عالم أفكارنا المعاصر (2)
<!-- /#content-header -->د.جاسم سلطان
- أنماط التفكير
كنا قد استعرضنا في الجزء الأول من سلسلة عالم أفكارنا المعاصر أربعة عشر نمطا من أنماط الأفكار القاتلة، وتحدثنا بشكل تفصيلي عن أول ثلاث أنماط من أنماط الأفكار القاتلة، وسنكمل اليوم جزء آخر من هذه النقاط.
رابعاً: الميل للمجاراة[1] (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان)
والمقصود به تقليد الآباء والأجداد دون التفكير في مدى صواب أو خطأ ما فعلوه. ومدى حتمية اتباع منهاجهم والنسج على أسلوب تفكيرهم. فلقد قال المشركون: "قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون"![2] فيرد الله تبارك وتعالى عليهم في موضع آخر بقوله: "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"[3].
ولا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة. فهذا الإنسان الذي لا يتساءل وحسبه أن يجد الأقدمون قد اعتمدوا حلاً واختاروه فيعتمده ويختاره بدوره دون أن ينظر فيه، هذا الإنسان بطريقة تفكيره هذه لا يمكن أن يقود نهضة ولا تغييراً أو حتى مجموعة من المتحمسين المخلصين. هذا الاتباع والتقليد دون النظر وتقليب الأمور والأفكار يؤدي أيضاً إلى تكلس الحياة وتوقفها عند نقطة ما تمثل رؤية شخص يُبجَل أو يُعظَم لسبب أو لآخر، ثم بعد ذلك يتوقف التفكير تماماً ويصبح الأمر اجتراراً لكل ما جرى وما قيل.
وقد لا تكون المجاراة في التصورات فحسب؛ فقد يكرر جيل تلو جيل أعمالاً بعينها، دون أن يفكر في جدواها في لحظته الراهنة، فتصبح في نظره حلاً لكل العصور أو مفتاحاً لكل الأبواب. ولكن لعلها كانت مجدية في فترة ما ولم تعد كذلك. فللمكان حكمه، وللزمان والظرف والعوائد أحكامها وتأثيراتها. وكل من أهملها فقد ضيق واسعاً.
ونعود لنؤكد في هذا السياق بان الأماكن تتعدد وتختلف. كما يتغير الزمن والظرف المحيط حتى في نفس المكان. ولا يقف القادة المبدعون عاجزين أمام هذه التحولات. فهم سرعان ما يحدثون التغييرات اللازمة للاستجابة للزمان والمكان. وهم حين يغيرون يدركون أن عدد المحاولات للوصول لإجابة سؤال المرحلة والشكل المطلوب لمواجهتها قد لايتم اكتشافه من محاولة أو محاولتين.. فهم مشغولون – إن صح التعبير – بصناعة المفتاح الملائم لفتح الباب الذي يقف أمامهم. فهم يغيرون باستمرار في شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه.
إن المشكلة التي يواجهها العقل الإداري أحياناً تكمن في تقديس مفتاح بعينه، واعتقاد أنه صالح لكل زمان ومكان ولكل باب.. بينما كل دارس للتجارب التاريخية يعلم أن هناك عدداً من المفاتيح لا حصر له تم إبداعه من قبل القادة لمواجهة الظروف المختلفة التي أحاطت بهم.. فتنسيق الأنشطة الإنسانية للوصول إلى الهدف هو إبداع متجدد. وإيجاد أفضل أداة فعالة مسألة تحتاج إلى الكثير من التفكير والتطوير والتغيير، حتى يمكن تحقيق الأهداف والوصول للنتائج. والجمود عند شكل واحد وأسلوب واحد وخطة واحدة مهما تغيرت الظروف وحتى لو تأكدت الحركة من عقم الوسيلة عن بلوغ الهدف هو انتحار أو تقصير لا عذر لأحد فيه.
خامساً: نقل العادة
فعندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية.
ومن العبارات القاتلة التي تلخص هذه العقبة قول بعضهم: "لقد كنا دائماً نفعل هذا بنجاح" أو "كنا دائماً نحل المشكلة بهذه الطريقة".
سادساً: مقاومة التغير
فهناك نزعة عامة لمقاومة الأفكار الجديدة والحفاظ على الوضع الراهن بوسائل عديدة، خوفاً من انعكاساتها على العاملين واستقرارهم – أفراداً كانوا أو جماعات. ولذلك تستخدم بعض العبارات القاتلة للرد على الأفكار الجديدة. مثل قول بعضهم: "لن تنجح هذه الطريقة في حل المشكلة" أو "هذه الفكرة سوف تكلف كثيراً جداً" أو "لم يسبق أن فعلنا هذا من قبل" أو "لماذا نلجأ للجديد؟ ألن تكون معه مشاكل؟"[4]
ونقصد بالطبع التسرع في سرد تلك العبارات قبل دراسة الفكرة دراسة جيدة أو محاولة البناء عليها. أما أن يقرر قادة العمل أن وسيلة ما لن تنجح أو أنها سوف تكلفهم كثيراً بعد مدارسة الفكرة وتقليبها فهذا فعل محمود ولا شك.
سابعاً: عدم التوازن بين التنافس والتعاون
وهناك حاجة ماسة وملحة للمزج بين روح التنافس وروح التعاون بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وغيرها، وذلك لتحقيق إنجازات قيمة. فكثير من التنظيمات يصل التنافس المفرط بينها إلى حد الاقتتال بالألسن والأيدي. كما يصل التعاون المفرط أحياناً إلى وضع الكثير من القيود والاعتبارات عند التحرك. مما يكون سبباً في فقدان الاتصال بالمشكلة الحقيقية أو التقـدم في حلهـا. ولذلك فإن التوازن بينهمـا شرط من شـروط الإبداع والإنتاج.
[1] يقصد بالميل للمجاراة Conformity النزعة للامتثال إلى المعايير السائدة والتي تعيق استخدام جميع المدخلات الحسية، وتحد من احتمالات التخيل والتوقع، وبالتالي تضع حدوداً للتفكير الإبداعي.
[2] سورة الصافات: 74
[3] سورة البقرة: 170
[4] هذا السؤال يرد عليه الفيلسوف هيغل في تفسيره المثالي للتاريخ بقوله: "فالفكرة تولد ويولد معها نقيضها جنيناً في بطنها يكبر ويصارعها حتى تتكون من الاثنين فكرة جديدة وهكذا يتقدم العالم ويتطور حتى يصل لمرحلة الاتزان والكمال التام (إن كل فترة تنمي فكرتها الرئيسية إلى الحد الأقصى ثم تولد أضدادها أو نقائضها) . ولنضرب مثالا على هذا الكلام: ففكرة الحرية المطلقة لدى اليونان ولدت في اليونان القديمة وحملت في بطنها جنينها المناقض لها وهو الفوضى، وحين وصلت الفوضى قمتها ولدت الفكرة الجديدة وهي= =الحرية المقيدة، وخلاصتها أن الإنسان حر كشخص ولكن حدود حريته في عدم التأثير على الكيان العام للدولة والمجتمع، هذا الصراع بين المتناقضات الفكرية يؤدي إلى التطور نحو الأفضل بصورة مطردة حتى نصل للعالم المثالي الكامل من كل جوانبه.
ساحة النقاش