الدرس الجامعي بين التجلي و التخفي
التدريس عملية تواصلية بامتياز، تتداخل فيهـا كل عنـاصر التـواصل من مرســل (الأستاذ) ومرسل إليه (الطالب) وقناة تواصلية (الوسائل التقنية) ولـغة (اللغة العربية) وسياق (الحــرم الجامعي بكل مكوناته). وتظهر نتائج هذه العملية في الفعل ورد الفعـل، فإذا كـان رد فـعـل المتلقي إيجابيا اطمأن المرسل على جودة التواصل، أما إذا كان رد الفعل سلبيا فيجب البحث عن الثغرة في دائرة التواصل لتصحيح خلل ما في عنصر ما لتحفيز المرسل إليه، ليكون أكثر انتباها وأقـوى عزيمة، وإذا لم تراع العمـلية التعليمية هذه العنـاصر التواصلية كامـلة فشل الدرس أو المحاضرة وتبخرت الأهداف من العملية التعليمية، وفشلت إنجـازات المنظومة التعليمية في أي مستوى من مستويات التعليم على اعتبار أن المشرع للنظام التربوي يبني مشروعا متكاملا لتحقيق أهداف سطرت سلفا ما بين التعليم ما قبل الابتدائي إلى نهاية التعليم الجامعي، وكل تعثر في مستوى من مستويات التعليم يؤثر سلبا في تحقيق الأهداف التي سطر من أجلها المشروع التعـليمي برمته، لـذا يجب الاحتـراز من التـردد والعفـوية فـي الاختيارات الاستراتيجية داخل المسار التعليمي. لكن ليس معنى ذلـك الجمود في العملية التعـليمية، بـل لابـد من الاستعانة بالوسائـل التربوية المستجدة والمنـاهج العلمية المتطورة التي تساهم في الوصول إلى الأهداف المتوخاة ببساطة وبكلفة أقل، وبسرعة في التنفيذ، لنجنب المدرسة أو الجامعة مغادرة التلميذ أو الطالب للتحصيل العلمي مبكرا ، والتدريس باعتباره جزءا من العملية التربوية ليس عملية منفصـلة عن التجـاذب داخـل المجتمع، فالصراعات السيـاسية والإيديولوجية والطبـقية تنـعكـس إيـجابـا أو سلبـا على محوري العمـلية التعـليمية (الأستاذ والطالب) فكل منهما مزود بقناعات فكرية أو ايديولوجية أو منهجية تنعكس على ما يكتبه أو ما يحاضر به أو ما يتلقاه، فتـارة يقـع الحافر على الحافر بين الطالب والأستـاذ، وتارة يشتد الصراع بينهما لاختلاف مصادرهما المعرفية، والعملية التعليمية في نظر بعض المذاهب هي محاولة تغيير سلوك المتلقي فكرا ومنهجا وحوارا…….الخ.
ولقد مر التدريس الجامعي في العالم العربي الإسلامي بمراحل متعددة عبر القرون لم تنقطع فيها حلقات الاتصال، إذ يعد التدريس في عصر النهضة امتدادا للتدريس في جامع القرويين و الأزهر، إذ كان الشيخ في ذين الجامعين ينحاز إلى أسطـوان فـي الجامع مستقبلا القبلة يتحلق حوله مجموعة من طلاب العلم، ولا يكون الشيخ شيخا إلا بعد إجازة عالم كبير يشهد له بالعلم والمعرفة، بعـد حفظه كتـاب الله تعـالى وما يتفـرع عـنه من تفاسيــر وأسباب النـزول وإعراب آيه وفقهه و بلاغته وغريبه ودخيله وغير ذلك مــن العلــوم القــرآنية. وهذه العلوم لا يتمكن منها الطالب إلا اذا تعمق في الحديث النبوي الشريف، وحفظ المتون على اختلاف انواعها من نحو وبلاغة ومنطق وقراءات قرآنية وتفسير ……..