المــوقـــع الــرســمى الـخــــاص بــ "د/ تــامر المـــــلاح"

"تكنولوجيا التعليم " الحاسب الألى " الانترنت " علوم المكتبات " العلوم التربوية " الدراسات العليا "

التمهيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم إحسان إلى يوم الدين. وبعد،،،،،

فإن المجتمع هو بنيان مكون من مجموعة لبنات، وكلما كانت هذه اللبنات

قوية ومتماسكة كلما كان البنيان قويا متماسكا، وهذه اللبنات هى أفراد المجتمع، لذلك وجب. الاهتمام ببنانهم أولاً، على أن يكون هذا البناء شاملا جميع جوانبهم النفسية والروحية والبدنية والعقلية، وغيرها..

وهذا ما يطلق عليه (التعايش بين البشر) الذى اهتم به الإسلام أكبر

اهتمام عند إقامته للمجتمع المسلم، وجعل أساسه: تهذيب النفس البشرية وتنقيتها للوصول إلى مرتبة الكمال، لكى تكون حياتها توفيقاَ بين القلب والعقل، وهى ما تحتاج إليه الإنسانية قال تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )  (1) لقد تضمنت هذه الآية الكريمة قواعد التشريع فى المأمورات والمنهيات وفيها أصول الأخلاق.

أ- القيم الإنسانية فى الأديان السماوية:

إن الأديان السماوية السابقة على الإسلام أمرت بالمعروف ونهت عن

المنكر، وأرشدت الإنسان إلى أن حياته لن تتم سعادتها إلا إذا أحب أخاه الإنسان.

فنجد فى سفر التثنية (الإصحاح الخامس) موله: (أكرم أباك وأمك، كما

أوصاك الرب إلهك، لكى تطول أيامك، ولكى يكون لك خير على الأرض التى يعطيك الرب إلهك لا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته امرأة قريبك، ولا تشته بنت قريبك، ولا حقله، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا كل ما لقريبك).

وجاء فى إنجيل متى (الإصحاح الثانى والعشرين ) قوله: ( قال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها، تحب قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء ) .

وجاء فى رسالة بولس إلى أهل  رومية (الإصحاح الثالث عشر) قوله: ( لا تكونوا مديونين لأحد بشيء، إلا بأن يحب بعضكم بعضا، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس، لا تزن، لا تقتل، لا تسرق ، لا تشهد بالزور، لا تشته، وإن كانت وصية أخرى هى مجموعة فى هذه الكلمة: أن تحب قريبك كنفسك..... المحبة لا تصنع شرا للقريب، فالمحبة هى تكميل للناموس .

والقرآن الكريم تناول كل ما جاء فى الديانات السابقة قبل أن تتناولها يد الإنسان بالتحريف والتبديل من الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والتزام الآداب الشرعية، والأخلاق الحميدة يقول المولى تبارك وتعالى: (قل تعالوا اتل ما حرمه ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم  من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم  وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم  فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم  تذكرون )  (2).

ومن هنا ندرك أن الأديان كلها قد دعت إلى التمسك بالفضيلة التى هى أساس المعاملات. وقرر الإسلام ما جاء فى الأديان السابقة الصحيحة، مرشدا إلى سعادة الفرد والجماعات من وراء التمسك بالفضيلة والإقلاع عن الرذيلة، والتعاون على الخير، أو دفع الشر.

إن الذى يبعث المحبة والمودة والألفة فى المجتمعات هو التمسك بحقوق الإنسان، من المساواة، وإنكار الذات، والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين.

إن المجتمع الإسلامى قد جعل نفسه مسئولا عن حفظ الأخلاق وصيانتها، وصيانة قيمها، ومقاومته للعصاه والمخربين.

إن الأخلاق أهم عنصر فى تكوين الفرد المثالى، والأسرة المسلمة، والمجتمع الراقى، والدولة الناهضة، التى تستطيع بما لها من قيم ومبادئ أخلاقية أن تكون نسيجا وحدها، وأن تصل إلى أقصى ما تطلب من رقى وازدهار، ومن أجل ذلك حرص الإسلام أشد الحرص على الأخلاق، لإعداد الأمة التى تتحمل الأمانة، وتؤدى رسالة المولى تبارك وتعالى فى أرضه.

