المــوقـــع الــرســمى الـخــــاص بــ "د/ تــامر المـــــلاح"

"تكنولوجيا التعليم " الحاسب الألى " الانترنت " علوم المكتبات " العلوم التربوية " الدراسات العليا "

القابسي وَفكرُه التربَوي بَين الأصَالة والتجديد ـــ د.محمود مصطفى حلاوي

الطفل. جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عوِّد الخير وعلمِّه نشأ عليه وسعد... وإن عوِّد الشر... شقي وهلك.‏

هكذا قال الغزالي في الأحياء (3 / 72)، وهذا هو الأساس الذي بنى عليه علماء النفس والتربية والاجتماع نظم التربوية؛ فالإنسان ابن بيئته، وبقدر ما يُعطى يعطي. وهذه المقولة، وإن لم تجد تأييداً تاماً من علماء قالوا. "بالفطرة" "والعوامل الوراثية" في بناء الإنسان، النفسي والتربوي والاجتماعي، إلا أنهم لم يستطيعوا إنكار أهمية التربية والتعليم في هذا البناء الإنساني.‏

إن إعداد "المواطن الصالح"، يعدُّ هدفاً تربوياً تسعى إليه جميع النظم التربوية، باختلاف مفاهيمها ومبادئها، والأسس العقائدية التي تعتمد عليها فالجميع ينادون بهذا الهدف، ويسعون إليه، ويعملون على تحقيقه، لكن الاختلاف بين هذه النظم التربوية ينحصر في نقطتين أساسيتين هما: تعريف "المواطن الصالح"، وبعبارة أدق: تحديد مفهوم "الصلاح"، ثم الأسلوب أو الأساليب التي تعتمدها هذه الأنظمة لتحقيق هدفها.‏

ولو رجعنا إلى الفكر التربوي الأجنبي (1)، لوجدنا إن المربين الإنجليز، يرون أن "المواطن الصالح" هو ذلك (الجنتلمان) الذي تسعى التربية إلى إعداده، بينما يرى الفرنسيون (2) إن "المواطن الصالح" هو المواطن المثقف ثقافة عامة، يستطيع بها أن يكون رجل مجتمع أو رجل صالونات. أما علماء التربية الأميريكيون فيرون "المواطن الصالح"، ذلك المواطن المثقف ثقافية تقنية، تؤهله ليلعب دوراً ما في الآلة الأمريكية، أي في المجتمع التقني الأمريكي.‏

أما في المجتمعات الشيوعية، فنرى أن "المواطن الصالح" هو المواطن المؤمن بالعقيدة الشيوعية، والعامل بأحكامها (3).‏

ومهما اختلفت النظريات التربوية في العالم، فإن الفكر السياسي ـ الاجتماعي الذي يسود أي مجتمع، يطبع الفكر التربوي لهذا المجتمع بطابعه الخاص المميز (4).‏

وإذا ما وصلنا إلى علماء المسلمين، لنسألهم عن تعريف "المواطن الصالح" وجدنا أنه هو "المسلم الصالح" (5). فالتعليم في الإسلام نشأ وترعرع في أوساط الفقهاء، ولا نكاد نجد نظريات وآراء تربوية إسلامية إلا ضمن الكتابات الفقهية (6)، وها هو ذا القابسي ينهض دليلاً على ذلك، فيرى أن المسلم الصالح تحدده أربع مواصفات هي: الإيمان والإسلام والإحسان والاستقامة؛ وهي مستمدة من حديثين شريفين، أوردهما مسلم والبخاري، الأول حديث الإيمان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بارزاً للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان؛ قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك... إلى آخر الحديث.‏

والثاني حديث الاستقامة: "... قل آمنت بالله ثم استقم."‏

لذلك فالكلام على التربية الإسلامية يطول ويتشعب نظراً لطول المدة. التي دام فيها الحكم الإسلامي، ونظراً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية أيضاً. لذا كان لابد لنا قبل التطرق إلى موضوع البحث من الإشارة إلى النقاط التالية:‏

أولاً: بما أن التربية، حسب تعريف العلماء، هي عملية تعديل السلوك، والتعليم هو إكساب المعرفة، أو تهيئة الظروف المناسبة لاكتساب المعرفة (7)؛ وبما أن التربية التي نعنيها هنا تهتم بالإنسان مباشرة (، لذا، نرى لزاماً علينا تجنب استخدام عبارة التربية الإسلامية بمفهومها المطلق، على مجموعة المفاهيم والأفكار والآراء التربوية، التي برزت في العصور الإسلامية كافة. ذلك لأن هذه الأفكار التربوية التعليمية، اعتمدت على عوامل عدة أهمها: الزمان، والمكان، والبيئات الاجتماعية، والأهداف التي يرجى تحقيقها، والمذهب الفكري الذي انبثقت عنه هذه الأهداف. وهذا يعني أن أهداف التربية لدى الفلاسفة، تختلف عما هي عليه لدى المتصوفة أو لدى الباطنية، وفي بيئة الحجاز عن الشام وفارس وغيرها، وذلك من حيث مواد الدراسة، وأسلوب التدريس، والقائمون بالتدريس وغير ذلك (9).‏