الخ، فهذه المعرفة التي خزنتها ذاكرة الشيـخ هي التي يجـب أن تستوعبها ذاكـرة الطالـب برفق وتدرج حسب المستويات العلمية. وكانـت العلاقة بين الطالب والشيخ علاقة ود واحترام وتبجيل ، ولا يمكن للشيخ أن يخطئ لأنه مجاز وما على الطالب إلا الامتثال وتلقـي العلم، وقلما يسمح لطالـب العلم التطاول على شيـخه في العلم والمعرفة، ولقد عرضت مجموعة من المؤلفات العربية القديمة أدبيات العلاقة التربوية بين العالم والمتعلم، كرسالة ابن سحنـون القيرواني(202-256هجرية) في آداب المعلمـين، والقابسي القيرواني (-403هجرية) في الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، والغزالي(450-505هجرية) في إحياء علوم الدين، الباب الخامس في آداب المتعلم والمعلم، وأهم كتاب في المجموعة، ولعله استفاد من التجارب السابقة؛ تذكرة السامع والمتكلم في آداب العـالم والمــتعلم لابن جمـاعة الكتـاني(-733هجرية)، وقد رصد هؤلاء العلـماء في مؤلفـاتهـم مبادئ أخـلاقيـة وعلمية تؤسس للعــلاقة بين الشيـخ والطالب، ومن بين هذه الأخلاق الجيدة عدم تقديم المعرفة الزائفة التي يجهل المدرس أحيانا مصادرها؛ يقول ابن جماعة :
فشتان بين مدرس ابن جماعة وبين بعض الأساتذة في الوقت الحالي الذين لا يتنازلون عن معارفهم رغم تجاوز الزمن لها، وعدم احترام معرفة الآخر، وجهلهم تدبير حق الاختلاف ، والتراجع عن الخطأ اذا تبين الصواب ولو من طالبه. أما علاقة الشيخ بالطالب فيلخصها ابن جماعة في أربعة عشر نوعا نقتبس منها النوع الرابع فقط الذي يقول :
فهـذه الأخلاق النبيلة التي يدعو اليها ابن جماعة في العــلاقة بين الشيخ والطالب تكاد تندثر فـي الجوامع التقليدية ناهيك عنها في جامعاتنا العصرية، وما أحوجنا اليوم إلى الرجوع إلى هذه الآداب لنغربلها ونستقي منها ما يلائم عصرنا، ونسطرها دستورا تسير وفقه الجـامعات العربية .
لكن ما يلاحظ على ذين الجامعين في منهج التدريس هو اعتمادهما حفـظ المتون في شتى الفنون، وكأنها علم بدون عمل ونظر بدون تطـبيق، وتقليد بدون اجتهـاد ،ولقد قال الإمــام الشافعي ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع، ولقد أبـدى ابن خلدون رأيه في منهج الحفظ حين هاجم النحاة في عصره الذين يحفظون المتون النحوية ولا يستطيعون توظيفها في كتاباتهم وخطـبهم، لأن الملكة اللسـانـية في نظره لا تتـأتى من حـفظ القـواعد النـحوية، يقـول ابن خلدون:
ويرى ابن خلدون أن النحاة الذين التصقوا بقوانين العربية وتجردوا عن الشواهد الشعرية والأمثال العربية وعن التنبه إلـى خفايا تراكيبها لا يحصلون عـلى الملكة اللـسانية، وإنما يحصلون على صناعة العربية حفظا من المتون، فيظنون أنهم قد حصلوا على أعلى رتب لسان العرب وهم أبعد الناس عنه (4) .
إن حفظ المتون في الجوامع العتيقة او في الجامعات المعاصرة لا يساعد الطالب على التفاعل بينه وبين المدرس من جهة، وبينه وبين العلم المدروس من جهة ثانية، فتكون النتيجة إنتاج طالـب شـاحذ للحـافظة، لا طالـب مفكر متسائل باستمرار مجتـهد يسـاهم في تطـوير العلـم والمعرفة. ولا نبخس حق كثير من العلماء الذين خرجوا عن هذا التقليد، وكونوا لهم مسارا علميا متفردا، واجتهادا معرفيا عرفوا به في شتى المجالات المعرفية، ولكن الشيخ عوض أن يعلم الطالب طرق الاجتهاد والتفكير، ومنهج استنباط الأحكام، يقدم له المعارف لقمة سائغة دون نقد أو تعليق ملزما إياه بالحفظ والاستظهار.
وهذا المنهـج هو الـذي سـار عليه كثيـر من الأساتذة (الشيوخ) في محـاضراتهم فـي بعـض الجامعات العربية في عصر النهضة، إلا ان الطريقة تختلف من جامعة الى جامعة ومن أستاذ إلى أستاذ آخر. وكانت المحاضرات تطبع بطـابع جــمع المعلومات من المراجع والمصادر وتقديمها للطلاب متوازنة متـكامـلة دون نـخلها أحيانا، ودون تنبيه الطلاب إلى مرجعياتها الايديولوجية وخلفياتها الفكرية (5)، بل يعرضها عن طريق اتجاه واحد دون تنبيه الطالب الى الرأي المخالف، والآراء المتضاربة وهذا لا يتأتى إلا في المجتمع الذي يتمتع بالحرية السياسية والديمقراطية التي تنعكس على الحرية الفكرية والحرية الفردية، فتعدد الآراء يسمح للطالب أن يدلـي دلوه في هذا الصراع الفكري والتـضارب العلمي، الـذي يسمـح لـه بتكوين شخصيته في البحث العلمي، ويبرز اجتهـاده في التحصيل المعرفي، ويفتق قدراته الإبداعية ، ويزرع الثقة في نفسه، وهذه هي الطريق الصواب للتقدم العلمي .
ولكن بعد الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة، وتطور وسائل الاتصال السمعية البصرية ، وانتشار الشبكة العنـكبوتية، لم يعد الأستـاذ الباحـث المحاضر في حـاجـة ماسـة إلـى اقتناء كثير من المراجع والمصادر التي قد تملأ شقة بكاملها، مما يتطلب صيانة مستديمة للمصادر وحفظـها من الأرضة وتطهيرها بيـن الفينة والأخـرى مما لصق بها من الأتربة والجراثيم والميكروبات التي تضـر بالأستاذ البـاحث وهو مضطر يوميا لتقليب صفحات هذه الكتب لصياغة محاضرة جادة تقدم للطلاب بأسلوب منهجي، ناهيك عن قراءاته المناهج المتعددة عربية تراثية وأجنبية غربية يؤطر بها هذه المحاضرة متوخيا منها أهدافا يكون قد سطرها مسبقا قبل إلقاء المحاضرة، أقول بعد هذه الثورة التكنـولوجية لـم يعد الأستاذ المحاضر أو الطالب يضيع جهدا كبيرا ومالا وفيرا متجولا بين المـكتبات العامة والخـاصة للبحث عـن معلومة صغيرة كتاريخ حياة مؤلف أو مؤلفاته أو شيوخه…… الخ. بل يحتاج إلى حاسوب صغير قابل للحمل، ومفتاح صغير عبارة عن مكتبة متنقلة تحمل آلاف المصادر والمراجع ، بالإضافة إلى المفتاح الصغير الذي يربط الحاسوب بالشبكة العنكبوتية. بهذا الثلاثي الآلي ينتقل الطالب أو الأستاذ إلى العالم الافتراضي للمكتبات الوطنية والعالمية دون كبير مشقة ودون ترحال واقعي، ولكنه سفر افتراضي بحثا عن عالم مكتبات افتراضية يجد فيها منهله المعرفي وزاده الثقافي بكل يسر وبساطة، فالباحث أو الطالب العربي اليوم لا عذر لـه فـي المطالعة والمراجعة والبحث، والتستر وراء ضعف الإمكانات المادية لشراء كتاب والاطلاع عليه، بل سعـى العالم بوسائله التقنية إلى دمـقرطة العلم وتمكـين البـاحثين من الوصول إلى المعرفة بأقصر الطرق وبأقل كلفة، وقد يتساءل السائل، إذا توفرت هذه الوسائل للطالب للتوصل إلى المعرفة، فما وظيفة الأستاذ داخل المدرجات أو الفصول؟
إن الأستـاذ البـاحث سائـق ماهر اكتسـب خبرة كبيـرة فـي البحث، وعـرف صعـابه وعراقيله، وتعمق في مصادره ومراجعه….. فوظيفته نقل هذه الخبرة إلى الطالب الباحث المبتدئ بطرق سهلة وميسرة ،ومساعدته على الإلمام بالمناهج الدراسية، وطرق تجريب النظريات التجريدية على المعطيات اللغوية والأدبية، وهذا لا يتأتى لـطالب يخـطو أول خطواته في البحث العلمي، وإن كان ذلك في مستوى الدكتوراه ناهيك عن مستوى الإجازة والماستر، وقد تطرح على الأستاذ كثير من التحديات داخل المدرجات أو داخل الحجرات ، لأنــه ليــس أمـام طــلاب متجانسين محبين للمعرفة قصدوا الجـامعـة للاستفادة العلــمية والبيداغوجية، مهمومين بتحصيل العلم، واكتساب خبرة في البحث.
إن الطلاب أصناف وعينات وشرائح، منهم من يريد الحصول على النقطة فقط، فيستعمل كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية ليحصل على نتيجة إيجابية تؤهله للانتقال إلى مستوى أعلى في آخر السنة، ومنهم من يأتي إلى المدرج للقاء أصدقائه والحديـث معهم في قضـايا بعيدة عن الدراسة والتحصيل العلمي، ومنـهم المشـاغب الذي لا هم له إلا أن ينغص على الأستاذ محاضرته وعلى الطلاب الآخـرين اهتمامهم بالمـحاضرة، بخـلق مجـموعـة مــن الحركات البهلوانية أو طرح أسئلة هزلية تثير الضحك وتضيع على الطالب المجد تحصيل المعرفة……
يجب ألا ينهزم الأستاذ المحاضر أمام هذه الأنماط من الطلاب في إيجاد الوسائل لرد كل طالب إلى جادة الصواب سواء أكانـت وسائل تربوية أم مـواعظ أخـلاقية أم تعـنيفا لـغويا أحيانا، أم غير ذلك حسب ما يستدعيه المقام، يقول ابن جماعة عن المعلم :
ويقول أيضا :
فطبيعة الطالب هي نفسها كما تحدث عنها القابــسي وابن سحنــون والغـــزالي وابـن جماعة ، ومـازال الأستاذ المحاضر يعاني من هذه الخصال السلبية، ولـن يكون الدرس الجامعي بـالغا هـدفه إذا كـثر اللغط، وارتفعت أصوات الطلاب من هنا وهناك، وكثر الضحك داخــل المــدرج أو حجرة الدرس. وهذه المظاهر ليست غريبة عن طالب انتقل من مرحلة ثانوية إلى مرحـلة جـامعية، ويواكب هذا الانتقال تغيير كبير في حياة الطـالب الاجتمـاعية والسيـكولوجية والفضــائية والإيديولوجية. فالطالب عندما ينتقل من مرحلة ثانوية الى كلية تنتمي إلى حرم جامعي ممتد الأطراف، متـعدد الكليات والأقسام فإنما ينتقل إلى فضاء واسع جـدا لم يكـن يتصوره قبــل ،يتنسم فيه حرية اللقاء والتنقل بين الحجرات والمدرجات الغريبة عن مخيلته ،حارسه في هذا التجوال القانون المهيكل لسير الجامعة والكلية، والهاجس العلمي الذي يسكن خلد الطالب الجامعي، ولاشك أن هذا التغيير الفضائي يؤثر تأثيرا كبيرا في الطالب، وقد يكون له عامل إيجاب كما يكون له عامل سلب، فإذا استطاع الطالب أن يحفظ نفسـه من التيـه وسـط هـذا الفضاء الشاسع المتعدد التوجهات تمكن من أن يمسك بزمام العلم والمعرفة، ليتطلع الى آفاق معرفة أرحب، أما إذا تلاعبت به رياح هذا الفضاء، وانغـمس في اللـذات واللقاءات العبثية، ضاعت حياته العلمية والمعرفية، ولـن يخرج من الكلية إلا بمثل ما دخل إليها أول مرة أو أقل من ذلك .
إن انتقال الطالب إلى الوسط الجامعي الرحب ينسيه الضيق الاجتماعي الـذي عـاش فيـه في الساحة الثانوية مقيدا بمجموعة من القـوانيـن الإداريـة والبيـداغوجية القسرية، ومحاطا بمجموعة من الحراس الذين يتتبعون حركاته، ويعاقبونه عقابا تربويا عن كل خلل يصدر منه ، فالطالب في الجامعة يلتقي أنماطا متعددة من الشرائح الاجتماعية، آتية من مناطق قطرية ودولية مختلفة الإثنيـات والأعراق، إذ يلـتقي الغني والفقيـر، العـالم والجاهل، الغبي والذكـي، الملتزم والمتفسخ ……الخ . فهذه الشرائح الاجتماعية تحاول كل منها أن تجذب الطالب إلى تيارها العبثي أو الجدي، وقد ينجذب الطالب لأي منها مصارعا التيارات الأخرى بكل ما لديه من وسائل سيكولوجية ومعرفية ومادية…. الخ
وإذا كان الطالب يصارع التيارات الاجتماعية بكـل ما لـديه من قـوة فهو يصارع الرياح القوية للتيارات السياسية، فالجـامعة بؤرة للصراعات السيـاسية، ففيها الإسلامي والليبـرالي والقومي والماركسي …الخ ، وكل تيار متشعب إلى فرق فرعية يحار الذهن في متابعة أي تيار، وتتصارع في نفسية الطالب هذه الانقسامات الطبقية والصراعات السياسية، وقلما نجد طالبا منزويا في ركن بعيـــد عن هذه الصراعات التــي قد تصل أحيانا إلــى حد الــعنــف، فالإيديولوجيات ذات المرجعيات المتعددة تؤثر تأثيـرا كبيــرا في مجـال المعرفــة العلــمية وخاصة في العلوم الإنسانية، وقد يفسد هذا الصراع الاجتماعي والإيديولوجي العلاقة بين الطلاب وأساتذتهم إن لم يستطع الأستاذ أن يوظف هذا الصراع لصالح التــطور الفــكري والتنمية المعرفية، وخلاصة القول إن الدرس الجامعي في كليات الآداب على الخصوص يمتح من هذا التعدد الاجتماعي والإيديولوجي، ولا يمكن للأستاذ غالبا أن يظل بعيدا عن هذا التفاعل الفكري الذي يولد صراعا فكريا بين الأساتذة أنفسهم، بل قد نجد في بعض الجامعات سيطرة اتجاه فكري على آخر لدى الطلبة والأســــاتذة على السواء، مما يفــرز اتـجاها علـميا مسيطرا، إن لم أقل مستبدا، يمنع الحرية الفكرية، ويقبر الديمقراطية العلمية إن لم يجد مـن يتصدى له ويقرع الحجة بالحجة (7).
وعلينا نحــــن الأساتذة أن نأخـذ كــل هــذه العــــــوامل بعـــين الاعــتبار حــينما نلقي محاضراتنا أمام مجموعة من الطلاب قد تتجاوز مائة طالب أو عندما نشرف على الحوار الذي يدور بين الطلاب، وقد يقول قائل :إننا نلقي محاضرات علمية أمام الطلاب لا علاقة لـها بما قيل سابقا، إننا نتوهم أننا نلقي محاضرات مجردة عن المرجعيات المتـعددة ، فلكـل أستاذ مرجعيته الخاصة، ومراجعه المفضلة التي يقرؤها، ومصادره المتنوعة التي يختارها، ولهذا الاختيار في حد ذاته مرجعية خاصة ايديولوجيا، وإلا فما هو المعيار الذي يجعـل من هذا الكتاب مفضلا مقبـولا وآخر مرفوضا مرذولا.؟……ولا عيب في أن يـختار الأستاذ المحاضر اتجاها معينا، في إطار الديموقراطية العلمية، يدافع عنه بكل حرية وقناعة غيـر قـلق أو محرج أو مشمئز من التيارات الأخرى. فهناك المصادر القديمة والمراجع الحديثة ، والمصادر العربية والأجنبية، وقد يتماهى المصدر العربي القديم مع المرجع العربي الحديث رغم اختلاف المناهج، وأمتنا العربية الحالية وسط بين التراث العربي الضخم المليء بمرجعيات الملل والنحل، والمذاهب الدينية والفقهية والفلسفية والكلامية والمنطقية والفنون العلمية، وبين التراث الغربي الوافد بكل ماله وما عليه. فعلى الأستاذ أن يراعي هذا الزخم من المناهج والمعارف، لأنه ليس المدرس الوحيد داخل الكلية، ولكنه يتقاسم الطلبة مع مدرسين آخرين، فليكن الأستاذ وسطيا معتدلا مع طلابه لأننا أمة الوسط والاعتدال.
ولكـن هذه المبادئ لا تنسينا أن للأسـتاذ المحاضر دورا أساسـا في العمـلية التعليمية فهـو العمود الفقري للجسم التعليمي، ويستحسن أن يتحلى بمجموعة من الخصال نقترحها على الشكل التالي:
- أن تكون للأستاذ شخصية كاريزمية داخل المدرج أو قاعة الدرس التي تجعل منه أستاذا محترما أمام الطلبة جيلا بعد جيل، وكل فشل يتكبده في السنوات الأولى في مساره التعليمي يعقبه فشل متسلسل يصعب تجاوزه بسهولة.
- أن يخاطب طلابه بلغة عربية سليمة مهذبة أخلاقيا، بعيدة عن العنف اللغوي المؤدي إلى الاستهزاء بالطالب، لأن الأستاذ يعد المثل الأعلى الذي يحتذي به الطلبة، وكل عيب ينتاب لغة الأستاذ يجعل منه مهزلة السنوات والأجيال.
- أن يكون معتدلا في سلوكه لينا وقت اللين، صارما عند الحزم، أو يكون كما يقول المثل: لا تكن لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر، وأن يظل محافظا مع طلابه على شعرة معاوية.
- أن يكون حاضر البديهة في حواره مع الطلبة، أو في حـوار الطلبة بعـضهم مع بعض، يقظا للأساليب الملغومة التي يتلفظ بها الطلبة، مستحضرا ما قلناه سابقا من اخـتلاف في الشرائح الاجتماعية، وفي الانتماءات الايديولوجية، وفي تبني المناهج المعرفية وتوظيفها.
بعد ان أبرزت المستـوى المتخفي او البنى العميـقة التـي تتـحكم بشكـل جـذري فـي العملية التعليمية في الدرس الجامعي، استسمح المتلقي على المستوى المتجلي أو البناء السطحي- في أن أقدم تجربتي الجامعية المتواضعة واضعا إياها على محـك النقد والتقويم، ولنتصور أننا أمام مجموعة من الطلاب مكونة من مئة طالب في مدرج ما داخـل كلية من كلـيات الآداب. كيف نتعامل معهم في الدرس الجامعي؟ آخذين بعين الاعتبار المبادئ التالية:
- عدم اعتبار التلقين (إلقاء المحاضرة شفويا أو قراءة الكراسة) وسيلة وحيدة للتدريس في التعليم الجامعي، لأن هذه الوسيلة في غالب الأحيان لا تخلق دينامية متـفاعلة بين الطـلبة والأستاذ، وتجعل الطالب مجرد متـلق سلبي لا فـاعل مساهم في تحـريك عجـلة العـملية التعليمية.
- يستحسن أن تكون المحاضرة أداة لخلق التفاعل الإيجابي بين الطلبة والأستاذ، وبين الطلبة أنفسهم، لإبعاد ملل الاستماع أو انتظار الأمالي والمستنسخات في آخر الحصة.
- ينتظر أن تكون المحاضرة عامل تحفيز الطالب على الحوار بلغة عربية سليمة مع الأستاذ ومع زملائه الطلاب، وذريعة لخلق المنافسة العلمية والمعرفية، وإعطاء الفرصة لكل طالب أن يدلي دلوه في الحوار بطريقة او بأخرى، وتشجيعه على المبادرة في طرح الأسئلة، وإبداء الرأي بتوجيه من الأستاذ مع التقويم بوسائل تربوية لا بأدوات قمعية.
- تشجيع الطلـبة على التـواصل المستمر بين الأستـاذ والطلبة، وبيـن الطلبة مع بعـضهم بوساطة الشبكة العنكبوتية لأهداف علمية ومعرفية.
- تمكين الطالب من حب القراءة والمتابعة للمعرفة بواسطة الوسائل السمعية البصرية، وحثه على المشاركة في المـدونات الافتـراضية لإبـداء الآراء والمساهمة بمقـالات في التخصص الذي ينتمي اليه .
- خلق ورشات للتكوين العلمي، وفتح مجال للقاء الحر والطـوعي بين الطـلاب لتبادل المعارف والمراجع، وذلك بشكل مواز للمحاضرات خارج الحصص القانونية للدرس.
والمغرب منذ سنة 2003م يتبنى نظاما جديدا في التدريس الجامعي (إجازة،ماستر،دكتوراه) مبنيا على دورتين في السنة (دورة خريفية ودورة ربيعية) وكل دورة مكونة من ثلاثة فصول ، وكل فصل مكـون من أربع وحـدات، وكل وحـدة تنقسم إلى مجزوءتين، تخـصص ساعتان ونصف لكل مجزوءة، على أن تجدد محتويات المجزوءات كل أربع سنوات، ولابد لكل طالب أن يستوفي المجزوءة من حيث الزمن المقدر بأربعين ساعة موزعة على ستة عشر أسبوعا كل دورة . (8) ولتدريس مجزوءة ما لطلاب كثر، لابد من مدرج تتوفر فيه شروط التدريس الحديثة: شاشة بيضاء كبيرة، ورابط ضوئي بين الحاسوب والشاشة (9)، ومكبرات الصوت. يتـم استيفـاء المجزوءة في ستة عشر أسبوعا، أي ست عشرة حـصة دراسية فـي الـدورة، وتوزع الحصص على الشكل التالي:
تخصص الحصة الأولى للـقاء الطـلبة والتـرحيب بهم، والحـديث عن محـتوى المــجزوءة، والمحاور التي تتكون منها، وتوزع هذه المحاور وفق ما يسمح به الغلاف الزمني للدورة، مع التركيز على لائحة المراجع والمصادر وترتيبها حسب الأهمية سواء أكــانت مـتوفرة فـي مكتبة الكلية أم على خيوط الشبكة العنكبوتية عبر مواقع متعددة، والحرص على أن تكون المصادر والمراجع متنوعة في الزمان والمكان، وأن يفرض على الطلاب استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة (الحاسوب، مكبرات الصوت، المفاتيح الالكترونية ……..الخ) مستعملين اللغة العربية الفصيحة أداة للتواصل، كما يقترح على الطلاب أن يكونوا مجموعات صغيرة يرشح فيها منسق للتحاور والتشاور وتسيير جلسات الطـلاب أثـناء العـروض، ويسمح لهم باختيار المحور الدراسي الذي يمكن الاشتغال به، مع التشجيع على حـرية الابـداع ، والنـقد البناء، والإلــحاح على تقــديم أعضاء المجموعات والمحاور المكـلفـة بها، وتـاريخ إلـقاء العروض، في الحصة الموالية.
وفي الحصة الثانية (الأسبوع الثاني) يتسلم الأستاذ اللوائح التي يسطر فيها أسماء الطلبة المشاركين في المجموعة، وعنـوان العرض الذي سيلقى وتـاريخه شريـطة ألا يهمل أي محور من محاور الدورة. وبعد إشهار هذه المعلومات أمام الطلبة يلقي الأستاذ عرضا موجزا فيما يلي :
- 1)نظرية التواصل والشروط التي يجب أن تتوفر في كل عنصر من عناصرها .
- 2)قواعد الحوار التي سنها القدماء من علماء الكلام ومنظري المناظرات، وسطرها المعاصرون مثل (بول كرايس) في مقاله المنطق والحوار، لتكون هذه القواعد دليلا يستدل به الطالب أثناء عرضه ومناقشته وحواره.
- 3)طرق الاستدلال النقلية والعقلية .
في الحصة الثالثة(الأسبوع الثالث) تنطلق عروض الطلبة ويشترط فيها :
- أولا: استعمال كل الوسائل التكنولوجية المتاحة (حاسوب وبرامج وآلات عاكسة…..الخ
- ثانيا: يجب أن يكون العرض شفويا وبلغة عربية سليمة مستعينا بما يقدمه على الشاشة.
- ثالثا: الحرص على متابعة الطلاب لما يقدمه زملاؤهم العارضون مع التوجيه السليم للأستاذ لتفاعل الطالب المتلقي مع الطالب المرسل.
- رابعا: يساهم الطالب المنسق داخل المجموعة بتوزيع الأدوار بإعطائه الكلمة لكل عضو، مسايرة لخطوات العرض المنطقية، كما ينظم المناقشة والحوار في آخر العرض.
- خامسا: أثناء عروض الطلبة، يسجل الأستاذ في مذكرته أسماء الطلبة والملاحظات المرتبطة بأخطائهم المنهجية والمعرفية واللغوية….الخ مع متابعتهم واحدا واحدا بالتقويم الذي يؤدي الى تقديم نقطة على عرضه حسب الاستحقاق.
- سادسا: بعد نهاية العرض تتاح الفرصة للطلبة المتلقين في الحوار مع زملائهم مبدين ملاحظاتهم المنهجية والمعرفية، مستفسرين عما يبدو لهم من غموض في العرض مع تدخل الأستاذ كلما اقتضى الأمر، لتقويم سؤال أو توضيح جواب، أو إضافة معلومات جديدة تثري النقاش وتغني العروض.
- سابعا: تترك للطلاب العارضين حرية الإبداع في طريقة العرض على الحاسوب.
وهكذا تمضي الحصص الباقية مع الحرص على مشاركة كل الطلبة في العروض، وإجبارهم على تسلمها من زملائهم بواسطـة المفاتيح الالكـترونية(USB)، لأن الاختبار في نهاية الدورة سيشمل كل العروض الملقاة بدون استثناء.
هذه عصارة تجربة عشر سنوات من التدريس في التعليم الثانوي وثلاثين سنة من التدريس الجامعي، لا ندعي فيها الكمال والمعرفة بقدر ما نأمل فيها من تقويم لهذه التجربة، والاستفادة مما هو إيجابي، ودرء ما هو سلبي، ولكثير من أساتذتنا الفضلاء في المشرق العربي تجارب متعـددة مفيدة يمكن الاستفـادة منها، وجمعـها كـاملة في مـدونة تربوية منبـثقة مـن مجتمعنا العربي الإسلامي ذي الثروة الضخمة في التربية والتعليم، تكون دلـيلا للمـدرسين الجدد مع عدم إهمال الوسائل التكنولوجية المعاصرة التي لا غنى للطالب عنها.
(1)ابن جماعة،تذكرة السامع والمتكلم 1/22
(2) نفسه 1/26 وانظر إحياء علوم الدين للغزالي ،وظائف المرشد المعلم 1/55
(3)ابن خلدون،المقدمة ،560
(4) نفسه ،561
(5) وهذا يذكرني بطريقة العلامة السيوطي في مؤلفاته مع العلم أن هذا العلم حفظ لنا مجموعة من النصوص التي اندثرت.
(6) ابن جماعة ،تذكرة السامع والمتكلم ،ص.1/21 وانظر كذلك ابن سحنون في آداب المعلمين ص.356،357 من كتاب التربية في الإسلام .وانظر الغزالي ،إحياء علوم الدين الباب الخامس في آداب المعلمين والمتعلمين والرسالة المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين للقابسي.
(7) لنا نموذج من جامعة القاهرة ايام طه حسين حين كان الصراع دائرا بين كلية الآداب وكلية دار العلوم، والجامعات المغربية حبلى بهذا النوع من الصراع لا تسمح هذه المداخلة بعرض جزئياته.
(8) لا تسمح مثل هذه المداخلة للتفصيل في هذا النظام وهندسته البيداغوجية.
(data show (9
لائحة المصادر و المراجع
1) ابن جماعة بدر الدين أبوعبدالله ،تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ،صورة على الانترنيت .
2) ابن خلدون، المقدمة، روجعت هذه الطبعة بمعرفة لجنة من العلماء، المكتبة التجارية بمصر، د.ت
3)ابن سحنون ،آداب المعلمين ،ضمن كتاب :التربية في الإسلام لأحمد فؤاد الأهواني.
4)القابسي أبو الحسن، آداب المعلمين، ضمن كتاب التربية في الإسلام لأحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف، د.ت، مصر.
ساحة النقاش