هذه مفاهيمنا
الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
رد على كتاب (مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد بن علوي المالكي)
الباب الأول
وفيه مباحث
1ـ معنى الوسيلة.
2ـ تخريج الآثار والأخبار التي استدل بها كاتب "المفاهيم".
3ـ رد استدلالات الكاتب بما ساقه من آثار.
قال ص 45: "الوسيلة: كل ما جعله الله سببا في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه. والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه" ا هـ.
أقول: كلامه حوى جملتين الأولى من الحق، والثانية فيها إجمال به يتوصل إلى ما نهى الله عنه، ولم يجعله وسيلة.
فقول: "والمدار فيها.. الخ! مجمل يمكن تفسيره على أحد وجهين:
الأول: أن يدخل في ذلك ذوات الأنبياء والصالحين باعتبار أن لهم من المنزلة والزلفى عند الله ما يجل عن الوصف.
فإن كان هذا معنيا، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل ذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حرمتهم وسيلة إليه ولا سببا للزلفى لديه. وإنما جعل الوسيلة إليه هو اتباعهم وتصديق ما أخبروا به، وأتباع
النور الذي جاءوا به، والجهاد من أجل تقريره وتثبيته بين الخلق، فهذا من الوسائل المشروعة التي يشرع للداعي بمسألة أن يقدمها بين يدي مسألته، ولا يصح للداعي دعاء عبادة دعاؤه إلا باتباعهم وتصديقهم.
فهذا من الوسائل المشروعة التي أمر الله بها، وشرعها.
وأما الأنبياء والصالحون فليس من المشروع التوسل بذواتهم ولا جاههم ولا حرمتهم كما سيأتي بيانه.
وإنما يشرع التوسل بدعائهم في حياتهم كما كان يفعله المسلمون زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده من طلب الدعاء في الاستسقاء وغيره.
وأما بعد مماتهم فليس التوسل بدعائهم ولا ذواتهم مشروعا بإجماع القرون المفضلة.
الثاني: أن تكون الوسائل من الأعمال ونحوها مشروعة، لم تتبع فيها سبل المبتدعة، وإنما اتبع فيها السنة، وهذا حق.
والكاتب أجمل ليدخل الوسيلة المبتدعة في خلل كلمات الحق، وقد بينا ما فيها، وما كان ينبغي له ذلك وهو يفسر آية من كتاب الله.
وفي الوسيلة قولان ذكرهما أهل التفسير، وقربهما ابن الجوزي في (زاد المسير" (2/348) قال:
(أحدهما: أنه القربة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء. وقال قتادة: تقربوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقربت إليه. وأنشد:
إذا غفل الواشون غدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
الثاني: المحبة، يقول: تحببوا إلى الله. هذا قول ابن زيد) 1 هـ.
وفي أسئلة نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قوله تعالى : (وابتغوا إليه الوسيلة)، قال: الوسيلة الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وفي المادة شواهد غير ما ذكر.
فالوسيلة: التقرب إلى الله بأنواع القرب والطاعات، وأعلاها إخلاص الدين له، والتقرب إليه بمحبته ومحبة رسوله ومحبة دينه ومحبة من شرع حبه، بهذا يجمع ما قاله السلف،. وقولهم من اختلاف التنوع.
وتأمل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)، ففي تقديم الجار والمجرور (إليه) إفادة اختصاص الوسائل بالله، لا يشركه معه فيها أحد. كما في ( إياك نعبد وإياك نستعين).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في (تفسيره) (98/2): "التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال، المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه أنه تخبط في الجهل والعمى، وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله تعالى. واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار كما صرح به تعالى في قوله عنهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقوله (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون).
فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريقة الموصلة إلى رضا الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل. (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به) الآية" انتهى كلامه.
قال الكاتب ص 43: "إن التوسل ليس أمرا لازما أو ضروريا، وليست الإجابة متوقفة عليه، بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقا، كما قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب .. " انتهى.
أقول: إذا كان الأصل هو دعاء الله تعالى بلا واسطة، فلم العدول عن الأصل إلى غيره، ولا يخفى أن غير الأصل لا يتمسك به إلا من عدم الأصل، والله جل جلاله حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يحب أن يدعوه عبده، وأن يرجوه، وأن يخافه، وأن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته. فإذا كان هذا لا ينقطع عن مسلم في أي بقعة كان وهو الأصل الأصيل، فلم العدول عنه، والتنكب له، أ فتعدل إلى طريق هي أهدى.
