منهج النبي في التغيير والإصلاح
أهمية وضرورة الحديث عن التغيير والإصلاحفي المرحلة الراهنة
تموج الساحة الفكرية بالحديث عن التغيير والإصلاح، من جانبتيارات شتى واتجاهاتٍ فكريةٍ متعددة، الكل يزعُم أنَّ منهجه في التغيير هو الأصوب،وأنَّ طريقته في الإصلاح هي الأقوم، فهذا يدعي أنَّ العودة إلى القيم الاشتراكيةكفيلة بتحقيق الهدف المنشود، والآخر يزعم أن التمسك بالقيم الرأسمالية والسوق الحرةهو الضمانة الأكيدة للوصول إلى الغرض المبتغى، وثالث..، ورابع..، وخامس..، الكل قدركب الموجة ويحاول استغلال الضغط الخارجي المتواصل على الأنظمة والحكومات العربيةوالإسلامية؛ لتحقيق مآربه والوصول إلى أغراضه.
وهنا لا بد للمسلم الحق من وقفة صادقة يرنو فيها ببصرهويتطلع بقلبه وفؤاده إلى منبع الأسوة الحسنة وموطن القدوة الطيبة، سيد الخلق وحبيبالحق محمد-صلى الله عليه وسلم-؛ ليتأسى بمنهجه في التغيير ويقتدي بطريقته فيالإصلاح، فإنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم ولد وبعث المصطفى- صلى الله عليهوسلم-، وإنَّ الأوضاع الفاسدة والأعراف الباطلة التي واجهها لا تختلف كثيرًا عنالأعراف والقيم التي تعيشها البشرية في الفترة الراهنة، غاية الأمر أنَّ الجاهليةالحديثة قد أخذت شكلاً مغايرًا حينما تسربلت بسربال التقدم العلمي، وتزينت بزخارفالمدنية الحديثة.
أولاً: التغيير والإصلاح في الجانبالسياسي
واجه النبي- صلى الله عليه وسلم- أوضاعًاسياسية فاسدة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي:
- فعلى المستوى المحلي: كانت السلطةفي مكة متمركزة في أيدي فئة قليلة وطغمة فاسدة، تفرض أوضاعًا، وتضع أنظمة لا تمتُللعدالة بصلةٍ، ولا مكان فيها للحرية والشورى والمساواة، بل الظلم هو الأصل،والطبقية هي القانون، ومراعاة مصالح الطغمة الحاكمة هي العرف السائد.
- وعلى المستوى الإقليمي: كان العربقبائل متنافرة متناحرة، تقوم بينهم الحروب الطاحنة الطويلة لأتفه الأسباب، وهل ننسىالحرب التي دارت رحاها بين قبيلتين عربيتين مدة أربعين عامًا بسببناقة؟!!
- وعلى المستوى الدولي: كان العالممُقسمًا بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، بل كانت أخصب وأجود أراضي العربخاضعة لنفوذ إحدى هاتين القوتين العظميين، فالأطراف الشمالية لشبه الجزيرة العربيةكانت موزعة بين دولة الحيرة في العراق وهي خاضعة للنفوذ الفارسي، ودولة الغساسنة فيالشام وهي خاضعة للنفوذ الروماني، كما أنَّ الطرف الجنوبي في اليمن كان خاضعًابدوره للنفوذ الفارسي، فكيف أصلح النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا الوضع الفاسد؟وكيف غيَّر هذا الواقع الباطل؟
كان يمكن للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يرفع راية القوميةالعربية، وأن يقدم نفسه للمجتمع العربي المتناحر المتقاتل في صورة المصلح القوميالذي جاء ليجمع شملهم ويلم شعثهم، ليس لتحرير أطراف الجزيرة من النفوذ الفارسيوالروماني فحسب، وإنما ليجعل العرب سادة الدنيا وقادة النظام العالمي، على غرار مافعله هتلر في ألمانيا على سبيل المثال.
ربما يتصور البعض أنَّ هذا كان اختيارًا سهلاً ومضموناللنبي- صلى الله عليه وسلم-، فبعد أن ينضوي العرب تحت لواء القومية الذي رفعه ويصبحزعيمهم المطاع وقائدهم المفدى يخبرهم بأنه نبي مرسل لهم من عند الله- صلى الله عليهوسلم-، وقد يرى البعض أنَّ هذا الاختيار كان أفضل من الطريق الذي سلكه النبي- صلىالله عليه وسلم- بإعلان نبوته ورسالته منذ اللحظة الأولى، الأمر الذي جرَّ عليهوعلى أصحابه الكرام كثيرًا من صنوف الأذى وألوان المحن.
ولكنه- صلى الله عليه وسلم- لم يسلك هذا الطريق، وإنماأعلنها صريحةً منذ البداية أنَّ الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة هما وحدهما طريقالإصلاح وسبيل التغيير، فقال لهم منذ اللحظة الأولى: يا أيهاالناس قولوا: لا إله إلا الله تُفلُحوا، واستمر- صلى الله عليه وسلم- يغرسالإيمانَ في القلوبِ ويزكي به النفوس ويطهر به الأفئدة، ويقيم به بعد ذلك دعائمالدولة الإسلامية الفاضلة في المدينة المطهرة.
حتى كانت الثمرة اليانعة والنتيجة الرائعة حينما انتقلالمصطفى- صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى وقد فُتحت مكة، وتوحَّد العرب،ودانت الجزيرة العربية بالإسلام، ورفرفت عليها راية الحرية والأخوة والعدالةوالمساواة، ثم انطلق أصحابه الكرام من بعده ينشرون نور الله في الأرض، فتحررت أطرافالجزيرة العربية، بل خضعت معظم ممتلكات الإمبراطوريتين الفارسية والرومانيةللإسلام، وأصبح أكثر من ثلثي مساحة الكرة الأرضية في أقل من تسعين سنة يَنعم بظلالالإسلام الوارفة، من حدود الصين شرقًا إلى التخوم الجنوبية لفرنسا غربًا، ومنالقوقاز شمالاً إلى أصقاع إفريقيا جنوبًا، في ظاهرةٍ لم تعرف لها البشرية مثيلاًعلى مدار التاريخ، ووقف ربعي بن عامر أمام القائد الفارسي ليقول له بكل ثقةٍإيمانية: أيها القائد، لقد ابتعثنا الله؛ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادةرب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدلالإسلام.
وبهذا تحقق التغيير والإصلاح على الجانب السياسي في مستوياتهالمختلفة: المحلية والإقليمية والدولية.. تغيير قائم على أساسٍ متين من الإيمانالصحيح والعقيدة السليمة في قلوب أفرادٍ ربانيين، أنشئوا مجتمعًا صالحًا إيمانيًا،ودولة فاضلة ربانية، غيَّرت وجه التاريخ وحولت دفة المسيرة الإنسانية إلى شاطئالحرية والعدالة، وبر الرخاء والمساواة.
وما من شك أنَّ الأوضاع السياسية التي يعيشها المسلمون الآنعلى المستوى المحلي والإقليمي والدولي لا تختلف كثيرًا عن الأوضاع التي واجههاالمصطفى-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام:
- فعلى المستوى المحلي: هناك أنظمةحاكمة لا تراقب ربها ولا تراعي مصالح شعوبها، وتتركز السلطة في أيدي حفنة قليلة منالمنتفعين أصحاب المصلحة في استمرار الأوضاع الفاسدة، ويشيع الظلم والفساد وتنتهكالحرمات وتُكبت الحريات، وغيرها من الأمور التي لا تخفى على مَن كان لديه أدنىمسكةٍ من عقل وأقل مرتبةٍ من الإدراك.
- وعلى المستوى الإقليمي: تفتتالأمة المسلمة إلى دويلات متناحرة وشعوب متنافرة وأنظمة متخاصمة، بأسهم بينهم شديد،يقدمون فروض الولاء والطاعة لأعدائهم في حين تكون وطأتهم شديدة على إخوانهم فيالدين.
- وعلى المستوى الدولي: يرزح العالمتحت نير القوة الغاشمة، التي تسيره وفق هواها وتنظم أموره طبقًا لمرادها ومبتغاها،وضاعت العدالة وغابت الحرية وكسفت شمس المساواة، وتحت شعار زائف من الشرعية الدوليةتُنتهك حُرمات الدول، وتنهب ثرواتها، ويخطط للقضاء المبرم على هويتها وكيانها،وبصفةٍ خاصةٍ الشعوب العربية والإسلامية.
فما أحوج الأمة المسلمة إلى التأسي بنبيها المصطفى وحبيبهاالمجتبى- صلى الله عليه وسلم- في منهجه الإصلاحي في هذا الجانب؛ لإصلاح فسادالأنظمة من ناحية، وضمان تحقيق الوحدة الشاملة من ناحية أخرى، وصولاً في النهايةإلى عودة الأمة المسلمة لتبوأ مكانتها القيادية على المستوى العالمي، لتعديل مسارالنظام الدولي والأخذ بيده إلى طريق الحرية والعدالة والمساواةوالرخاء.
ثانيًا: التغيير والإصلاح في الجانبالاقتصادي
وُلد المصطفى- صلى الله عليه وسلم- والأوضاع الاقتصادية فيغاية التردي والفساد، فالثروة مكدسة في جيوب فئةٍ قليلة العدد، ولكنها تملك كل شيء،في حين تقبع الأكثرية الكاسحة في قاع المجتمع ولا تملك من أمر نفسها شيئًا،والأعراف المستقرة والقوانين السائدة لا تسمح للفقير إلا بأن يزداد فقرًا، بينماتتيح للغني أن يضخم ثروته ويزيدها أضعافًا مضاعفة، فالربا والاحتكار والغش والظلموسيادة منطق القوة كانت جميعها من معالم النظام الاقتصادي السائد في مكة، وثرواتالعرب في أطراف جزيرتهم تصب في نهاية المطاف- بمقتضى الخضوع والذل- في خزائن الفرسأو الرومان.
وقد كان يمكن للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يشعلها ثورةإصلاحية لاسترداد حقوق الأغلبية المعدمة الكادحة من أيدي الأقلية المترفة المستبدة،ولو فعل لانضوى تحت لوائه وتجمع تحت رايته آلاف المطحونين المظلومين الذين يملك بهمأن يصل إلى سدة الحكم وكرسي الرئاسة، وساعتها يخبرهم بأنه رسول هدى ونبي منهجوشريعة.ولكنه- صلى الله عليه وسلم- لم يسلك هذا الطريق، ولم يخترالله له هذا المنهج، وإنما اختار له أن يعلن منذ البداية أنه رسول من عند الله- صلىالله عليه وسلم- يحمل منهجًا ربانيًا عظيمًا، يقوم على التوحيد الخالص والإيمانالعميق فخاطبهم منذ اللحظة الأولى: يا أيها الناس، قولوا لاإله إلا الله تفلحوا.
وبعد تربيةٍ مستمرةٍ وعمل متواصل، استقرَّ الإيمان فيالقلوب، وتغلغل في الأفئدة، وملك على الصحب الكرام أقطار نفوسهم؛ فاندفعوا طائعينمختارين راغبين، دون ضغطٍ من سلطةٍ أو إكراهٍ من قانونٍ، فحققوا العدالة الاجتماعيةوقدموا يد العون والإحسان إلى المحتاجين، بلا مَنٍّ ولا أذًى ولا جرح لمشاعر ولاكسر لخواطر.
ولعلَّ أعظم مثالٍ للتدليل على ذلك ما فعله عثمان بن عفان- رضي الله عنه- إذ جاءته قافلة تجارية ضخمة (ألف ناقة تحمل على ظهورها من النعموالخيرات ما لا قبل لإنسان بتصوره) في وقت اشتداد الكرب والمحنة والمجاعة علىالمسلمين قي خلافة عمر- رضي الله عنه-، وهرع التجار إليه للمساومة، وتحصيل أكبر قدرمن هذه الكعكة الهائلة، وطفقوا يقدمون له العروض المغرية واحدًا إثر الآخر وهو يقوللهم: عندي مَن يعطيني أكثر، حتى إذا استنفدوا جهودهم وعروضهم خاطبهم قائلاً: إنَّالله قد أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أُشهدكم أنَّ هذه القافلة كلها صدقة علىالمسلمين.
فالإصلاح الاقتصادي إذاً: لم يتحقق بقرار ملزم أو قانونقاهر، اللهم إلا قانون الإيمان العميق بالله، وقرار الاستجابة الفورية لأوامره﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِوَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال: من الآية 24)مما يدفع المؤمن دفعًا إلى تحقيق العدالة، وإذابة الفوارق بين الطبقات؛ بإعطاءالفقير والمحتاج كفايته التامة التي تضمن له الحياة الكريمة مع الحفاظ على كرامتهوعدم جرح أحاسيسه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيسَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْأَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)﴾(البقرة).
والناظر إلى الأوضاع الاقتصادية اليوم- في مستوياتهاالمختلفة: المحلية والإقليمية والدولية- يدرك بسهولة أنَّ المشهد لا يختلف كثيرًاعمَّا كان عليه الحال يوم ولد وبعث المصطفى- صلى الله عليه وسلم-:
- فعلى المستوى المحلي: تتركزالثروة في أيدي نفر قليل من أصحاب الحظوة والنفوذ، الذين يضعون من الأنظمةويُشرِّعون من القوانين ما يضمن لهم ديمومة سيطرتهم واستمرار نفوذهم، في حين تبقىالأغلبية الكاسحة في فقر مدقع وتزداد أحوالهم سوءًا يومًا بعد يوم.
- وعلى المستوى الإقليمي: تعيش شعوببعض الدول الإسلامية في ترف مستفز، وأحوال من الرفاهية الزائدة عن الحد، في الوقتالذي لا يجد فيه إخوة لهم في الدين ما يسدون به رمقهم ويبقيهم على قيدالحياة.
- وعلى المستوى الدولي: لا يمثلسكان الغرب (أوربا وأمريكا) سوى 27% من سكان العالم ولكنهم يملكون وحدهم ما يقرب من 73% من الثروة العالمية، وفي الوقت الذي تلقي فيه كثير من الدول بفائض محاصيلها فيالمحيط- حفاظًا على أسعارها في السوق الدولية- لا يجد ما يقرب من خمس سكان الكرةالأرضية كسرة خبز يقيمون بها أود حياتهم، ويسقطون صرعى الجوع والنسيان والإهمالوالظلم من الإنسان لأخيه الإنسان.
ولا إصلاحَ لهذه الأوضاع الفاسدة والأنظمة الجائرة إلابالمنهج التربوي الإيماني الفريد الذي جاء به خاتم الرسل وسيد الأنبياء محمد- صلىالله عليه وسلم-، ليعم الرخاء أرجاء العالم وليتم توزيع الثروة العالمية توزيعًاعادلاً.
ثالثًا: التغيير والإصلاح في الجانبالاجتماعي
يشتد التركيز على الجانب الاجتماعي عند المطالبين بالإصلاحوالتغيير، إذ هو الجانب الأبرز في الاحتياج إلى التغيير والإصلاح من ناحية، كما أنهالجانب الذي يمكن تحقيق نتائج جيدة فيه- في ظل تعسف الأنظمة الحاكمة وتعنتها فيالإصلاح السياسي- من ناحية أخرى.
ولننظر إلى الأوضاع الاجتماعية التي واجهها المصطفى- صلىالله عليه وسلم-، ونقارنها بالأوضاع الاجتماعية المعاصرة، وبالأخص منها الأوضاعالتي تعيشها المجتمعات الإسلامية، سنجد الاختلاف يسيرًا والفارقبسيطًا:
- فالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وسيادة منطق القوةوالبقاء للأقوى واضح كل الوضوح في أشعار العرب ومفاخرهم، فهذا عمرو بن كلثوم يتباهىبقبيلته فيقول:
ونشرب إنْ وردنا الماءَ صفوًا ويشربُ غيرناكدرًا وطينا
إذا بلغ الفطـامَ لنا رضيـعٌ تخـر لهالجبابرُ ساجـدينا
وهذا زهير بن أبي سلمى يعبر عن القيم والأعراف الجاهليةقائلاً:
ومَن لم يزد عن حوضه بسلاحه يُهدم ومَن لا يظلمالناسَ يُظلم
- والخمر ومعاقرتها كان لها شأن وأي شأن، إذ كانوا يعتبرونهاشارة الرجولة وأمارة الفحولة، وها هو أحدهم يوصي أولاده وهو على فراش الموت بدفنهبجوار شجرة عنب فيقول:
إذا أنا متُ فادفنوني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامي بعدموتي عروقُها
وغير خافٍ علينا موقف أبي سفيان قبل إسلامه حينما ردَّشاعرًا جاهليًا كبيرًا على أعقابه- وقد كان في طريقه لإعلان إسلامه- ولم يجد سبيلاًلصده عن الإسلام سوى مسألة الخمر هذه وتحريم الإسلام لها.
- والزنا كان أمرًا شائعًا ومقننًا ومعترفًا به في المجتمع،وحديث السيدة عائشة رضي الله عنها دليل دامغ على ذلك، فهي تتحدث عن وجود البغايااللاتي كنَّ ينصبن على بيوتهن رايات حمراء؛ أي أنَّ وجودهن في المجتمع كان أمرًاغير مستنكرٍ ولا مستغرب.
- واحتقار المرأة وامتهان كرامتها والتنقيص من قدرها كانالعرف السائد لدى كثير من قبائل العرب.. إلى غير ذلك من القيم الفاسدة والأعرافالباطلة، التي كان يمكن للمصطفى- صلى الله عليه وسلم- أن يستغلها في تأجيج نيرانثورة اجتماعية أخلاقية، وكان سيجد- بلا ريب- أناسًا أصحاب فطرة سوية ونفوس كريمةتأبى هذه الفوضى وترفض هذا الانحلال، ثم بعد أن يصل إلى هدفه ويحقق غرضه يعلن نبوتهورسالته ويقضي على تلك الفوضى الخلقية.
ولكن الله تعالى لم يختر لنبيه- صلى الله عليه وسلم- هذاالطريق للتغيير والإصلاح في الجانب الاجتماعي، وإنما كان الطريق فيه- كما فيسابقيه- طريق الإيمان العميق الذي يملك أقطار النفوس ويتغلغل في أعماق القلوب؛فينتج عنه حتمًا الالتزام الخلقي، والانضباط السلوكي:
- فلم يعد للظلم ومنطق القوة والبقاء للأقوى وجود في المجتمعالإسلامي الذي أنشأه وربَّاه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصنعه على عينيه، وصارالناس جميعًا سواسيةً كأسنانِ المشط، لا تفاضلَ ولا تمايزَ بينهمفي أصل الخلقة أولون البشرة أو اللغة، وميزان التفاضل بينهم هو الميزان الإلهي العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَاللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات)، أيها الناس، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولالأبيض على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح، ويغضب النبي- صلى الله عليهوسلم- حينما يعير أبو ذر الغفاري أخاه بلالاً الحبشي بسواد بشرته قائلاً: يا ابنالسوداء، فيقول له المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيكجاهلية، ويقول الصديق- رضي الله عنه- في أول بيانٍ له عقيب توليهالخلافة: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذالحق له.
- واندحرت الخمر وزال سلطانها على القلوب والنفوس، وسارعالمؤمنون بالاستجابة في المرحلة الأخيرة من مراحل تحريمها قائلين جميعًا: انتهيناربنا انتهينا، حينما قال لهم ربهم: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْمُنتَهُونَ﴾(المائدة: من الآية 91).
- وماعز والغامدية حينما ارتكبا جريمة الزنا، ولم يطلععليهما أحد من الخلق، أتيا بإرادتهما الحرة ورغبتهما المطلقة دون ضغطٍ أو إكراهٍ أواعتقالٍ، يطلبان من النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يطهرهما من دنس ورجس الجريمةالتي ارتكباها، ويصران- في إيمان عميق- على الإقرار والاعتراف رغم مراجعة النبي- صلى الله عبيه وسلم- لهما عدة مرات.
- كما نالت المرأة حريتها، وأعاد الإسلام لها اعتبارهاوكيانها، ونجت من الوأد والتحقير والمهانة.. ﴿يَا أَيُّهَاالنَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَمِنْهَا زَوْجَهَا﴾(النساء: من الآية 1( ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾(النساء: من الآية 25)﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾(التكوير)... إلخ.
هكذا حدث التغيير وتحقق الإصلاح؛ بالتربية الإيمانية التيأولاها النبي- صلى الله عليه وسلم- فاق عنايته وبالغ اهتمامه فأثمرت هذا الجيلالرباني الفريد الذي عدل وجه الحياة وغير مجرى التاريخ، وإنه لن يتحقق التغييروالإصلاح الاجتماعي الآن إلا بالطريقة ذاتها وبالمنهج نفسه، فالأدواء والأمراضالاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية المعاصرة- بل والمجتمع العالميككل- هي تقريبًا- العلل ذاتها التي واجهها الحبيب المصطفى- صلى الله عليهوسلم.
وختامًا: المنهج السلمي للإصلاح النبويالكريم
في كافة الجوانب السابقة لم نعثر على أي أثرٍ للعنف أو القوةفي الإصلاح والتغيير الذي أحدثه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في المجتمع المحليوالإقليمي الذي وُلد وبُعث فيه، وإنما قام منهجه الإصلاحي على الدعوة بالحكمةوالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والتركيز الشديد على الجوانب التربويةوتكوين الشخصية المؤمنة بحق الملتزمة بصدق.
وهذا ما نحب أن نؤكده بشدة ونلفت الأنظار إليه بقوة فإنَّالبعض قد ظن العنف والقتل والإتلاف هو الطريق الأقرب والسبيل الأمثل لإحداث التغييرالمنشود في المجتمعات الإسلامية، فعاثوا في الأرض فسادًا واعتدوا على الحُرماتوسفكوا الدماء، وما حادث التفجير الذي وقع مؤخرًا في حي الأزهر بالقاهرة عنَّاببعيد، وقبل ذلك بكثير كان اغتيال السادات، مرورًا بحوادث عديدة في مصر واليمنوالسعودية والكويت.. وغيرها.
والنبي- صلى الله عليه وسلم- قد نبَّه بشدةٍ على حرمة دمالمسلم وماله وعرضه، فقد قال في حجة الوداع.. فإن دماءكموأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،وحينما خاطب الكعبة قائلاً: ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ، وللمؤمنأعظم حرمة عند الله منك.
كما أنَّ غير المسلم الذي لم يثبت عليه محاربته للإسلام بأيشكل من أشكال المحاربة، أو المعاونة في حربه وتشريد المسلمين، تثبت له حرمة الدموالمال والعرض حينما يحصل على تأشيرة الدخول لبلد إسلامي، فهذه التأشيرة هي عقدالأمان الذي تحدثت عنه كتب الفقه الإسلامي، والمولى عز وجل يقول: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِيالدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواإِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُعَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْوَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْفَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)﴾ (الممتحنة)، والرسول- صلى الله عليهوسلم- يقول: من قتل قتيلاً من أهل الذمة حرَّم الله عليهالجنة، ويقول أيضًا: مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحةالجنة.
ساحة النقاش