والأخلاق القويمة هى التى تعصم المجتمعات من الانحلال، وتصون الحضارة والمدنية من الضياع، وبدونها لا تنهض الأمم  ولا تقوى الدول مهما بلغت من العلم، ولا يكون لها كيان، لأن العلم والأخلاق دعامتان من الدعائم الأساسية التى لا تستغنى عنها المجتمعات ولا تستغنى القوانين عن الضمائر الحية الواعية التى تساعد على تطبيقها.

وفى عظم قدر الأخلاق الفاضلة وعظيم ثوابها قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " وقال: "ما من شئ أثقل فى الميزان من حسن الخلق " ولا شك فى أن تربية النفوس على الفضائل بتنمية نوازع الخير فيها، وتنحية دوافع الشر عنها، هو بعض ما يفهم من قول الله تبارك وتعالى: )قد أفلح  من تزكى ( (3) وقوله تعالى: )قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها(  (4).

ولقد لوحظ فى تسمية الإنسان إنسانا معنى الأنس والألفة، ولا تستقيم له هذه الحقيقة إذا كان سيئ الخلق، ومنحرف الغرائز والميول، ومن ثم كان الدين كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حسن الخلق ".

والأخلاق هى أساس التغيير، ودعامة الإصلاح، كما نص على ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى:( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(. (5)

فلا عجب إذا رأينا الإسلام يعنى أول ما يعنى بتربية النفوس لتقف الأخلاق جنبا إلى جنب مع الدساتير فى حماية المبادئ والمثل والفهم،  والمحافظة عليها، وأى محاولة للإصلاح تسير فى غير هذا الطريق فهى فاشلة وغير مجدية ولن تؤدى فى النهاية إلى نتيجة.

إن الدين منهج للأخلاق، والأخلاق هى الدين بكل ما فيه، وليست خارجة عنه أو زائدة عليه فى قليل أو كثير، فمنهج الإسلام فى الأخلاق كتاب المولى تبارك وتعالى المتمثل فى سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الحق تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا(  (6).

وإن الفضائل هى ترجمان العقيدة وهى التعبير الواضح الحى عن قوة الإيمان، فالإيمان الحق هو الذى يتبلور فى العمل الصالح، والتطبيق العملى،  وإلا كان ادعاء لا دليل عليه، ولا يقام له وزن عند المولى تبارك وتعالى، فارتكاب المنكرات لا يعتبر إجراما فى حق الدولة أو المجتمع الذى يعيش فيه الفرد فحسب، بل وفى حق العقيدة والإيمان أيضا.

هذه هى صفات المؤمن الحق، صفات المؤمن كما يريده المولى تبارك وتعالى، متبع لشرعه قولا وفعلا، ويخشاه حق الخشية، ولا يخاف فى الحق لومة لائم، يمتلئ قلبه بالرحمة، وتفيض نفسه حنانا وعطفا، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويمتاز بالوفاء، وبعيد كل البعد عن الرياء، مؤد للأمانة ، ساع فى قضاء حاجات المسلمين، شاعر بما يشعر به الفقراء والمحتاجون، مريد بكل ما يفعله ويعمله وجه الله تبارك وتعالى.

إن الإسلام فى حقيقته دعوة إنسانية عالمية شاملة، تهدف أول ما تهدف إلى تأليف القلوب، وتوحيد الشعور، وجعل الدين الحنيف دينا واحدا فى جميع الأمم على اختلاف أنواعها، وهو عقيدة التوحيد والإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة وبدون تميز.

وإن التربية الإسلامية التى تقوم فى أساسها على الإيمان بالله تعالى، والإيمان بقدرته هى طريق التحرر من كل قيود الذل والخوف، وتوجه صاحبها فى أعماله وأقواله التوجيه الصحيح السليم، وتمنعه من الاعوجاج والانحراف. (7)

وإن الأخلاق الإسلامية تحقق كل الخير لكل فرد، ولكل جماعة، وفى كل بيئه وفى كل عصر وفى كل حالة، وتمتاز بالسماحة واليسر والسهولة، وتتسم بالثبات والدوام والاستقرار.

ب-  الدين والإخاء الإنسانى:-

إذا رجعنا إلى النصوص الشرعية نجد أن الجانب الإنسانى قد أخذ مكانته وأهميته بعد العقيدة مباشرة فى كثير منها، مثل قوله تعالى ( أرأيت الذى يكذب بالدين، فذلك الذى  يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام  المسكين) (8).