تقول: إن التوسل الذي ننكره وهو التوسل بالذوات وعمل غير الداعي ونحوها، ليس الأصل، بل الأصل. معكم وأنتم حقيقون بالأصل. تقر لنا بالهداية والاتباع، وترغب في مخالفة الأصل دون دليل صحيح.
أما في الأصل لك كفاية؟ أما في دعاء الله وحده بلا واسطة لك مقنع؟ إذا كان الحي القيوم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء يحب أن يدعوه عبده كل حين: دعاء عبادة أو دعاء مسألة،
وهو الذي يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) إذا كان كذلك فلم العدول إلى الأموات تتوسل بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم وغيرها من الألفاظ البدعية؟ لم لا يُعلم المسلمون دعاء الله وحده، فتخلص قلوبهم من الالتفات إلى غيره في دفع كربة أو رفع بلاء، أو جلب نفع؟
علموهم هذا ولا تعلقوا قلوبهم بغير الله فيتخذوهم أندادا، فيذهب ذكرهم لربهم وحده، وحبهم له وحده، إذ نفعهم معلق في أذهانهم بوسائط.
إن من انفتح عليهم باب البدعة في التوسل ألقى بهم ولو بعد حين إلى دائرة الإشراك، إذ هو طريقه وسبيله ومنه يتدرج إلى دعاء الأموات أنفسهم أو سؤالهم الشفاعة، أو الإغاثة، أو الإعانة. وكل هذه صرح كاتب المفاهيم بتجويزها في مواضع من كتابه، كما سيأتي في مباحث الشفاعة.
وكل ذلك من سيئات ترك الأصول المتفق عليها، واتباع المتشابهات المنهي عنها.
قال الكاتب ص 44: "ونحن نرى أن الخلاف شكلي، وليس بجوهري، لأن التوسل بالذوات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله، وهو المتفق على جوازه "
أقول: هذا خطل من القول، ومخادعة للنفس ظاهرة، إذ المتوسلون بالذوات يعلمون بُعد هذا التبرير والتأويل، وأن الخلاف جوهري لا صوري، وبرهان ذلك فساد الدليل الذي ادعيتموه، وهو راجع إلى المجاز العقلي، والكلام فيه سيأتي مفصلا، ثم هل عمل الذات المتوسَّل بها عمل للمتوسِّل المتفق على جوازه؟
ولكنى أقول هنا على سبيل المجاراة والمناظرة: هب أن الخلاف شكلي. أفلا يجب عليكم ترك الألفاظ الموهمة لأمور غير شرعية؟ فإن القائل: أتوسل بفلان، دال ظاهر لفظه على التوسل بالذات المجردة عن الجامع بين الذاتين، ولا قرينة لفظية ولا غير لفظية متصلة ولا غير متصلة تصرفه عن هذا الظاهر.
والقرينة المدعاة قلبية خفية، والحكم على ما في قلوب الناس فرع الاطلاع عليها، ولا سبيل إلى ذلك.
ومن المتقرر أن الشريعة المطهرة جاءت بترك الألفاظ الموهمة لما ينهى عنه شرعأ، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم). فقد كانت يهود تستعمل "راعنا" للسب، والمسلمون حين قالوها لا يشركونهم في ما عقدت قلوبهم عليه من تفسير اللفظ، ومن اليقين أن الصحابة لم يقولوا اللفظ وهم يعنون المعنى الفاسد، فهذه من أقوى القرائن القلبية. ومع هذا نهوا عن ذلك.
قال القرطبي في "تفسيره " (75/2): "في هذه الآية دليلان: أحدهما: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض.
الدليل الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها) انتهى.
وقال الجصاص في (أحكام القرآن) (58/1): "وقوله (راعنا) وان كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه، لما فيه من احتمال المعنى المحظور إطلاقه، ومثله موجود في اللغة" ثم قال: (وهذا يدل على أن كل لفظ احتمل الخير والشر فغير جائز إطلاقه حتى يقيد بما يفيد الخير" انتهى كلام الجصاص.
فتأمل كيف أن الصحابة استعملوا هذا اللفظ وهم أبعد الناس عن إرادة معنى الهزء والتنقص، فنهاهم الله تعالى عن ذلك اللفظ لما فيه من الاشتراك، ولم يكف في تجويز استعماله ما قام بقلوبهم و نياتهم من المعنى الخير الصحيح. وهذا جلي لمن تجرد!
قال ص 44: "ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل، كالتوسل بالذوات والأشخاص. بأن يقول اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق أو بعمر بن الخطاب أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم).
أقول: الواجب عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم أصحابه الكرام رضى الله عنهم، كما قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
ومسألة التوسل بالذوات، وكذا التوسل بأعمال من انقضى سعيهم، لا خلاف عند السلف من الصحابة والتابعين أنها ليست من الدين، ولا هي سائغة في الدعاء. وبرهان ذلك أنه لم ينقل عن واحد منهم بنقل صحيح مصدق أنه توسل بأحد الخلفاء الأربعة أو العشرة أو البدريين. والعمل على وفق ما فهموه هو المنجي كما فضل في "السلف والسلفية، من هذا الكتاب، ومن ابتغى نهجا جديدا فهو الخَلَفي، وليس له حظ منهم.
إذا تقرر هذا، فالتوسل بالذوات ونحو ذلك ممنوع لأوجه:
الأول: أنه بدعة لم تكن معروفة عند الصحابة والتابعين، وكل بدعة ضلالة، وليس على الله أكرم من الدعاء، وفي الحديث: "الدعاء هو العبادة" أخرجهأبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح عن النعمان بن بشير.
فإذا كان عبادة بل هو العبادة فإحداث أمر في العبادة مردود باتفاق العلماء.
الثاني: أن قول القائل: أتوسل بأبي بكر وعمر... خطأ محض، جره إليه سقم فهمه، وكثافة ذهنه، واعتقاده أن كل شيء توسل به يكون وسيلة، وهذا غلط.
فمن قال أتوسل بأبي بكر مثلا فقد جمع بين ذاتين لا وسيلة ولا طريق توصل وتجمع أحدهما بالآخر، فكأنما هذا القائل قد لفظ لفظا لا معنى له، بمنزلة من سرد الأحرف الهجائية، إذ لا اتصال بين ذات المتوسِّل والمتوسَّل به حتى يجمع بينهما.
فلا بد من جامع يتوسل به، وهو حب الصحابة مثلا، وهو من عمل المتوسل، فإذا قال: أتوسل إليك رب بحبي لأبي بكر، أو بحبي لعمر، أو بحبي لصحابة نبيك كان هذا حسنا مشروعا.
وكذا إن قال: أتوسل إليك بتوقيري وتعزيري وحبي واتباعي لنبيك نبي الرحمة كان هذا من الوسائل النافعة.
فلازمٌ ذكر الإيمان أو العمل الصالح الذي يصل بين ذاتين لا يجمع بينهما إلا بجامع. كما حكى الله عن عباده المؤمنين قولهم: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) وقوله:(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) والآيات في هذا الباب كثرة.
فإذا كان خيرة الخلق الأنبياء والرسل واتباعهم وحواريوهم لم يحيلوا على ما في قلوبهم بل قالوا بلسانهم ما حواه جنانهم، وهم الذين لا يشك بما في قلوبهم أفلا يكون الخلوف الذين جاؤوا من بعدهم أولى وأحرى أن يفصحوا وأن يظهروا، وأن لا يتحيلوا لفاسد قولهم بالمجاز العقلي؟!
الثالث: أن الصحابة فهموا من التوسل التوسل بالدعاء لا بالذوات، فعمر بن الخطاب. رضى الله عنه توسل بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاوية بن أبي سفيان توسل بدعاء يزيد بن الأسود.
ولو كان التوسل بالذوات جائزا عندهم لأغناهم عن تكلف غيره، ولتوسلوا بذات أكرم الخلق وأفضل البشر وأعظمهم عند الله قدرا ومنزلة، فعدلوا عن ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودة في القبر، إلى الأحياء ممن هم دونه منزلة ورتبة. فعلم أن المشروع ما فعلوه، لا ما تركوه.
قال الشهاب الألوسي في روح المعاني " (6/113) في الكلام على عدول الصحابة: "وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهم يجدون أدنى مساغ لذلك.
فعدولهم مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى، ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق: دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره " انتهى.
الرابع: أن يقال تنزلا: لا يخلو التوسل بالذوات أن يكون أفضل من التوسل بأسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة أو لا . فإن قيل التوسل بالذوات أفضل فهو قول كفري باطل. وإن كان التوسل
بأسماء الله وصفاته وبالأعمال الصالحة أفضل فلم ينافح عن المفضول، وتترك نصرة الفاضل وتأييده ونشره وتعليمه للناس.
قال كاتب المفاهيم ص 46: "وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أعن أبيه، عن جده عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي... الحديث.
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه [ج 2 ص 651] ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه. ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وهو لا يروي الموضوعات، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه. وصححه أيضا القسطلاني، والزرقاني في المواهب اللدنية ج 2ص 62، والسبكي في شفاء السقام.
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد، (ج 8 ص 253) 10 هـ كلام الكاتب.
أقول: هذه الأسطر حوت أغلاطا، واستغفالا، وتحريفا، مما سأبينه إن شاء الله. وما كنت أظن أن يتجاهل الجاني على نفسه، المعجب بعلمه، علماء زمانه، ومن انتسب للعلم من أتباعه حتى يكتب ما كتب على هذا الحديث وما بعده من الأحاديث.
ولي مع الكاتب هنا وقفات ثلاث:
الأولى: في ما كتبه، وفي عزوه الحديث لمن خرجه.
الثانية: في الكلام على رواية الحديث.
الثالثة: في النظر في متن الحديث ودرايته.
أما الأولى: فينتظم عقدها أمورا:
الأول: عزوه الحديث فيه قصور، فقد رواه جماعة من طبقة
مشايخ الحاكم ومن نحو طبقته ومن بعدهم، وكلهم رووه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فكثرتهم لا تفيد الخبر قوة، ولذا لن أذكر أولئك حتى لا يستكثر بهم الجهول بالحديث واصطلاحات أهله.
الثاني: ساق إسناد الحاكم ولم يحسن النقل فقد سقط من الإسناد [عن أبيه] وألحقتها بالإسناد، ووهم أيضا في توثيق النقل من المستدرك، فذكره مرتين ج 2 ص 651،، وهذا قلب وخطأ، وليس
سبق قلم لأنه تكرر مرات. ثم طالعت رسالة "إعلام النبيل " لواعظ بالبحرين فوجدته عزاه كما هنا ج 2 ص 651،، وقد طبع قبل المفاهيم، فتأمل تواردهم على التقليد في كل شيء! وصواب التوثيق (2/615)، والمستدرك لم يطبع إلى هذه السنة إلا طبعة هندية واحدة.
وقال: وصححه، يعني الحاكم وهذا غلط، فالحاكم كتب: "صحيح الإسناد"، والمشتغلون بالحديث يفرقون بين صحة الإسناد وصحة الحديث.
الثالث: قوله: "ورواه الحافظ السيوطي... وصححه " من عجائب مفاهيمه، ومما يدل على عدم تعاطيه علم الحديث- وإن أعطي ـ شهادة الزور- لأن قوله "رواه " خطأ لا يستعمله المحدثون، فمن يذكر الحديث ويسوقه في كتاب له مستدلا به على مراده لا يجوز أن يقال إنه رواه. فكلمة "رواه" لا تقال إلا لمن ساق حديثا أسنده عن مشايخه، إلى منتهاه.
وأما قوله: "وصححه " فأعجب، إذ أن السيوطي لم يعقب الحديث بتصحيح في "الخصائص" الذي نقل منه تصحيحه، وهذا افتراء على السيوطي. والكاتب- لضعفه العلمي- أخذ قول السيوطي في مقدمة الخصائص (1/8): "ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد" فعممه، وقول السيوطي لا يفيد صحة كل ما يورده.
ولذا صرح بضعف إسناد الحديث في كتابه الآخر "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفاء" ص 3 (طبع بمصر طبعة حجرية سنة 1276). والسيوطي في، "الخصائص" اتبع أبا نعيم في "الخصائص" له، وإن كان الإسناد مظلما، أو كان المتن منكرا، صرح بهذا في كتابه (1/47) فقال بعد ذكره حديثين شديدي النكارة: "ولم تكن نفسي تطيب بإيرادهما، ولكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك " أهـ.
الرابع: قال عن البيهقي "وهو لا يروي الموضوعات" أهـ.
أقول: لِم لَم ينقل ما قاله البيهقي نصا بعد رواية الحديث، لم يجعل ديدنه التلبيس والإجمالات التي تلبس على البسطاء، فهو دائما طاوٍ للذي يقوض دليله.
قال البيهقي في "دلائل النبوة" (489/5) بعد سياقه الحديث: "تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف " ا هـ.
وكلمة البيهقي هذه غالية، يعرف قدرها المحدثون، أما المبتدعة فلا يعرفون إلا الإجمال، شأن الطلبة الذين لا يعرفون مصطلحات أهل العلم.
قال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 140 -141): "وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرا" ا هـ. فإذا كان هذا شأن الصدوق، وشأن من دونه ممن خف حفظهم وكثر نسيانهم وضاع أكثر ضبطهم، فما بالك بتفرد الضعيف الذي أجمع أهل العلم بالجرح والتعديل على عدم تعديله، فقال بعضهم كالحاكم أحاديثه موضوعة، مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
الخامس: قال الكاتب: "وصححه القسطلاني ".
أقول: هذا كتاب المواهب فهل صححه، أم أنه ذكر كلام البيهقي الذي سلف. ونصه (1/ 76 مع شرحه): (وقال- أي البيهقي-: تفرد به عبد الرحمن " هذا كلام القسطلاني، وفهم مراده شارح المواهب الزرقاني فقال: "تفرد به عبد الرحمن، أي: لم يتابعه عليه غيره، فهو غريب مع ضعف راويه " ا هـ.
والقسطلاني في المواهب وبعض كتبه الأخرى ينقل عن السيوطي في مؤلفاته دون عزو إليه، وجرت في ذلك كائنة تحكى نقلها ابن العماد في "شذرات الذهب "، وأسوقها ليعلم أن القسطلاني في المواهب يأخذ كلام غيره فلا يكترث به في "التصحيح "، وليس معدودا في أهل التخريج والتعديل والتجريح وإنما هو ناقل[1])، قال ابن العماد(8/122ـ123): "ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها، ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا، فألزمه ببيان مدعاه، فعدد مواضع قال إنه نقل فيها عن البيهقي، وقال: إن للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ذكره في أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي فنقله برمته، وكان الواجب أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي. وحكى الشيخ جار الله بن فهد أن الشيخ رحمه الله قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي، فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب. فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني، جئت إليك حافيا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك علي، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب، ولم يقابله " انتهى النقل عن الشذرات.
وللسيوطي كتاب سماه: "الفارق بين المصنف والسارق " لعله- ولا أجزم- يعني القسطلاني حيث قال فيه: "وأغار على عدة كتب لنا أقمنا في جمعها سنين، وتتبعنا فيها الأصول القديمة، وعمد إلى كتابي "المعجزات والخصائص " الطويل والمختصر، فسرق جميع ما فيها بعباراتي التي يعرفها أولو البصر" انتهى.
السادس: قوله: وصححه الزرقاني في " المواهب اللدنية" (ج2 ص 62).
أقول: ليس للزرقاني كتاب باسم المواهب، وكأن الكاتب أراد شرح المواهب. ثم إن الزرقاني ضعفه ولم يصححه، فقال (1/ 76): "هو غريب مع ضعف راويه "، فلم ينقل الكاتب ما ليس صحيحا، ويحرف وكم هو يجيد التلبيس، ولمَ يوثق نقله توثيقا خطأ فيحيل إلى- ج 2 وهو في الجزء الأول.
السابع: قال في تعداد من صحح الحديث: "والسبكي في شفاء السقام"، والسبكي قلد الحاكم في تصحيحه، والمقلد لا يستكثر به. قال السبكي ص 163: "وقد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم " ا هـ. والسبكي مقر بوجه ضعفه لكنه قال: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادعاه".
الثامن: أسقط من نقله عن الهيثمي عزو الحديث إلى "المعجم الصغير" للطبراني، فلزم التنبيه.
الوقفة الثانية:
الكلام على الرواية، وإسناد الحديث مما سبق سطره ورسمه تجلى أن الحديث لم يقل بصحة إسناده إلا الحاكم، قال الحاكم في المستدرك (2/ 615) "صحيح الإسناد[2] وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم " انتهى، ومدار
الحديث عند كل من أخرجه مرفوعا على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الموضع أن الحاكم لا يقبل كلامه هنا عند التحقيق العلمي، وذلك لأمور:
الأول: أنه قال في كتابه "المدخل إلى الصحيح " (1/ 154): "عبد الرـحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه " ا هـ
وكان قال في أول "المدخل " (1/ 114): "وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهادا، ومعرفة بجرحهم، لا تقليدا فيه لأحد من الأئمة، وأتوهم أن رواية أحاديث هؤلاء لا تحمل إلا بعد بيان حالهم لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " انتهى.
وسردهم وذكر منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما نقلناه لك. فهذا تعارض وتناقض من الحاكم، فما السبب فيه، وما الحامل له على تصحيح إسناد حديث فيه عبد الرحمن.
الجواب معلوم عند أهل الحديث والنظر السالم من الهوى، وهو أنه ابتدأ كتابة كتابه المستدرك سنة 393 هـ[3] أي بعد بلوغه 72 سنة من عمره، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان " 233/5: "ذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك: أنه ذكر جماعة في كتاب "الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه " وصححها، من ذلك: أنه أخرج حديثا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكان قد ذكره في الضعفاء، فقال: إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعه لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه " انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
وجرى على هذا علماء الحديث في شأن المستدرك، ومنه قول السخاوي في فتح المغيث (1/36): "يقال إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد حصلت له غفلة وتغير، أو أنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدا بالنسبة لباقيه، فإنه وجد عنده إلى هنا انتهى إملاء الحاكم ". انتهى.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث الذي احتج به مجيزوا التوسل بالذوات ضعيف جدا في الحديث، قاله علي بن المديني، وقال أبو حاتم الرازي: كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا.
وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي والدار قطني وغيرهم كثير، وقال الطحاوي: "حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف ".
فهذه عبارة إمام الحنفية في وقته وشيخ المصريين في زمانه، أ فيستحل الكاتب أن يتقرب إلى الله ويتعبد بحديث في النهاية من الضعف، كيف تقوى قدماك على التماسك وأنت تسأل أمام ربك، وبم تحتج، وعلى من تتكى، أعد للمسألة جوابا، فإن الأمر عظيم.
الثاني: أن في إسناد الحاكم والبيهقي رجلا اسمه عبد الله بن مسلم الفهري ترجمه الحافظ الذهبي في "الميزان " 2/405 وقال: "روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبرا باطلا فيه يا آدم لولا محمد ما خلقتك رواه البيهقي في دلائل النبوة" انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان " 3/ 360 "قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته " ا هـ. يعني بالذي قبله الترجمة السابقة لترجمة الفهري، وهو عبد الله بن مسلّم بن رُشيد قال الذهبي: ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث...
الثالث: أن إسناد الحديث ضعفه جماعة كثيرون:
فمنهم: البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 486).
ومنهم: الذهبي في "تلخيص "المستدرك " (2/ 615)، قال: "موضوع "، وفي الميزان: قال: "باطل "، فهو موضوع الإسناد باطل المتن.
ومنهم: الشيخ تقي الدين بن تيمية حكم بوضعه في "الرد على البكري " ص 6 من مختصره.
ومنهم: ابن عبد الهادي الحافظ نصر القول بوضعه في "الصارم المنكي ".
ومنهم: الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/323) قال عن راويه: "وهو متكلم فيه" ونقل كلام البيهقي بضعف راويه.
ومنهم: الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/253).
ومنهم: السيوطي في "تخريج أحاديث الشفاء" (ص 30)
ومنهم: الزرقاني في "شرح المواهب " (1/ 76).
ومنهم الشهاب الخفاجي في شرح الشفاء (2/242)
ومنهم ملا علي القاري في "شرح الشفاء" (1/215)
ومنهم ابن عراق في تنزيه "الشريعة" (67/1) وذكر القول ببطلانه.
الوقفة الثالثة
في النظر في متن الحديث ودرايته
إن الثابت أن الدعاء الذي به قبل الله توبة آدم هو ما قاله الله في سورة الأعراف: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من ا لخاسرين). فهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. كما قال تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم).
قال ابن كثير الحافظ في تفسيره (1/116): "روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم " ا هـ.
عشرة من أهل العلم فسرها بآية الأعراف، ومنهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث المنكر في توسل آدم.
وهذا مما يزيد في توهين روايته الحديث المنكر الواهي وهنا على وهن، ولم يذكر أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم فسر الكلمات بتوسل آدم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بطريق صحيحة ولا ضعيفة، إلا أن تكون واهية موضوعة ولعل قصة مغفرة ذنب آدم بتوسله بمحمد صلى الله عليه وسلم تلقاها جهلة المسلمين من أهل الكتاب في عيسى عليه السلام، فأرادوا إثبات فضيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا ما قالوا.
نقل الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل " (1/524) عن عقائد النصارى قولهم: "والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك، لأنه الابن الوحيد، فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء. وهو الذي به غفرت زلة آدم. عليه السلام " ا هـ.
فهذا من اعتقاد النصارى، فنافسهم جهلة المسلمين في ذلك.
قال ص 47: بعد سياق حديث لما اقترف... واستشهاد ابن تيمية به. قال: "فهذا يدل على أن الحديث عند ابن تيمية صالح للاستشهاد والاعتبار لأن الموضوع أو الباطل لا يستشهد به عند ا لمحدثين " إلخ..
أقول: بل إن شيخ الإسلام ذكر الحديث في "الرد على البكري " في أوله وحكم عليه بالوضع وأنه أشبه بحكايات بني إسرائيل قال ص6: "هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي لم يسبقه أحد من الأئمة إليه وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية، وأضلهم في المسالك الدينية، فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد حسن ولا صحيح، بل ولا ضعيف يستأنس به و يعتضد به "
وشيخ الإسلام ذكر في غير موضع أن الحديث موضوع، ولكنه لما كان فيما نقل الكاتب طرفا منه في كلام مع أهل وحدة الوجود ذكر هذين الحديثين بأسانيدهما على خلاف عادته فهو لا يذكر إسنادا إلا نادرا وإنما ساق الأسانيد ليعلم حالهما من طالعهما، وعادة العلماء أن من ساق إسنادا فقد أدى عهدته، والحكم عليه بعد ذلك بوضع أو غيره إنما يكون إذا أراد الرد على من يعتمده في لفظ من ألفاظه.
ولهذا تجد حفاظ الحديث كأبي نعيم والخطيب ونحوهما، والبيهقي أحيانا يذكرون من الأحاديث الموضوعة أو شديدة الضعف ما يعرفه أهل النظر، واعتذر عنهم بأنهم يسوقون الأسانيد ومن ساق الإسناد فقد ذكر عواره أو ظلامه إن كان فيه عوار أو ظلمة.
قال ص50: "وفي الحديث التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتشرف العالم بوجوده فيه، وأن المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل وأنه لا يشترط كونه حيا في دار الدنيا" اهـ.
أقول: لم يكتف الكاتب بتصحيح حديث موضوع بل استخرج للحكم الوارد فيه علة ثم عدى العلة بالقياس إلى غير محل الحكم وإلى غير زمان الحكم.
وتوضيح هذا:
أن في الحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، أي قبل حياته، أي: وهو فاقد الحياة، ولا معنى لتوسله بمن كان كذلك إلا جوازه في الحياة، وقبلها وبعدها. كذا استنتاج الهوى وقياس الردى.
ثم إن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الكاتب بالتوسل لا معنى له حيث قاس كل من كان له عند الله القدر الرفيع على النبي، بجامع النبوة، أو الولاية، أو الكرامة. وهذا هو عين احتجاج أصحاب القبور المفتونين بعبادتها من دون الله، عدوا بالقياس دعاء الميت والطلب منه على طلب الدعاء من الحي، وجادلوا في ذلك، فلما ظنوا أنه ثبت لهم ما زعموه في حق النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا معنى لاختصاص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالدعاء أو الاستشفاع أو نحوه من العبادات، بل يعدى جواز هذا الفعل إلى غيره صلى الله عليه وسلم بجامع النبوة إن كان نبيا أو الكرامة. أو كما قال هذا القائل هنا: "المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل "، وهذا تمهيد وتقعيد لمسائل لم يفصح عنها في هذا الموضع.
فانظر هذا التجرؤ على أحكام الشرع: تصحح الموضوعات، وقياس فاسد لم يقل به عالم قط منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى انتهاء القرون الثلاثة الأولى حتى ظهرت القرامطة الباطنية، وأتباعهم "إخوان الصفا" وهم جماعة مشهورة ظهروا في أول القرن الرابع، وهم الذين جلبوا هذا الذي تبناه الكاتب وقبله أخذه أهل الضلالة، فانظر ما قاله إخوان الصفا وكيف شرعوا هذا الدين الذي لم يعرفه المسلمون في المئات الثلاث، فسبحان من صير القلوب إلى قلبين.
جاء في الرسالة 42 من رسائل إخوان الصفا (4/21). قولهم: "اعلم يا أخي أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم والاقتداء بهم وبأفعالهم والعمل
بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم. فأما من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله.
وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه. ومن قصر فهمه معرفته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم وعباده.
فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهـم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلبا للقربة إلى الله والزلفى لديه.
ثم اعلم أنه على كل حال من يعبد شيئا من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالا ممن لا يدين شيئا ولا يتقرب إلى الله البتة." اهـ.
هكذا أدخل إخوان الصفا الباطنيون الشرك في المسلمين، فانتشر في الجهال انتشارا، واشتعل فيهم اشتعال اللهب في يابس الشجر، فقام جماعات من العلماء ينكرون هذا، وكان أول أمره غير متضحة غايته، ولا مستبين سبيله، لأن المسلمين لم يكن دين الأصنام فيهم، ثم استبان الشأن، وانكشف الغطاء فأنكره العلماء في القرن الرابع والخامس، ومنهم ابن عقيل الحنبلي، فقال: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى".
فهذا الشرك الأكبر أصله وسببه هذا القياس الفاسد الباطل الذي قاله صاحب المفاهيم، باب التوسل بالذوات الذي لا نقول بأنه شرك بل هو بدعة من الطرق والوسائل لهذا الشرك الأكبر وكل ما كان وسيلة إلى الكفر والشرك فهو ممنوع يجب سد بابه وإغلاقه ووصده وتتريبه حتى لا يفتح مرة أخرى.
ومن في قلبه حب لله وللإسلام الذي جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليغار ويشتد غضبا أن يعود شرك الجاهلية، الذي أزالته بعثة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وعقد المؤلف فصلا ص 51 عنونه: يتوسل اليهود به صلى الله عليه وسلم وساق فيه أن ابن عباس قال: "كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فدعت يهود بهذا الدعاء، وقالوا إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان أن تنصرنا عليهم... " تفسير القرطبي (2/ 26- 27) 1 هـ.
وأقول: إن المؤلف أغرب كثيرا في الاستدلال بفعل اليهود الذي نقله، فمن حيث الرواية: فإن قول ابن عباس ذكره الكاتب غير مخرج ولم يذكر من صحح إسناده لأنه لم يجد من صححه وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك " (263/2)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 76) من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من كلامه. وقال الحاكم بعد ذكره الحديث: "أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب " ا هـ، قال الذهبي في "تلخيصه ": قلت: "لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك" ا هـ.
وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أن إسناده ضعيف، وهو لا يقول ضعيف إلا إذا لم يكن في الإسناد حيلة يصحح بها.
والحاكم قد ذكر عبد الملك في المدخل (1/ 170) وقال "روى عن أبيه أحاديث موضوعة" وعبد الملك هذا كذبه ابن معين وابن حبان والجوزجاني وغيرهم، وهو الذي وضع حديثا لفظه: "أربعة أبواب من أبواب الجنة مفتحة: الإسكندرية وعسقلان وقزوين وعبادان، وفضل جدة على هؤلاء كفضل بيت الله على سائر البيوت ".
كذب صريح، ويروج ما يرويه جهلة المسلمين، ممن لا يغارون على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوم لهم ولع بالكذوبات، وإعراض عن الصحاح.
قال شيخ الإسلام في "التوسل والوسيلة" (299/1- 300 مجموع الفتاوى): "قوله تعالى (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولا، كبني قينقاع وقريظة والنظير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ثم لما نقضوا العهد حاربهم... فكيف يقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لا يحسن كيف يكذب.
ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب " انتهى.
إذا ظهر هذا وانجلى فالرواية الثابتة الصحيحة ما أخرجه ابن جرير (2/333 ط. شاكر، وأبو نعيم في الدلائل (1/ من الأصل) والبيهقي في الدلائل (2/75) كلهم من طريف ابن إسحاق في "سيرته " (ص 63 رواية يونس بن بكير) قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا: كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبيل مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به، ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الآية.
وهذا إسناد جليل، فإن الأشياخ هؤلاء صحابة أدركوا الأمر وعلموه فما أجل هذا وأحسنه.
وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، تركتها اجتزاء بما صح، وحذر الملال بسرد الطوال. فاللهم ألهم وعلم.
ذكر الكاتب ص 52: حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه في توسل الضرير بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته.
أقول: هذا الحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده " (4/138)، والترمذي في "جامعه " (5/569)، والنس
ساحة النقاش