كما أن التربية في العصور الإسلامية المتأخرة اختلفت عما كانت عليه في العصور الإسلامية الأولى. ولو أردنا أن نمعن في التمييز لقلنا: إن التربية في عصر الخلفاء الراشدين اختلفت عما أصبحت عليه في العصر الأموي، وكذلك عما أصبحت عليه في العصر العباسي أو العصر المملوكي. ويكفي أن نقلب صفحات كتب العلماء الذين كتبوا في التربية والتعليم بطريقة مباشرة لنتحقق مما سبق ذكره.‏

ثانياً: إننا في كلامنا هذا، سنحاول الابتعاد عن مقارنة التربية الإسلامية بالتربية الغربية، نعني بهذا إننا لن نبحث عن دعائم تربوية غربية للتربية الإسلامية لإثبات مصداقيتها، لأننا نؤمن أن لهذه التربية الإسلامية أسساً ومبادئ خاصة بها، وإن مصداقية التربية الإسلامية تكمن في اعتمادها على مصدرين رئيسيين من مصادر التشريع الإسلامي، نعني بهما: القرآن الكريم والسنَّة المطهرة.‏

ثالثاً: إن مفهوم الحداثة في التربية الغربية لا ينطوي بالضرورة على أفكار متقدمة ومتطورة، كما أن مفهوم القدم في التربية لدى المسلمين لا ينطوي بالضرورة أيضاً على أفكار متأخرة أو غير متطورة، بل إن التربية الحديثة هي حديثة زمنياً فقط، والتربية الإسلامية قديمة زمنياً فقط، فلا حداثة التربية الغربية تجعلها متطورة ومتقدمة ومفضلة، ولا قدم التربية الإسلامية يجعلها متأخرة وضعيفة ومرفوضة؛ فكم من قديم فاق حديثاً، وكم حديث تأخر عن قديم.‏

وتجدر الإشارة هنا، إننا في وقتنا الحاضر، نتعرض لمفاهيم وتيارات تربوية مختلفة، بل متناقضة أحياناً، لم تثبت صلاحيتها لكل المجتمعات، بل وأكثر من ذلك، فقد تراجعت عن بعض هذه المفاهيم التربوية مجتمعات كانت قد تبنتها سابقاً، فعلماء التربية في الولايات المتحدة الذين أيدوا ونادوا بإعطاء الحرية الكاملة والمطلقة للطفل، لكي يعمل على هواه، ويتصرف بملء إرادته وحريته، مُطلقاً لرغباته ونزعاته العنان، بدأوا يتراجعون عن هذه الأفكار، نظراً للآثار السلبية التي تركتها في المجتمع الأمريكي عامة، وفي العلاقات الإنسانية لديهم خاصة (10).‏

الأصالة في الفكر التربوي الإسلامي:‏

1 ـ المعرفة والسلوك:‏

سبق أن عرّفنا التربية بأنها عملية تعديل السلوك (11). أما أساس هذا التعديل في الإسلام، فهو المعرفة الدينية، التي لا تكون إلا مقترنة بالعمل، حيث أن اقتران المعرفة بالعمل في الإسلام، أو بشكل أدق، إن اقتران المعرفة بالعمل بمقتضاها، يعتبر ضرورة إسلامية لا يمكن تجاهلها أو التهاون فيها (12)؛ فثمرة المعرفة تظهر في سلوك الإنسان، في حياته. "فلو قرأ رجل مائة ألف مسألة عملية وتعلمها، ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل" (13).‏

ولما كانت المعرفة إسلامية، فالقول والعمل يجب أن يكونا مطابقين لشرع الله تعالى، إذ "العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة" (14).‏

وليس ذلك فحسب، بل إن العمل يجب أن يكون مبنياً على العلم، كما أن العلم بدون عمل غير مقبول في الإسلام؛ فليس العلم مطلوباً لذاته، بل للعمل بقتضاه. وقد قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً) (15). وقال أيضاً: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) (16) فالعمل ضرورة شرعية، ولا يمكن أن يكون بغير علم؛ وعليه، فإن تلازم العلم والعمل كتلازم الغاية والوسيلة، لا يستقيم أحدهما بدون ملازمته للآخر. وقد قال الغزالي في ذلك: (العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون) (17).‏

ولا يعتبر المسلم مؤمناً إلا إذا كان عمله موافقاً لاعتقاده. فالعقيدة الإسلامية ترتكز على أركان الإسلام الخمسة وصدق الإيمان يرتكز على العمل بموجبه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل).‏