إن هذه الآيات الكريمة تقرر أن الذى يزجر اليتيم وينهره، ويهمل المسكين الذى أذلته الحاجة، وعضه الفقر والبؤس، هو إنسان مكذب بلقاء الله تعالى وحسابه وجزائه، ولو كان مؤمنا لاندفع بقلب ملىء بالرحمة حريص على النجاة من عذاب الله وغضبه، فأكرم اليتيم، وأعطى المحتاج مما أنعم الله به عليه.

ومنها قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى موسى رضى الله عنه: "  المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "   (9) .

لقد اعتبر الإسلام المجتمع جسدا واحدا  إذا اشتكى منه عضو  تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، لقوله  صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين فى تعاطفهم، وتراحمهم، وتوادهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (10) لأن المجتمع الإسلامى مجتمع معنوى تبنى فيه العلاقات الاجتماعية على الترابط والتكافل فى جميع نواحى الحياة، دون أن يظلم أحد أحدا، أو يستغله فى أمر من الأمور، بل يربط الجميع برباط الأخوة والمحبة والمودة والألفة، وترى كل فرد فيه يشعر بأنه مسئول عن راحة الجماعة وسعادتها، مسئول عن حمل أمانة الله عز وجل يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها وهى مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده وهو مسؤول  عن رعيته، والولد راع فى مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته " (11).

وهذه المسئولية ليست أمام الجماعة فحسب، بل إنها تحيط بالإنسان فى ظاهره وباطنه وسره وعلنه فهى أمام المولى عز وجل الذى لا تخفى عليه خافية. قال تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون  وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( (12). 

إن الإخاء الإنسانى فى الإسلام شامل لجميع شئون الإنسانية المادية والمعنوية، ويحقق لها بر الحياة ونعيمها، ويحميها بسياج قوى متين، ويوفر لها الأمن والأمان والكرامة. وهو يقوم على دعائم ثابتة ويستمد ذخيرته من معين لا ينضب، ويأخذ طابعه من طبيعة الإيمان بالمولى عز وجل والثقة فيه.

 لقد عمل الإسلام على إقامة المجتمع الفاضل فى أرجاء المعمورة، فهو دين يخاطب الإنسانية كلها، ولذلك حارب الأوهام والأفكار الفاسدة المنحرفة، وعلى رأسها الشرك بالله عز وجل، ودعا إلى الوحدة الإنسانية العامة فى ظل دين واحد هو الإسلام.

ولكى يتحقق ذلك لابد من تربية النفوس، وتربية الجماعات على مبادئ الإخاء الإنسانى المطلوب، ليتكون من ذلك المجتمع الإنسانى المتآلف المتحاب، غير متنافر ولا متباغض.

والإخاء الإنسانى فى الإسلام له مظاهر متنوعة منها: إحساس المسلم نحو أخيه المسلم بمشاعر المحبة والمودة والرحمة قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة) (13)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(14) والمحبة المطلوبة هى التى تكون فى الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.... " وذكر منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله "  (15) وتتمثل هذه المحبة فى سلامة الصدر ونقائه من أمراض النفس كالحسد والغل تجاه الأخوة المسلمين وتقوم على التضحية والإيثار، وتهدف إلى التغلب على النفس، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون مع الآخرين فى أعمال البر والتقوى الذى هو أبرز سمات الحياة الروحية الإسلامية، وهو طريق النهوض بالحياة الاجتماعية إلى المستوى الراقى الذى يؤدى إلى عيش الجماعة فى السعادة والرفاهية، لأن الحياة كالصحراء المترامية الأطراف، ذات المسالك الوعرة، التى لا يستطيع الفرد السير فيها، ومواجهة مخاطرها وحده، بل إنه بحاجة لمساعدة الآخرين له، والإنسان ميال بطبعه إلى الانتماء إلى الجماعة التى تبادله الإحساس لذلك جاء الإسلام وجعل التعاون ركنا من أركان الإخاء الإنسانى ونادى به.

إن المجتمع هو سلسلة ذات حلقات متداخلة، وأول هذه الحلقات هى الأفراد والأسر، لذلك يجب عليهم أن يعيشوا متعاونين مع بعضهم البعض،  وكل يقوم بمسئوليته المحددة كما ورد فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته... ".

أما بقية الحلقات فهى المجتمع العام، وقد عنى الإسلام بإقامته على قواعد متينة، من التعاطف، والتراحم، والمودة، والمساواة فى الحقوق والواجبات، والتنسيق بين الجهود فى سبيل الصالح العام والخاص قال تعالى  ( إنما المؤمنون إخوة ( (16) وهذا ما اتضح جليا فى واقع المجتمع الإسلامى الأول الذى بناه الرسول صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة حينما آخى بين المهاجرين والأنصار، وجاء ذكرهم فى كتاب الله عز وجل فقال تعالى: (  والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم  يحبون من هاجر إليهم  ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان  بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون  ( (17) لقد أظهر الأنصار من التعاون والكرم مع إخوانهم المهاجرين ما خفف عنهم آلام الغربة وعوضهم عن فراق الأهل والأحبة.

ولقد أذابت هذه الأخوة الفوارق الطبقية بين المسلمين، فتساوى الموالى والعبيد أمثال: زيد بن حارثة، وبلال بن رباح، وصهيب الرومى،  وعبد الله بن مسعود مع السادة الأحرار أمثال أبى بكر الصديق ، وعمر الفاروق، بل أصبحوا أئمة وأعلاما فى الدين، يهتدى الناس بهداهم رضى الله عنهم أجمعين.

إنه شأن الإسلام منذ بداية الرسالة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا مكان فيه للمفاخر والتعالى بجنس أو لون أو طبقة، ولا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، وما سوى ذلك فالكل فيه سواسية كأسنان المشط، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على أعجمى، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".

وبين النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر ما تتطلبه الأخوة الإسلامية من الحقوق، فقال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" (18).

وزيادة فى دعم هذه الأخوة، يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإنصاف بالرحمة بين الناس فيقول: " ارحم من فى الأرض يرحمك من فى السماء" (19). وقال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا" (20). بل لقد وسع النطاق فى دعوته لتشمل الرحمة بالحيوان فقال: "بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فشرب فخرج، فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى  بى، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له " قالوا: يا رسول الله وإن لنا فى البهائم أجراً؟! قال: " فى كل ذات كبد حرى أجر" (21)

وقال فى حديث آخر: "دخلت امرأة النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض " (22).

وإذا كان الرفق والرحمة بالحيوان قد بلغ هذا المستوى العالى، فكيف لا يكون بنو الإنسان متعاطفين، متراحمين، متعاونين، وهم الذين تجمعهم مادة الخلق التى خلقهم منها الله عز وجل.

ومن مبادئ التعاون فى الإسلام الدعوة إلى التعاون بين شعوب العالم بأسره، قال تعالى:( يا أيها الناس إنا خلقناكم  من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم  عند الله أتقاكم  ((23).

 

جـ  الدين والعلاقات الدولية:

إن المجتمع الإسلامى مجتمع يقوم على عقيدة وفكرة (أيدلوجية) خاصة: منها تنبثق نظمه وأحكامه وآدابه وأخلاقه هذه العقيدة أو الفكرة هى الإسلام، وهذا هو معنى تسمية (المجتمع الإسلامى)، فهو مجتمع اتخذ الإسلام منهاجا لحياته، ودستورا لحكمه، ومصدرا لتشريعه وتوجيهه فى كل شئون الحياة وعلاقاتها، فردية واجتماعية ومعنوية، محلية ودولية.

ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفناء على جميع العناصر التى تعيش فى داخله، وهى تدين بدين آخر غير الإسلام.

كلا، إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين، وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح، والعدالة، والبر، والرحمة، وهى أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى:  (  لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم  أن تبروهم وتقسطوا إليهم  إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم  الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم  وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هما الظالمون  ) (24)، فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، ما لم يقفوا فى وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.

ولأهل الكتاب منزلة خاصة فى المعاملة والتشريع فالقرآن ينهى عن مجادلتهم فى دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يوغر المراء الصدور، ولا يوقد الجدل واللدد نار العصبية والبغضاء فى القلوب قال تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى  أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (25).

ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة، وهذا فى الواقع تسامح كبير من الإسلام، حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته وشريكة حياته وأم أولاده كتابية غير مسلمة، وأن يكون أخوال وخالات أولاده كتابيين من غير المسلمين، قال تعالى:  ( وطعام  الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم  حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن  محصنين غير مسافحين  ولا متخدى أخدان  ) (26).

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام أكد عالميته وعطائه للإنسانية جميعا، فهو لا يستمد اسمه من نبى، ولا يستمد مقوماته من جنس، ويعترف بجميع الأديان والرسالات السماوية الأخرى والأنبياء السابقين، وقد جعل العلاقة بين الله تبارك  وتعالى والإنسان علاقة مباشرة لا وساطة فيها، وأعلن حرية الدين وحق  الخيار فى الاعتقاد، إذ لا يجوز الإكراه فى الدين، وأقام العدل الاجتماعى، ووثق بنيان الإنسانية على أساس من التضامن والمساواة والإخاء الإنسانى فى الرابطة الاجتماعية.

هذا ولأهل الذمة فى (دار الإسلام) من الحقوق مثل ما للمسلمين إلا فى أمور محددة مستثناة:

فأول هذه الحقوق هو: حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامى،  وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجى، ومن كل ظلم داخلى، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار، وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق  طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة" (27).

وحق الحماية المقررة لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم، فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما " (28).

وفى العهد الذى كتبه عمر لأبى عبيدة بن الجراح أن: (امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحلها).

ويقول الفقيه الأصولى المالكى شهاب الدين القرافى: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقا علينا، لأنهم فى جوارنا وفى خفارتنا- أى حمايتنا، وذمتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام " (29).

ويحمى الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة (حق الحرية)، فهو يكفل لهم حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذى دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه، وذلك لقوله تعالى:  ( لا إكراه فى الدين  قد تبين الرشد من الغى  ) (30)، ولهذا لم يعرف التاريخ شعبا مسلما حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.

وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم، ورعى حرمة شعائرهم، كما اشتمل عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبيعهم.

وفى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أهل إيلياء (القدس) نص  على حريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم.

وعقد خالد بن الوليد لأهل الإعانات عهدا فقال: (.... ولهم أن يضربوا نواقيسهم فى أى ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا فى أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان فى أيام عيدهم ).

كما أن الإسلام يكفل لأهل الذمة حرية العمل والكسب بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادى،  شأنهم فى ذلك شأن المسلمين ويستثنى من ذلك ما حرمه الإسلام كالربا، وبيع الخمور، وبيع لحم الخنزير، وغيره...

ولأهل الذمة الحق فى تولى وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة، والقيادة فى الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات  ونحو ذلك .

 لقد قررت الشريعة الإسلامية لغير المسلمين كل تلك الحقوق، وكفلت لهم كل تلك الحريات، وزادت على ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم بالتى هى أحسن على أن هناك شيئا آخر لا يدخل فى نطاق الحقوق التى تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء  وتشرف على تنفيذها الحكومات ذلك هو (روح التسامح) التى تبدو فى حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهى الأمور التى تحتاج إليها الحياة اليومية ولا يغنى فيها قضاء، ولا قانون، وهذه الروح لا تكاد توجد فى غير المجتمع الإسلامى.

تتجلى هده السماحة فى مثل قوله تعالى فى شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك:  ) وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا ...  ( (31).

وفى قوله تعالى يصف الأبرار من عباده: ) ويطعمون الطعام  على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا  (. (32)، ولم يكن الأسير حين أنزلت الآية إلا من المشركين وتتجلى هذه السماحة كذلك فى معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، يهودا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم ويأخذ منهم ويعطيهم.

فقد روى أبو عبيدة فى (الأموال) عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهى تجرى عليهم (33).

وروى البخارى عن أنس: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- عاد يهوديا، وعرض عليه الإسلام فأسلم فخرج وهو يقول: "الحمد لله الذى أنقذه من النار".

وقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- الهدايا من غير المسلمين، واستعان فى سلمه وحربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرا ولا كيدا.

ومرت عليه جنازة فقام صلى الله عليه وسلم لها واقفا: فقيل له: إنها جنازة يهودى فقال عليه الصلاة والسلام: "أليست نفسا ".

وتتجلى هذه السماحة كذلك فى معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين، فهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه يوصى يزيد بن أبى سفيان قائد الجند المبعوث لبلاد الشام، فيقول له: ".... وإنكم ستجدون أقواما قد حبسوا أنفسهم فى هذه الصوامع فاتركوهم وما حبسوا له أنفسهم،.....، ولا تقتلوا كبيرا هرما ولا امرأة، ولا وليدا، ولا تخربوا عمرانا، ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع، ولا تحرقن نخلأ، ولا تعقرونه، ولا تغدر ولا تمثل ولا تجبن ولا تفل "... (34).

وهذا عمر الفاروق رضى الله عنه يأمر بصرف معاش دائم ليهودى وعيالة من بيت مال المسلمين، ثم يقول: قال الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين.. ) (35) وهذا من مساكين أهل الكتاب (36).

ويمر فى رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من النصارى، فيأمر لهم بمساعدة اجتماعية من بيت مال المسلمين .

وأوصى من بعده وهو على فراش الموت فقال: "أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا ، أن يوفى بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم " (37) .

وهذا ابن عمر يوصى غلامه أن يعطى جاره اليهودى من الأضحية، ويكرر الوصية المرة بعد المرة، حتى دهش الغلام  وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودى. فقال ابن عمر: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصينى بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه " (38).

وماتت أم الحارث بن أبى ربيعة وهى نصرانية، فشيعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (39).

وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبا من صدقة الفطر لرهبان النصارى ، ولا يرون فى ذلك حرجا.

وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك فى مواقف كثير من الأئمة والفقهاء فى الدفاع عن أهل الذمة واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين. ونكتفى هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولى المحقق شهاب الدين القرافى المالكى شارحأ بها معنى البر الذى أمر الله به المسلمين فى شأنهم، فذكر من ذلك (الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف بهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم فى الجوار مع القدرة على إزالته- لطفأ منا بهم لا خوفأ منهم، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم فى جميع أمورهم، فى دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لآذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم …) (40)

وأخيرأ.. فإن ما عرضناه فى الصفحات السابقة عن العلاقة مع غيرالمسلمين هو ما يؤكد واقع الإسلام الحقيقى، وما يعكس موقفه الصريح من غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى.

إن فى روح الإسلام من السماحة الإنسانية ما لا يملك منصف أن ينكره أ و يراوغ فيه، وهى سماحة مبذولة للمجموعة البشرية كلها لا لجنس فيها، ولا لأتباع عقيدة معينة وإنما هى للإنسان بوصفه إنسانأ فى حد ذاته خلقه الله وكرمه.

المراجع :

1- القرآن الكريم.

2- أحكام القرآن للقرطبى.

3- الأموال لأبى عبيد القاسم بن سلام.

4- الخراج لأبى يوسف.

5- الخراج ليحيى بن آدم.

6- سنن البيهقى.

7- صحيح البخارى .

8- صحيح الجامع الصغير وزيادته للألبانى.

9- صحيح سنن أبى داود.

10- صحيح سنن الترمذى.

11- صحيح سنن النسائى.

12- صحيح مسلم.

13- الفروق للقرافى .

14- فقه الزكاة ليوسف القرضاوى.

15- المبادىء الاجتماعية فى الإسلام لمحمد رجاء حنفى عبد المتجلى..

16- مسند الإمام أحمد بن حنبل.

الهوامش

1- سورة الأعراف آية 199

2- سورة الأنعام الآيتين 151- 152

3- سورة الأعلى الآية 14.

4- سورة الشمس الآيتان 9، 10

5- سورة الرعد الآية 11.

6- سورة الأحزاب الآية 21.

7- انظر المبادئ  الاجتماعية فى الإسلام لمحمد رجاء حنفى إصدار رابطة العالم                                                                                                                                  الإسلامى مكة المكرمة.

8- سورة الماعون الآيات (1-3)

9- متفق عليه .

10- رواه أحمد ومسلم .

11- متفق عليه .

12- سورة التوبة الآية 105

13- سورة الحجرات الآية 10

14- رواه احمد والبخارى ومسلم والترمذى والنسانى وابن ماجه.

15- رواه أحمد والبخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه.

16- سورة الحجرات الآية 10

17- سورة الحشر الآية 9

18 ـ روا

المصدر: م/تامر الملاح
tamer2011-com

م/تامر الملاح: أقوى نقطة ضعف لدينا هي يأسنا من إعادة المحاولة، الطريقة الوحيدة للنجاح هي المحاولة المرة تلو المرة .."إديسون"

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 645 مشاهدة
نشرت فى 4 مارس 2011 بواسطة tamer2011-com

ساحة النقاش

م/ تامر الملاح

tamer2011-com
باحث فى مجال تكنولوجيا التعليم - والتطور التكنولوجى المعاصر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,896,897

بالـعلــم تـحـلـــو الحـــيـاة

للتواصل مع إدارة الموقع عبر الطرق الأتية:

 

 عبر البريد الإلكتروني:

[email protected] (الأساسي)

[email protected]

 عبر الفيس بوك:  

إضغط هنا

(إني أحبكم في الله)


أصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير.