببها سليمان الحلبي بحياته وقام بإعدام كليبر قائد قوات الاحتلال الفرنسي ولم يفكر فيما إذا كان سوريا أم مصرياً !
في الحقيقة لم يفعل حسن البنا سوى أنه احاط الهوية الاسلامية بسور منيع في محاولة لحمايتها من الهجمة الأوربية الشرسة التي ساعد فيها وجود غلمان الاحتلال من أمثال النقراشي وسعد زغلول وغيرهم, وكان هذا السور عبارة عن مصريين مؤمنين بفكرة أن الاسلام يتعرض لهجوم وأنه لابد من صد هذا الهجوم عن طريق عودة المجتمع لأخلاقه !
كانت فكرته البسيطة والتي لا تخلو من عبقرية, هي أن يجتمع معارضو التغريب الفج الذي يمارسه الاحتلال وغلمانه تحت غطاء واحد.
انظر إلى حسن البنا وهو يقود دراجته ذاهباً إلى عمله في تلك المدرسة في الاسماعيلية ولا تنظر إلى اعداد الإخوان المسلمين بل انظر إلى اعداد مؤيديهم الآن !
الفكرة ليست ديناً جديداً بل هي مخاطبة تلك القيم الموجودة بداخل معظم المصريين والمستمدة من الدين في الأساس !
ولكي تضح الفكرة جيداً وتدرك أن الأمر هو قيم عامة للمصريين وليست مذهباً جديداً, اقرأ جيداً البندين أولاً وثانياً من الوثيقة التي قدمتها المخابرات العامة لعبد الناصر للقضاء على الإخوان المسلمين :
1 ـ تبين أن تدريس التاريخ الإسلامى فى المدارس للنشء بحالته القديمة يربط السياسة بالدين فى لا شعور كثير من التلاميذ منذ الصغر ويتتابع ظهور معتنقى الأفكار الإخوانية .
2 ـ صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقى الأفكار الإخوانية، وسهولة وفجائية تحول الفئة الأولى إلى الفئة الثانية بتطرِّف أكبر .
واقرأ الآن جيداً البند خامساً من التوصيات او ما سمته المخابرات بالسياسة الوقائية :
5 ـ بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان، وهم الذين يمثلون “ الاحتياطى “ لهم وجد أن هناك حتمية طبيعية عملية لالتقاء الصنفين فى المدى الطويل، ووجد أنه من الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كالعادة باتحادهم معهم علينا
و الوثيقة منشورة في أكثر من كتاب من بينها كتاب قذائف الحق للشيخ الغزالي رحمه الله !
الإخوان المسلمون كجماعة, يمثلون فقط, النواة الصلبة المنتمية للهوية الاسلامية, وحول تلك النواة هناك موجات من مئات الآلاف يعتنقون نفس الفكر, والفكر ببساطة هو قيم المجتمع المصري المستمدة من الاسلام الذي امتزج بجينات المصريين منذ 1400 عاماً !
القيم التي تجعل شاباً يسرع لنجدة فتاة تُعاكس في الشارع, والتي تجعل مزارعاً فقيراً يقدم لك أخر طعام في منزله, القيم التي كانت تبثها خواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله. حسن البنا والإخوان المسلمون من بعده نظموا تلك الكتل المنتمية للهوية الاسلامية وانضم قليل منهم عضوياً إلى جماعة الإخوان المسلمين !
وخلال 80 عاماً من العمل الاجتماعي الناجح شابه الكثير من الأخطاء, والقصور في الرؤية أحياناً, واعترضته صدامات لا تنقطع مع النظام الملكي أولاً, ثم مع دولة العسكر, نجح الإخوان في ربط جماعتهم بشكل أكبر بالمجتمع, عبر خدمات طبية بأسعار زهيدة ورحلات وانشطة وخلافه وتحولوا من مجرد عمود فقري قيمي للمجتمع إلى عمود فقري ( قيمي – خدمي ). ومن الطبيعي عندما يُهاجم حاملو قيم المجتمع, كما يفعل الانقلاب الآن, فلا يطفو على السطح سوى نفايات عديمة الكفاءة, عديمة الأخلاق.
ومن الطبيعي والأمر كذلك, أن تفشل تلك الدولة تراكمياً وتبدأ في الانهيار, فعندما تحاول كسر عمود الخيمة, تنهار الخيمة على رأسك, وعند ضرب العمود الفقري, يصاب الجسد بالشلل, وقد هوجم الآن العمود الفقري للمجتمع متمثلاً في قيمه الحياتية اليومية, والتي تحميها تلك القشرة الصلبة المسماة الإخوان المسلمين.
وللحديث بقية ان شاء الله
ساحة النقاش