القوة التي لا تغلب
قال الطالب لأستاذه المربي: خبرني عن أعظم قوة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، لا شك أنك تعتقد مثلي أنها قوة الصاروخ والقنبلة الذرية؟
قال الأستاذ المعلم: مهلاً أيها الفتى الطالب، لا تسألني وتعجل بالجواب قبلي.
قال الطالب: معذرة يا أستاذي، إني أريد أن أسمع منك.
قال الأستاذ: دعني أسألك سؤالاً آخر: أيهما أعظم قوة: القنبلة والصاروخ أم الذي صنع القنبلة وأطلق الصاروخ؟
قال الفتى: لا شك أن صانع القنبلة ومطلق الصاروخ أقوى منهما!!
قال الأستاذ: إذن فأنت معي، أن قوة الإنسان أعظم من كل قوة مادية في الأرض.
قال الطالب: نعم. فالإنسان هو الذي يسخر المادة لمنفعته، ويوجهها لما يريد.
قال الأستاذ المربي: فإذا وجدت قوة توجه الإنسان وتدفعه إلى الأمام، وتحفزه إلى العمل الدائب، وتقذف به كالقنبلة، أو أقوى، وتطلقه كالصاروخ، أو أشد؟
قال الطالب في عجلة: إنها لا شك تكون أعظم قوة عرفها الإنسان في هذه الأرض، فما هي هذه القوة؟ وما حقيقتها؟ لقد شوقتني إليها بحديثك عنها!!
قال الأستاذ المربي: إنها يا بني قوة الإيمان.
قال الفتى الطالب: الإيمان بأي شيء؟ فإن بعض الناس يجعلون الإيمان بأي مبدأ هو الإيمان.
قال الأستاذ: لا أنكر أن مطلق الإيمان بأي معتقد كان يعطي صاحبه قوة وصلابة، كما يظهر ذلك في الصراع بين الأفراد والجماعات، فالفرد الذي يؤمن بعقيدة ما ينتصر على الفارغ الذي لا عقيدة له، والجماعة التي ترتكز حياتها على إيمان ما - ولو لم تكن له أسس مفهومة - تنتصر في النهاية على الجماعة الخاوية من الاعتقاد. ولكن الإيمان الذي أعنيه هو الإيمان بالله واهب الحياة، وخالق الكون والإنسان. الإيمان بالجزاء والخلود في حياة باقية توفى فيها كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، الإيمان بعالم فسيح غير منظور، مليء بجند الله لا يحصى لهم عدد، إنهم الملائكة المقربون. الإيمان بالوحي الإلهي، وهو الصلة التي تربط السماء بالأرض، ومظهر هداية الخالق للخلق، الإيمان بالنماذج الإنسانية العليا، أولئك هم النبيون الذي أنزل الله عليهم وحيه، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
الإيمان بأن الكون لا يسير جزافاً ولا تمضي حوادثه بغير هدى ولا تقدير، بل كل شيء فيه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر.
الإيمان بكرامة الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض واستعمره فيها، وابتلاه بالتكليف في دار الدنيا، ليصهره ويعده للخلود في الدار الآخرة.
ذلك يا بني هو الإيمان الذي دعا إليه النبيون والمرسلون، وجاهد في سبيله الصديقون والشهداء والصالحون، وهو المعنى الفذ الذي نريده من كلمة " الإيمان " إنه الإيمان كما جاء به الإسلام . . . واسترسل الأستاذ يتحدث والطالب الفتى يصغي إليه في شوق ولهفة: هذا الإيمان يا بني، قوة دافعة موجهة: قوة تسند الضعيف أن يسقط، وتمسك القوي أن يجمح، وتعصم الغالب أن يطغى، وتمنع المغلوب أن ييأس وينهار!
قال الطالب الفتى: لكنك يا أستاذي حدثتنا من قبل أن في الإنسان قوة أخرى عاتية شديدة العتو والجبروت، تلك هي قوة الغرائز، كغريزة حب البقاء، وغريزة الشهوة الجنسية، وغريزة الغضب والمقاتلة.
قال الأستاذ الشيخ: أجل يا بني. أنا لم أنس حديثي هذا، ولا أنكر أن للغرائز البشرية سطوتها وقوتها، ولكنها بجوار الإيمان تفقد سيطرتها وتنحل عقدتها، وتنحني مطواعة لقوة الإيمان، فالإيمان هو السيد الآمر المطاع، والغرائز هي الخادمة المنقادة له، المسخرة بأمره. أتريد أن أضرب لك مثلاً من التاريخ.
قال الطالب: نعم. فقد حفظنا عنك " بالمثال يتضح المقال ".
قال الأستاذ: هل أتاك حديث سيدنا يوسف الصديق، لابد أنك سمعت قصته في سورة يوسف في القرآن الكريم. إنها قصة شاب مؤمن أخضع غريزته لإيمانه، فخلّد الله ذكره، وسجل قصته لتكون هدى ونبراساً للآخرين.
يوسف شاب في ريعان الشباب مقتبل العمر، أوتي من الشباب والجمال حظاً كبيراً، وامتلأ فتوة ونضرة ونشاطاً، وقدر القدر له أن يبتلى بالخدمة في بيت امرأة عزيز مصر، ولكن شبابه وجماله أغرى به المرأة التي هو في بيتها، فراودته عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! كان الموقف دقيقاً ولا ريب، فإن الفتنة التي عرضت ليوسف لم تكن من الفتن التي تعرض للمرء ساعة في حياته ثم تزول، إنما هي فتنة تصابحه وتماسيه، وتراوحه وتغاديه، لم تكن فتنة امرأة من بنات الليل وبائعات الهوى، بل كانت فتنة امرأة ذات منصب وجمال وحلية ومقدرة، وهي سيدة البيت، وامرأة العزيز، وهو: غلام شُرِي بثمن بخس دراهم معدودة، لا يعرف له أهل ولا بيت، مجرد خادم في بيتها، من شأنه أن يؤمر فيأتمر . . فماذا صنع الفتى يوسف أمام هذا الإغراء وأمام هذه الفتنة؟
قال الفتى الطالب لأستاذه: هذا والله يا أستاذ موقف صعب وامتحان رهيب لإيمان يوسف.
قال الأستاذ: أجل كان الامتحان عسيراً ولكنه انتهى بنجاح يوسف، كان صوت الغريزة القوي يدعوه أن يهم بها دعا المرأة أن تهم به، ولكن صوت الإيمان في ضميره كان أقوى، لقد زجرها بهذه الكلمات الواعية حين قال: ( ما عاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ) (يوسف: 23).
ولقد حاولت المرأة مرة أخرى أن تمكر به وتجبره على قبول رغبتها الآثمة أمام نسوتها قائلة: ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين ) (يوسف: 32).
وكان يوسف بين محنتين. أن يمتحن في دينه فيقع في الفاحشة والإثم المبين، أو يمتحن في دنياه وحريته فيسجن ويكون من الصاغرين.
قال الطالب في لهفة: فماذا اختار يوسف؟!..
قال الأستاذ: لقد هداه منطق الإيمان أن يؤثر سلامة دينه على سلامة دنياه. فدعا ربه كما حدثنا القرآن قائلا: ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) (يوسف: 33).
قال الطالب لأستاذه: وماذا حدث ليوسف بعد ذلك؟
قال الأستاذ: استجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، وسلم له دينه الذي حرص عليه، أما دنياه فلم تسلم، فقد سجنوه ظلماً ولبث في السجن بضع سنين. بيد أن ظلمة السجن لم تُطفئ النور الذي في قلبه، ولم تُنسه أنه مؤمن صاحب رسالة، فظل في الجن يدعو إلى توحيد الله، وينفر رفقاءه في السجن من الوثنية المخرفة، وينتهز الفرصة لذلك كلما سنحت، كما قال للفتيين اللذين سألاه في تأويل حلم أو تفسير رؤيا، فأنبأهما بعض ما علمه الله من الغيب ثم قال: ( ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف: 37، 38، 39، 40).
قال الطالب: وماذا كانت عاقبة هذا السجين المؤمن؟
قال الأستاذ: إن العاقبة يا بني دائماً للمؤمنين المتقين. هذه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً. لقد احتاج القوم إليه احتياج الجاهل إلى العالم، والمريض إلى الطبيب، والملاح التائه إلى النجم الهادي. فلم يجدوا بداً من أن يذهبوا إليه صاغرين، ويطلقوا سراحه، وهو يأبى أن يخرج من السجن إلا بعد أن تظهر براءة صفحته أولاً .. وخرج من السجن نقي الذيل، مرفوع الرأس، ناصع الجبين ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) (يوسف: 54، 55، 56).
وأصبح سجين مصر بالأمس عزيزها اليوم والمتصرف في مالياتها وتموينها إبان أزمة ومجاعة اجتاحت مصر وما جاورها من الأقطار.
وكان هذا المنصب امتحاناً آخر لإيمان يوسف، فإن الإنسان يمتحن بالنعمة كما يمتحن بالمصيبة.
قال الطالب: وكيف يمتحن بالنعمة والامتحان إنما هو ابتلاء؟
قال الأستاذ: أما سمعت قول الله عز وجل: ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) (الأنبياء: 35) إن بعض الناس قد يملك نفسه عند الشدة فيصبر ولا يجزع فإذا امتحن بالنعمة بطر واستكبر وركبه الغرور، ولكن يوسف الذي صار عزيزاً، لم يتغير عن يوسف الذي كان سجيناً.
إنه ملك الدنيا ولكنها لم تملكه. وسيطر على خزائن مصر ولكنها لم تسيطر على قلبه. لقد كان إذا وضع أمامه الطعام أكل منه لقيمات تقيم الأود ولا يشبع. فلما سئل عن ذلك قال: أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء!
ومرة أخرى ظهر إيمان يوسف الصديق حين تمكن من اخوته لأبيه أولئك الذين أرادوا أن يقتلوه ليخلو لهم وجه أبيهم. ثم ألقوه في غيابه الجب، ثم باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، وعرضوه للذل والعبودية.
لقد جاءوا مصر من فلسطين يطلبون المدد والزاد، وقدر يوسف على الانتقام منهم، ولكنه عفا وغفر وقال: ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين ) (يوسف: 92).
وبعد أن تمهدت ليوسف الوزارة والرئاسة، وقرت عينه بوصول أبويه وأخواته، تطلعت نفسه التواقة إلى ما هو أعز من الوزارة وأبقى من الملك: إلى رضوان الله تعالى، والسعادة بلقائه في دار الخلود. فتوجه إلى الله بدعائه المأثور ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ) (يوسف: 101).
ذلك يا بني نموذج من نماذج الإيمان القوي، فيه أسوة للشباب، وعبرة لأولي الألباب وحجة على الجاحدين، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
ساحة النقاش