وبهذا يكون الإسلام، من خلال أصوله وعلمائه، قد أكد مبدأ تربوياً رئيساً، ألا وهو تعديل السلوك الإنساني، اعتماداً على الفكر التربوي المبني على أسس عقائدية. وقد سعت معظم الأنظمة إلى ذلك، ومازالت تسعى جاهدة، لتأصيل العمل على أساس من الفكر الذي تنادي به. فالمعيار الحقيقي هو العقيدة، وبها يقاس العمل، قربه أو بعده عنها، وبالعمل وحده يقاس صدق الاعتقاد أو كذبه.‏

وإذا عدنا إلى مفهوم الاستقامة في الإسلام، والتي هي من مقومات الصلاح، ومن صفات المسلم الصالح، الذي تهدف التربية الإسلامية إلى إعداده، لرأينا إنها لا تبعد عن العمل أبداً، فهي القيام بما أمر الله، كما يقول القابسي (18).‏

ويبدو أن مفهوم العمل الذي تنبثق عنه كلمة الاستقامة، مأخوذ من قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا إنه بما تعلمون بصير( (19).‏

2 ـ التطلع إلى الماضي:‏

يعتبر التطلع إلى الماضي ظاهرة اجتماعية عامة، تبرز لدى كثير من الشعوب، قديمة كانت أو حديثة، مهما اختلفت بيئاتها وأزمنتها، وقد يصبح التطلع إلى الماضي تعلقاً به وبكل ما جاء فيه، ورفضاً للحاضر ولكل ما يظهر فيه؛ أو يكون الأمر نقيض ذلك فيرفض القديم لقدمه، ويستحسن الحاضر لحداثته. وهناك من يقف موقفاً وسطاً، فلا ينظر إلى الماضي بعين الجلالة لتقدمه، ولا إلى الحاضر بعين الاحتقار لتأخره، بل ينظر بعين العدل للماضي والحاضر، للاستفادة من أفضل ما فيهما، من علم وخير ومنفعة، فالأصالة والتحديث هما وجهان لعملة واحدة، الوجه الأول هو باطن البناء الاجتماعي، والوجه الثاني هو ظاهرة.‏

آراء القابسي في التربية والتعليم:‏

القابسي: هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي، المعروف بابن القابسي (20)، إمام في الحديث ومتونه وأسانيده وجميع ما يتعلق به؛ فقيه، شيخ المالكية، صالح تقي ورع، وكان ضريراً (21).‏

ولد سنة أربع وعشرين وثلاثماية في قابس (22)، ورحل إلى الشرق سنة اثنتين وخمسين، فحج وسمع كتاب البخاري بمكة، ثم رجع إلى القيروان سنة سبع وخمسين، وبقي فيها إلى أن تُوفي سنة ثلاث وأربعماية. صنف القابسي تصانيف فائقة في الأصول والفروغ منها: "الممهِّد في الفقه"، "والمنقذ من شُبَه التأويل" "وملخِّص الموطأ" (23) و"الرسالة المفصَّلة لا حوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين" (24) وغيره من كتب الفقه والحديث.‏

وإذا نظرنا إلى القابسي من خلال رسالته "المفصلة لا حوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين"، وجدناه صاحب رأي واجتهاد، يرفعانه إلى درجة كبار المربين، ولاسيما إذا عرفنا إنه عاش في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، وهو العصر الذي يعتبر أسوأ عصور الظلام والتأخر من الغرب.‏

ويمكننا تقسيم آراء القابسي التربوية إلى مجموعة عناصر رئيسة هي:‏

آ ـ إلزامية التعليم.‏

ب ـ المعلم.‏

ج ـ العملية التعلمية.‏

د ـ المتعلم.‏

هـ ـ الإشراف والتوجيه.‏

آ ـ إلزامية التعليم:‏

يقرر القابسي حق الطفل في التعلم، ذكراً كان أم أثنى، ويؤكد أن على ولي أمره أن يرسله إلى الكتُّاب، أكان هذا الولي والداً، أم أمَّأ، أم وصياً، أم جماعة المسلمين، أم السلطان. ويقول: "لو ظهر على أحد أنه ترك أن يعلِّم ولده القرآن تهاوناً بذلك، لجُهَّل وقُبِّح، ونقِّص حاله، ولكن قد يخلف الآباء عن ذلك، قلة ذات اليد، فيكون معذوراً حسب ما يتبين من صحة عذره.‏

وأما إن كان للولد مال، فلا يدعه أبوه أو وصيه ـ إن كان قد مات أبوه ـ وليدخل الكتَّاب، ويؤاجر المعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب، فإن لم يكن لليتيم وصي، نظر في أمره حاكم المسلمين، وسار في تعليمه سيرة أبيه أو وصيه. وإن كان ببلد لا حاكم فيه نظر له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح. وإن لم يكن لليتيم مال، فأمه أو أولياؤه الأقرب، وهم المرغمون في القيام به في تعليم القرآن، فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم فله أجره...‏

وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم، فهو حسن ومن مصالحها، وإنما تعلَّم ما يرجى لها صلاحه، ويؤمن عليها من فتنته" (25).‏

ب ـ المعلم:‏

1 ـ وظيفة المعلم:‏

لما كانت عملية التربية والتعليم في الأساس، تعتبر واجباً على الآباء تجاه أبنائهم، يقومون هم به، وكانت متطلبات الحياة قد حالت دون قيامهم بهذا الواجب، لذا كان لابد لهم من اتخاذ معلم، كما يقول القابسي؛ "يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازمهم لهم، ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مؤونة تأديبهم، ويبصِّرهم باستقامة أحوالهم، وما ينمي في الخير أفهامهم، ويبعد عن الشر ما لهم" (26).‏

2 ـ راتب المعلم:‏

إن مسؤولية تربية الأولاد وتعليمهم تقع مباشرة على عاتق الآباء، خاصة في مرحلة الطفولة، ولم يستأجر الآباء معلمين للقيام بهذا الدور في العهد الإسلامي الأول. ولكن انشغال الآباء عن القيام بهذا العمل، أما لأنهم لا يطيقونه، أو للضرورات الاجتماعية، جعلهم يتخذون لأولادهم معلماً، يختص بهم ويرعاهم. يقول القابسي: "ولما بعُد أن يوجد من الناس من يتطوع للمسلمين، فيُعلِّم لهم أولادهم، ويلازمهم لهم، ويكتفي بذلك التماس معايشه، صلُح للمسلمين من يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازمهم لهم، ويكتفي بذلك عن تشاغله بغيره، ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مؤونة تأديبهم (27).‏

ثم يضيف القابسي قائلاً: "وقد اجتمعت الروايات على أن للمعلم حصته بمقدار ما علَّم" (28). لذلك يجب أن يكافأ ويكارم إذا كان الغلام يتهجى تهجياً حسناً، ويخط خطأ جميلاً، ويكتب ما يُملى عليه، ويقرأ نظراً ما أمر بقراءته. فأما إذا لم يحسن الهجاء، ولم يحكم الخط، ولم يقرأ شيئاً نظراً، فلا يجب للمعلم في ذلك شيء، بل يجب عليه التأنيب والتعنيف (29). ويضيف القابسي قائلاً: "فإن اعتذر ببله الصبي، واختُبر فوجد لذلك لا يحفظ ما علِّم، ولا يضبط ما فُهِّم، فلم يحصل لهذا المعلم إلا إجارة حوزه وتأديبه، لا إجارة التعليم" (30).‏

أما كيفية دفع أجرة المعلم، وهي ما يعرف اليوم بالأقساط، فقد ترك القابسي أمرها للاتفاق المعقود بين المعلم وولي أمر الصبي، ما دامت هذه العملية خاضعة لشروط يتفق عليها الطرفان. لذا قال القابسي: "لا بأس أن يقدم الرجل إلى معلم الكتَّاب حقه قبل أن يدخل الصبي؛ ولا بأس أن يستأجر الرجل المعلم على أن يعلم القرآن بأجر معلوم، إلى أجل معلوم، أو كل شهر؛ ولا بأس في إجارة المعلمين سنة بسنة" (31).‏

3 ـ تفرغ المعلم للتعليم:‏

يرى القابسي أن اشتغال المعلم بتعليم الصبيان ورعايتهم، يقتضي منه تفرغاً كاملاً لهم، بحيث لا ينشغل عنهم بأمور أخرى، خاصة وهو يقوم بتدريسهم؛ كما لا يجوز التشاغل عنهم ولو عرّض لهم ما أضاعه من وقت أثناء انشغاله، حتى ولو كان ذلك لحضور جنازة، أو عيادة مريض. أما إذا مرض المعلم، فعليه أن يستأجر معلماً آخر يحل محله أثناء مرضه، على أن يكون بمثل مقدرته في رعاية الصبيان.‏

ويقول القابسي في ذلك: "ولا يجوز للمعلم أن يشتغل عن الصبيان إلا أن يكونوا في وقت لا يَعرِضهم فيه، فلا بأس أن يتحدث، وهو في ذلك ينظر إليهم ويتفقدهم. وليلزم المعلم الاجتهاد، وليتفرغ لهم...‏

ولا يجوز له الصلاة على الجنائز، إلا ما لابد له منه، لأنه أجير، لا يدع عمله ويتبع الجنائز وعيادة المرضى. قيل: فهل ترى يكتب العلم له أو للناس؟ فقال: أما في وقت فراغه من الصبيان، فلا بأس، وأما ما داموا حوله، فلا أراه يجوز له ذلك.‏

وكذلك إذا مرض أو كان عليه شغل، فهو يستأجر لهم من يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك، فإن طالت فلآباء الصبيان نظر ومُتكلِّم.‏

وكذلك أن هو سافر، فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفراً لابد منه، قريباً اليوم واليومين وما أشبههما، فيستخف ذلك إن شاء الله وليس له أن يعتاد التشاغل، حتى يلجئه إلى العوض، لأن ذلك يضر بالصبيان (32).‏

4 ـ تعاون المعلمين في التعليم:‏

قد يجتمع في الكتَّاب عدد كبير من الصبيان، لا يستطيع معلم واحد أن يقوم برعايتهم وتعليمهم؛ أو قد يحتاج المعلم إلى معلم آخر يساعد في تدريس بعض المواد التي لا يجدها هو. وقد رأى القابسي جواز ذلك، تحقيقاً لفائدة الصبيان، وحرصاً على مصلحتهم.‏

لكن تعاون أكثر من معلم في كتَّاب واحد، قد يولد مشكلة اختلاف أو مساواة الأجر بين المعلمين؛ وتجنباً لهذه المشكلة، نرى القابس يقرر مساواة الإجارة بين المعلمين، إذا تساووا في العلم، أما إذا اختلفوا في ذلك، فتكون الإجارة متفاضلة على قدر علم كل واحد منهم.‏

يقول أبو الحسن القابسي: "وأما شركة المعلمين والثلاثة والأربعة فهي جائزة، إلا إذا كانوا في مكان واحد، وإن كان بعضهم أجود تعليماً من بعض، لأن لهم في ذلك ترافقاً وتعاوناً، ويمرض بعضهم، فيكون السالم مكانه حتى يفيق المريض. وإذا لم يكن بين المعلمين شيء من الاختلاف، فهذا لا يوجب التفاضل بين أجرتيهما إذا اشتركا، وتكون الإجارة بينهما على قدر علم كل واحد منهما" (33).‏

جـ ـ العملية التعليمية:‏

1 ـ مواد التدريس:‏

ترتبط مواد التدريس ارتباطاً مباشراً بثقافة العصر ومتطلباته، كما ترتبط بقدرة الصبي على الفهم والاستيعاب.‏

ثم إن هدف التربية هو نقطة الارتكاز في العملية التربوية، وعلى ضوئه بتم تقرير المواد الدراسية (34).‏

ولما كانت التربية الإسلامية تهدف، كما سبقت الإشارة، إلى إعداد المسلم الصالح، كان لابد للصبي من تعلم قراءة القرآن، نظراً أو استظهاراً، كما يتعلم الكتابة والإملاء. وليس هذا فحسب، بل يضاف إلى ما سبق، تعلم بعض العلوم الأخرى، التي تنفع الصبي وتعينه على الفهم.‏

وقد ذكر القابسي بعض هذه العلوم قائلاً: "وينبغي للمعلم أن يعلمهم (الصبيان) الحساب، ... والغريب والعربية، وجميع النحو... ولا بأس أن يعلمهم الشعر، مما لا يكون فيه فحش، ومن كلام العرب وأخبارهم" (35).‏

كذلك نرى القابسي عندما يجيز تعليم الفتاة يقول: "وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم، فهو حسن ومن مصالحها" (36)، دونما تحديد لهذا العلم، بل يربطه بكل ما يصلح لها في دنياها وآخرتها.‏

وهكذا يكون القابسي، قد ترك باب العلم مفتوحاً على مصراعيه، لينهل منه الصبي والفتاة، في كل زمان ومكان، ما فيه خيرهما ومصالحهما.‏

2 ـ طريقة التدريس:‏

تعتمد طريقة التدريس عند القابسي على فهم واستيعاب الصبي كل ما يتلقاه، وليس فقط على استخدام الذاكرة في حفظ القرآن غبياً.‏

ويعتمد أيضاً التدرج في التدريس، بحيث لا ينتقل الصبي من موضوع إلى آخر، إلا بعد أن يستوعبه بشكل واع. فهو يقرر أن "من الاجتهاد للصبي إلا ينقله (المعلم) من سورة، حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها" (37)، وذلك حتى ترسخ في نفسه رسوخاً كاملاً، فلا ينساها بسرعة على مر الأيام. فحفظ السُّور بإعرابها، دليل معرفة مواقع الكلَم، وارتباطها بعضها ببعض، ثم إن كتابة هذه السور بآياتها، تركز في الذاكرة شكل كل كلمة من هذه الكلمات، بحيث يسهل استرجاعها بأقل ما يمكن من الخطأ.‏

كذلك نرى القابسي لا يقرر طريقة محددة لتعليم الصبيان، بل يترك الأمر لاجتهاد المعلم، لينظر في الأسلوب الأفضل لتعليم صبيانه. فمن الممكن أن تنجح طريقة ما في تعليم الاستيعابية لهؤلاء الصبيان. لذا يقول القابسي: "وسألت هل للصبيان الصغار، أو الكبار البالغين، أن يقرأوا في سورة واحدة، جماعة على وجه التعليم؟ فإن كنت تريد أن يفعلوا ذلك عند المعلم، فينبغي أن ينظر فيما هو أصلح لتعليمهم، فليأمرهم به، ويأخذ عليهم فيه، لأن اجتماعهم في القراءة بحضرته، يخفي عنه قوي الحفظ من الضعيف، ولئن كان على الصبيان من ذلك خفة، فيخبرهم أنه سيعرض كل واحد منهم في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير.‏

وسألت عن الختمية متى تجب للمعلم، وكيف يكون حال الصبي في حفظه، وقراءته، فيستوجبها المعلم... فهي على وجهين: أحدهما أن يستظهر القرآن حفظاً من أوله إلى آخره، فهذا الذي تجب له الختمة، وتكون على قدر ما فهمه الصبي، مما علمه المعلم، مع استظهاره للقرآن، والوجه الآخر أن يكون الصبي استكمل قراءة القرآن في المصحف نظراً، لا يخفى عليه شيء من حروفه، مع ما فهمه الصبي، مما ينضاف إلى ذلك من ضبط الهجاء، والشكل وحسن الخط (38).‏

3-التقويم المستمر:‏

يعتبر الامتحان وسيلة من وسائل التأكد من حسن استيعاب الصبي للمواد الدراسية التي تلقاها أثناء الدراسة على يد معلمه(39) ولما كان القابسي قد قرر أن على المعلم ألا ينقل الصبي من سورة إلى أخرى حتى يحفظها بإعرابها وكاتبتها، فإنه ألزم المعلم بإجراء امتحان دوري أسبوعي للصبيان، وهو ما يسميه في رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين، بالتفقد والعرض، خلال وقت معلوم محدد، فيقول: وعليه (المعلم) أن يتفقدهم (الصبيان) بالتعليم والعرض، ويجعل لعرض القرآن وقتاً معلوماً، مثل عشية الأربعاء، ويوم الخميس(40).‏

د-المتعلم:‏

1-أسلوب التعامل مع الأطفال:‏

إن أسلوب التعامل مع الأطفال في المدرسة، يعتبر حجر الزاوية في علم النفس التربوي(41)، ولهذا تعمل الجامعات، ومعاهد إعداد المعلمين جاهدة، لتزويد طلابها بأكبر قدر ممكن من المعلومات والخبرات، التي تساعدهم في إنجاح عملهم؛ وكلما كانت العلاقة بين المعلم والطفل إيجابية، كلما زاد تعلق الطفل بالمدرسة والدراسة. ولا داعي لذكر أمثلة على ذلك، فكل واحد منا يصح أن يكون مثلاً صادقاً.‏

ويبين لنا أبو الحسن القابسي في رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين، آراءه واجتهاداته في أسلوب تعامل المعلمين مع الصبيان، في الكتَّاب وأثناء الرعاية لهم، فيقول: الواجب على المعلم الاجتهاد حتى يوفي ما يجب عليه للصبيان، فإن وفّى ذلك يطيب له ما يأخذه على التعليم بشرط. ونظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول (: (كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته). ومن حسن رعايته لهم، أن يكون بهم رفيقاً، وقد قال رسول الله (: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).‏

وإذا أحسن المعلم القيام، وعني بالرعاية، ووضع الأمور مواضعها، لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رفقه بهم، ولا من رحمته إياهم، فإنما هو لهم عوض آبائهم. فكونه عبوساً أبداً من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان، فيجترئون عليه... وينبغي له ألا يتبسط إليهم تبسط الاستئناس في غير تقبُّض موحش في كل الأحايين، ولا يضاحك أحداً منهم على حال، ولا يبتسم في وجهه، وإن أرضاه ولكنه لا يغضب عليه، فيوحشه إذا كان محسناً.‏

وإذا استأهل الضرب، فأعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده، لئلا يزيد رتبة فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرط، فتثاقل عن الإقبال على المعلم، وتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه، فالتنبيه مرة بعد مرة، ثم التقريع بالكلام الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب عرض؛ وإنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقي لتمكِّن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب، وليس لمعلم في ذلك شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه، وهذا ليس من العدل؛ فإن اكتسب الصبي جُرماً من أذى ولعب وهروب من الكتَّاب، وإدمان البطالة، فينبغي أن يستشير أباه أو وصية إن كان يتيماً، ويُعلمه بجرمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعليم، عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر، إذا كان الصبي يطيق ذلك. وصفة الضرب هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المضر. وليتجنب أن يضرب رأس الصبي أ, وجهه، فالضرب في الرجلين آمن، وأحمل للألم في سلامة(42). ومن حقهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم، ولا يفضل بعضهم على بعض وإن تفاضلوا في الجعل(43).‏

تتلخص آراء القابسي في أسلوب التعامل مع الأطفال بالنقاط التالية:‏

1-شعور المعلم بمسؤوليته تجاه الصبيان.‏

2-حُسن رعايتهم واعتماد الرفق والرحمة بهم أساساً للتعامل معهم.‏

3-ألا يكون المعلم عبوساً فظاً، ولا متبسطاً ضاحكاً دائماً.‏

4-ألا يغضب ولا يغتاظ.‏

5-أن يستعمل التدرج في العقاب إذا أخطأ الصبي، فيبدأ بالتنبيه ثم العزل، ثم التقريع بغير كلام موحش، ثم الضرب إذا لزم الأمر.‏

6-أن لا يتعدى الضرب حدود الألم إلى التأثير المشنع أو المضر.‏

7-أن يتشاور مع ولي أمر الصبي إذا كرر الخطأ أو أمعن فيه.‏

8-أن يعدل بين الأطفال في التعليم، ولا يفضل بعضهم على بعض.‏

كذلك نود أن نشير هنا إلى أن القابسي كان يرى ضرورة فصل الذكور عن الإناث في الكتَّاب، ويعتبر هذا الفصل من حسن الرعاية خوفاً على فساد الإناث.‏

وكأن القابسي بهذا كان يرى أن اختلاط الذكور بالإناث في مكان واحد ولمدة طويلة، وحيث يمكن أن يصل عمرهم إلى سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، يرى أن هذا الاختلاط فيه ضرر على الإناث وفساد لهن، وكأنه يريد أن يقول: أن مرحلة المراهقة تبدأ عند الإناث في مثل هذا العمر، ولذا فهو يقرر أن من صلاحهم (المعلمين) ومن حسن النظر لهم (الأطفال) ألا يخلط بين الذُّكر والإناث لأن ذلك فساد لهن(44).‏

كما يمكن أن يُفهم من خلال هذا النص، أن التعليم المختلط في الكتاتيب كان موجوداً، دونما تحديد لدرجة انتشاره في البلدان الإسلامية في ذلك الوقت.‏

2 ـ العطل وأوقات الراحة:‏

يعتبر القابسي أن عطلة نهاية الأٍسبوع فرصة جيدة لتجديد نشاط الأطفال والمدرسين على السواء، ولا يرى بأساً في استمرارها، خاصة وأنها أصبحت عُرفاً وسُنَّة، جرى عليها الناس، حتى أضحت حقاً مكتسباً للمعلمين، والمتعلمين دون أن يعيبها عليهم أحد.‏

أما مدتها فهي من عصر يوم الخميس حتى صباح يوم السبت؛ كذلك فإن العطل أيام المناسبات والأعياد لا بأس فيها، لأنها أصبحت عرفاً مشهوراً، ووافق الناس عليها.‏

ولا يجوز للمعلم تعطيل الدراسة في الكتَّاب في غير ما ذكرنا. إلا بموافقة ورضى الآباء. يقول القابسي: وأما بطالة الصبيان يوم الجمعة، فذلك سُنَّة المعلمين مذ كانوا، لم يُعَب ذلك عليهم... وما كان الناس قد عملوا به، وجروا عليه فهو كالشرط.‏

وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر، فهو به أيضاً يجري عرف الناس، إذ كان قد عرف ذلك من شأن المعلمين، فهو كما عرف من شأنهم في يوم الجمعة... ثم ينصرفون إلى يوم السبت، يبكرون فيه إلى معلمهم، وهذا حسن نافع رفيق بالصبيان وبالمعلمين لا شطط فيه. وكذلك بطالة الأعياد أيضاً، على العرف المشتهر المتواطأ عليه... وأما في غير ذلك فلا يجوز إلا بإذن الآباء (45).‏

هـ ـ الإشراف والتوجيه:‏

لم يكن في عصر القابسي، أي في القرن الرابع الهجري، ما يسمى بجهاز التوجيه التربوي، لمتابعة وتقويم وتوجيه عمل المدرسين، لكن مثل هذه المسؤولية لم تكن لتلقى جانباً، نظراً لأهميتها وارتباطها بتنشئة الجيل، وإعداد المسلم الصالح.‏

فقد قام الفقهاء بمثل هذا الدور، من حيث محاسبة المعلم على تقصيره في عمله، حتى وصل الأمر بهم إلى منع المعلم من متابعة عمله، إن كان لا يحسن التعليم، لأنه بهذا يكون فرّط فيما ولِيَه من عمل.‏

وقد ترك الفقهاء والعلماء للإمام الحاكم مسؤولية إنزال العقوبة على المعلم المقصر لتقصيره في عمله، بدءاً باللوم، وانتهاء بالفصل من التعليم، واعتبروا ذلك من صدق عدل الإمام؛ ولهذا يقول القابسي: وإن كان (المعلم) لا يحسن، فقد غرَّر، ورأى العلماء إن مثل هذا المعلم يستأهل الأدب لتفريطه فيماوليه، وتهاونه بما التزمه، وأن يمنع من التعليم، وهو صواب، إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه، وهو لا يُحسن. ورأى بعضهم أن مثل هذا المعلم لا يستأهل الإكرام، بل يستأهل اللوم، والتعنيف، والغلظة، والتأنيب من الإمام العادل. فإن اعتذر المعلم ببله الصبي، واختبر الصبي فوجد لذلك لا يحفظ ما علِّم، ولا يضبط ما فهِّم فلم يحصل لهذا المعلم إلى إجارة حوزه وتأديبه، لا إجارة التعليم (46).‏

ونستنتج مما ذكرناه من آراء وردت في رسالة القابسي المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، إن هذه الرسالة تثبت أن المسلمين ابتكروا في التربية آراء جديدة لم يأخذوها عن غيرهم، بل استمدوها مباشرة من فكرهم الإسلامي الأصيل، الذي جاء نتيجة فهمهم العميق والصحيح، لما جاء به القرآن الكريم. ولِمَا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث.‏

وليس القابسي سوى واحد من الرجال الذي تركوا لنا تراثاً فكرياً إسلامياً تربوياً مميزاً، بثُّوه في بطون كتبهم ومصنفاتهم القيمة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:‏

ـ ابن مسكويه (ت 421 ط / 1030 م) في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهيراً الأعراق".‏

ـ ابن سينا (ت 428 هـ / 1037 م) في "كتاب السياسة".‏

ـ الغزالي (ت 505 هـ / 111 م) في كتبه: "إحياء علوم الدين". "أيها الولد"، "ميزان العمل".‏

ـ الزرنوجي "ت 571 هـ / 1173 م) في كتابه: "تعليم المتعلم طرق التعلم".‏

ـ ابن خلدون (ت 808 هـ / 1405 م) في "المقدمة".‏

الخاتمة: دعوة إلى التجديد في التربية الإسلامية:‏

قبل أن نوجه الدعوة إلى التجديد في التربية الإسلامية، نرى لزاماً علينا الإجابة عن سؤال يطرح نفسه بنفسه، وهو: هل هناك تناقض بين الأصالة والتجديد؟ وهل الدعوة إلى التجديد في التربية الإسلامية تتعارض مع أصالتها؟‏

نقول: سبق أن بيَّنا أن أصالة التربية الإسلامية مستمدة من اعتمادها المباشر على كتاب الله وسنَّة رسوله، وإن علماء المسلمين الذين تكلموا في التربية والتعليم، لم يخرجوا على الشريعة الإسلامية أو المبادئ والأعراف السائدة في أي عصر من العصور الإسلامية، ما دامت لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية، وكانوا يجتهدون على الدوام، وها هو ذا القابسي، لا يرى مانعاً من دفع الإجارة للمعلمين على تعليم القرآن، مع أن ذلك لم يكن في العصر الإسلامي الأول، ولاسيما أنه ليس في الأمر ما يعارض ذلك، فيقول، مستخدماً قاعدة فقهية في الاجتهاد وأصوله: (ولا وجه لتضييق ما لم يأت فيه ضيق، ولا ثبت فيه عن الرسول عليه السلام ما يدل على التنزيه عنه (47).‏

فقد جاء القابسي بجديد، دون أن يكون هذا الجديد مناقضاً أو مخالفاً للأصالة الدينية، بل مؤيداً لها، لاعتماده على عدم جواز مخالفة الأحكام الشرعية إذا وجدت، أكانت هذه الأحكام القرآنية، أم ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.‏

وعلى هذا الأساس، جاءت دعوتنا للتجديد في التربية الإسلامية؛ فالتربية اليوم اتخذت لها منهجاً جديداً، ومبادئ وأصولاً اعتمدت فيها على فلسفات وآراء نظرية، أو تجارب ميدانية، أو عملية مخبرية، ووصلت إلى نتائج جيدة أحياناً. وكذلك اعتمدت التربية الحديثة على علوم أخرى، ساعدتها على إرساء قواعدها وتثبيت دعائمها، كعلم النفس، وعلم الاجتماع وغيرهما.‏

لذا ندعو علماء التربية المسلمين، إلى فتح باب الاجتهاد، لإعادة بناء التربية الإسلامية، ووضع الأسس والمبادئ المستمدة من أصالتها، والمستفيدة من العلوم الحديثة التي تخدمها، دون أن تفقدها هذه الاستفادة طابعها وأصالتها، أو تبعدها عن جذورها الراسخة.‏

المصدر: م/تامر الملاح
tamer2011-com

م/تامر الملاح: أقوى نقطة ضعف لدينا هي يأسنا من إعادة المحاولة، الطريقة الوحيدة للنجاح هي المحاولة المرة تلو المرة .."إديسون"

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 4944 مشاهدة
نشرت فى 21 إبريل 2011 بواسطة tamer2011-com

ساحة النقاش

م/ تامر الملاح

tamer2011-com
باحث فى مجال تكنولوجيا التعليم - والتطور التكنولوجى المعاصر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,918,502

بالـعلــم تـحـلـــو الحـــيـاة

للتواصل مع إدارة الموقع عبر الطرق الأتية:

 

 عبر البريد الإلكتروني:

[email protected] (الأساسي)

[email protected]

 عبر الفيس بوك:  

إضغط هنا

(إني أحبكم في الله)


أصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير.