كان سبب انتشار دعوة حسن البنا, هو انه لم يأت بجديد !
ولا أقصد بهذا الإساءة للرجل, فيكفيه ما تعرض له من سباب واتهام له بالماسونية وبالعمالة للانجليز حتى بعد 66 عاماً من اغتياله.
ما فعله حسن البنا ببساطة هو تجميع لثوابت المجتمع الذي ينتمي إليه والذي كان في وقته يخوض حرباً شرسة لتغريبه وتحويله إلى مجتمع يتبنى من الحضارة الغربية, قيمها المجتمعية.
وتعالت الأصوات العلمانية يقودها رموز ما عرف فيما بعد بحزب الوفد, تدعو إلى بناء دولة على أساس قومي, وهو عين ما كانت تريده بريطانيا, فبريطانيا بذلت جهودا ضخمة لتقزيم الدولة العثمانية, التي كانت تحاربها حتى في سيناء, وبالمناسبة, شارك الجيش المصري تحت قيادته البريطانية, ببطارية مدفعية في صد الهجوم العثماني على سيناء الذي كان يهدف لاسترداد مصر من يد الاحتلال البريطاني, وانتهت المعركة بهزيمة القوات العثمانية وانتهت الحرب كلها بهزيمة الدولة العثمانية وتمزيقها وكانت إيذاناً بانهيارها والغاء الخلافة رسمياً فيما بعد.
كانت تلك هي الأجواء التي فكر فيها حسن البنا في انشاء جماعة الإخوان المسلمين. كان حسن البنا ( الذي اظهر مواهب قيادية فطرية وعبقرية تنظيمية ) ومن معه يمثلون تياراً ما يزال حاضراً بقوة في المجتمع إلى الآن, وهو تيار متصالح مع المنجزات العلمية للحضارة الغربية ولكنه يرفض اعتناق القيم المجتمعية لتلك الحضارة ويدعو ان يكون الدين أساس الأيديولوجية والفكر وإطار مؤسسات الدولة.
وفي مواجهة ذلك التيار, كان الوفد, الذي صنعت بريطانيا مجده عن طريق سعد زغلول الذي نفته بريطانيا, ثم رضيت به بعدها رئيساً للوزراء بل وفرضت احد قياداته بالدبابات على الملك فاروق فيما بعد.
ويمكن تلخيص أسباب دعوة حسن البنا في أمرين, أولهما هو السعي لاستعادة الخلافة الاسلامية والتي كان الغاؤها صدمة للمسلمين في جميع انحاء العالم الاسلامي, والثاني هو أنها كانت رد فعل تلقائي, على الهجمة العلمانية على هوية المجتمع المصري , كان حزب الوفد نتيجة للدعاية ونتيجة لظروف تاريخية تتعلق بثورة 1919, صاحب الشعبية الكاسحة قبل ظهور الإخوان المسلمين, وليس سراً أن معظم قادة حزب الوفد كانوا اصدقاء للانجليز, بداية من سعد زغلول نفسه الذي أقام حفل وداع للمندوب السامي البريطاني اللورد كرومر في فندق شبرد وكتب في مذكراته يقول أنه ( حزن حزنا ً شديدا ً لاستقالة اللورد كرومر وشعر كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هولها ), وانتهاءاً بمصطفى النحاس, الذي فرضته بريطانيا على الملك فاروق كرئيس حكومة وحاصرت قصر عابدين الملكي بالدبابات في حادثة فبراير الشهيرة سنة 1942 !
وكان انتشار دعوة الإخوان المسلمين, فقط بسبب دعوتهم للعودة للدين واصلاح المجتمع عن طريق تبني قيم المجتمع نفسه المبنية على الدين, وعودة دولة الخلافة, وكان من الطبيعي في مجتمع عاش ( ولو إسمياً تحت الخلافة ), أن يتقبل ما يدعو إليه الإخوان المسلمين بسرعة !
وكان هذا مقلقاً ولا شك للوفد ولبريطانيا من خلفه, فبالنسبة لحزب الوفد, كانت شعبية الإخوان المسلمين تهدد بسحب البساط من تحت أقدامهم, وبالنسبة لبريطانيا, كانت صحوة الفكر الإسلامي وتجديد الدعوة لعودة الخلافة, تهدد بهدم ما انجزته بريطانيا من تمزيق لدولة الخلافة العثمانية واقتسام تركتها.
واتضح صواب وجهة النظر البريطانية, فما أن أعلن عن قيام ما يسمى بدولة اسرائيل, حتى تدفق المتطوعون من الإخوان المسلمين للجهاد في فلسطين, وكان النقراشي وقتها رئيساً للوزراء, وكانت القوات الاولى للإخوان المسلمين قد وصلت فلسطين, وبدأت في تحقيق انجازات عسكرية ( التبة 86 ومعركة اسدود وامداد قوات الفالوجة المحاصرة وغيرها ), وبينما كانت القوات المصرية ( من الجيش المصري ومتطوعي الإخوان المسلمين ) على مقربة من تل أبيب قبل النقراشي قرار الهدنة, ثم فجأة اصدر قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين, بل واعتقال أعضاءها وقياداتها !!
افيدوني بالله عليكم, ما هو السبب الوجيه الذي يدفع رئيس وزراء مصر لقرار حل جماعة الإخوان ومتطوعوها يقاتلون العدو في فلسطين ؟ و الإجابة ببساطة, أن قبول الهدنة وحل الإخوان المسلمين لم يصب الا في صالح العصابات الصهيونية وبريطانيا من خلفها, ولا يمكن تفسير الأمر بأي صورة أخرى !
النقراشي هذا ( الذي يتباكى عليه العلمانيون ) هو الذي أمر بفتح النار على الطلبة في حادثة كوبري عباس الشهيرة حين كان رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية, وكان مخلصاً وفياً مطيعاً لبريطانيا, يخدم مصالحها حتى وقت حرب فلسطين.
ويُتهم الإخوان المسلمون بتبني العنف بسبب اغتيال النقراشي فيما بعد, والإخوان المسلمون من جانبهم, يسهبون في تبرير قتل النقراشي ويدافعون عن انفسهم بشدة ويقولون أن عضو جماعة الإخوان الذي اعدم الخائن النقراشي اتخذ القرار دون الرجوع لقياداته الذين كانوا معتقلين, وأنا اصدق الإخوان في ذلك, ولكن لماذا يعتبر إعدام خائن مثل النقراشي جريمة أصلاً ؟
هل يجرؤ المتباكون على قتل الخائن النقراشي, اتهام السادات بتبني العنف والإرهاب لأن السادات قتل الخائن أمين عثمان ؟
هل يجرؤ مجاهدو العلمانية والقومجية ومدعي الوطنية أن يتهموا ابراهيم الورداني الصيدلي القبطي, الذي اعدم الخائن بطرس نيروز غالي, بالإرهاب وبتبني العنف ؟
حادثة اعدام الخائن النقراشي, مثال جيد على تدليس التيارات العلمانية والقومية من جانب, ومن جانب آخر على خلل في المنظومة الإعلامية للإخوان المسلمين, فالإخوان المسلمون جنود أشداء في الحروب يحاربون عن عقيدة, وائمة ودعاة أفاضل, ولكنهم لا يحسنون الدفاع عن انفسهم !
وللحديث بقية ان شاء الله
ساحة النقاش