بقلم : أحمد أبو رتيمة
تأملوا معي هذا المشهد الرائع من سورة النساء الممتد من الآية 105 إلى الآية 113
يقول الله تعالى {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } النساء 112
ربما يكون مفاجئاً للبعض بأن البرئ الذي تذكره الآية وكان سبباً في نزول هذه الآيات، هو يهودي كان يسكن في المدينة واتهم بالسرقة، فغار الله في سمائه وأبى إلا أن يحق الحق، فأنزل نحواً من عشر آيات بينات انتصاراً ليهودي، وماذا يعني أن يكون يهودياً، يعني ذلك أنه يكذب بالقرآن، القرآن ينتصر لمن لا يؤمن به أصلاً ويعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على تصديقه لمن اتهمه “ولا تكن للخائنين خصيماً”
إن القرآن لم يصمت ولم يواري ويداري، ولم ينزل جبريل لينبه النبي في السر بأن اليهودي مظلوم، بل نزلت الآيات على الملأ تتلى إلى يوم الدين بأن اليهودي المكذب بالقرآن على حق.
إن هذا المشهد القرآني هو شهادة لدين الإسلام، فهو ليس عنصرياً ولا فئوياً بل هو رحمة للعالمين، وهو مبدأ إنساني عام لا يقدم أي اعتبار سياسي أو مصلحة فئوية على إقامة العدل.
لكن العدالة في القرآن لا تقف عند هذه الآيات، بل تمتد لتكون سمةً مميزةً له في جميع آياته وأحكامه، هذه العدالة لا تتأثر بخصومة وعداوة، فتجده منصفاً حتى مع الأمم التي أساءت إلى الله، ومن ذلك اليهود الذين قالوا في حق الله جل في علاه قولاً عظيماً، ومع ذلك ظل القرآن منصفاً لهم مبتعداً عن لغة التعميم فقال عنهم: ليسوا سواءً، وقال: منهم المؤمنون، وقال: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون..
بينما في واقعنا البشري إن اختصم أحدهم مع شخص من إحدى العائلات، ثم سئل عن تلك العائلة لقال: كلهم سيئون، إياك والتعامل مع أحد منهم، ونفس أسلوب إصدار الأحكام العامة نجده في التعامل مع الشعوب والأمم الأخرى وحتى مع الأحزاب السياسية حين تختلف مع بعضها فالحزب الآخر أفراده كلهم عملاء أو خونة وكل حزب بما لديهم فرحون.
التعميم فيه مجانبة للعدل، فليس من العدل أن نطلق صفةً عامةً على أمة أو شعب أو حزب أو عائلة، ولكن أسلوب التبعيض كما علمنا القرآن فمنهم ومنهم وهم ليسوا سواءً.
حتى في التعامل مع الفرد الواحد ينبغي أن نتحرر من النظرة الثنائية، فلا نتعامل مع الناس بأنهم إما ملك وإما شيطان، إما مقدس وإما دنس ولكن العدل أن نحكم على الموقف والعمل فنتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وإذا ظهر من الإنسان عمل سئ فهذا لا يعني أن نقطع أي صلة به، وأن نحكم عليه بالإعدام المعنوي وأنه لن يفعل في حياته خيراً قط، ولكن نرفض عملاً ونقبل آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم تدفعه محاربة قريش له وإخراجه من بيته بأن يخرج عن شهادة العدل قيد أنملة فقال عن حلف الفضول الذي أنشئ في الجاهلية:لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت.
وكما أنه ليس من العدل شيطنة الخصم، فليس من العدل كذلك التعامل مع القريب بأنه ملاك كريم منزه عن الخطأ، فلا يعني أن يكون الإنسان موالياً أو صديقاً أو قريباً أنه معصوم وأن كل ما يصدر منه مبرر ويجب الدفاع الأعمى عنه، ونجد ذلك في هدي النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي ذر رضي الله عنه:إنك امرؤ فيك جاهلية، فكونه صحابي ومن السابقين إلى الإسلام لا يمنع انتقاده في موقف أخطأ فيه.
يخشع المرء حين يتأمل الأسلوب القرآني واتسامه بالموضوعية حتى في حديثه عن الشياطين التي هي رمز الشر فيتحدث عن تسخيرهم للعمل مع سليمان عليه السلام:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الأنبياء 82 – ”وكنا لهم حافظين” بأسلوب موضوعي دون التعريج إلى كونهم شياطين بينما إذا أراد كثير من الناس الحديث عن عدو له كال له سيلاً من السباب والشتائم له قبل أن تفهم جملةً مفيدةً تخبر عن الموضوع الذي يريد الحديث عنه ،وهذا الأسلوب الموضوعي نجده جلياً في قصة بني إسرائيل في سورة الأعراف، ففي آيتين متتابعتين يثني في الأولى على صبر بني إسرائيل على أذى فرعون، وفي الآية التي تعقبها مباشرةً يتحدث عن قولهم لموسى عليه السلام:(اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) وكم هو عظيم أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من العدل والصدق والموضوعية.
إن القرآن قد جاء برسالة العدل المطلق الذي لا يتأثر بقرابة أو عصبية أو حب أو كره، فالإنسان يقول الحق ولو على نفسه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبيرا)سورة النساء (135)
وهي درجة لا يبلغها الإنسان بسهولة بل تحتاج إلى مجاهدة وتدريب “وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم “.
هذه العدالة القرآنية هي التي دفعت الصحفية البريطانية إيفون ريدلي إلى اعتناق الإسلام بعد خروجها من أسر طالبان عام 2001 ، وحين سئلت عن سبب ذلك وهي التي كانت تعد ذلك المستحيل بعينه فقالت: لقد درست القرآن فأذهلتني العدالة المطلقة فيه..
لكن هذا التباهي بعدالة القرآن لن ينفعنا في شئ وسيكون حجةً علينا لا حجةً لنا إن لم نستفد منه في حياتنا العملية فنوطن أنفسنا أن نكون قوامين لله شهداء بالقسط، فلا نؤثر العصبية والجاهلية والحزبية على شهادة الحق، ولا يجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل اعدلوا هو أقرب للتقوى..
إن أمة الإسلام ينبغي أن تكون أمة مبادئ وإنسانية وليست أمة مصالح وأطماع وعصبية، وكل اعتبارات السياسة لا تبرر أن يظلم إنسان واحد، أو أن يسكت عن قول شهادة الحق على الملأ ولو كان فيها إدانة للذات ،وبذلك نكون قد نلنا الأهلية الأخلاقية للتمكين في الأرض ليس بالقوة والإكراه والاستعلاء على الشعوب، ولكن بالعدل والكلمة السواء.
ساحة النقاش