هل هناك تناقض بين الإسلام والعلم أم أن العلاقة بينهما علاقة ترابط واتفاق؟ هل المنهج العلمى القائم منهج سليم أم أن له نقائص خطيرة ينجم عنها آثار غير حميدة؟ هل نحن بحاجة إلى برهان علمى على حقائق الدين أم أن الوحى لا يحتاج إلى مزيد عليه من الإنسان وقد جاء من الله؟
هذه أسئلة تتردد على الألسنة وتخطر فى الأذهان، وقد أجاب عليها كثير من علمائنا بأجوبة مختلفة سألخص بعضها ثم أقترح ما أراه حسب اجتهادى أقرب إلى الصواب. عندما تعرض للناس قضية معقدة فإن فريقا منهم يجد الحل الأمثل والأسهل فى إنكار وجودها إنكارا تاما، فالمستشرق الذى ترجم كتاب الهداية فى الفقه أملا أن يجد فيه ما يبرر غزو البريطانيين للهند أذهله ما منحته الشريعة للمرأة من حقوق لم تكن أختها الإنجليزية تنعم بها فى القرن الثامن عشر مما يجرد العدوان الإنجليزى على الحكم الإسلامى هناك من أى مبرر أخلاقى أنكر هذا إنكارا تاما وزعم أن المسلمين يحكمهم حكام طغاة وأن رسالة الإنجليز هى تحرير الهند من الاستبداد وتعليمهم فنون الحرية، وقد بالغ المترجم فى بيان أسباب ما أسماه ميل المسلمين لنحكم الدكتاتورى فقال: إن لهذه الحال أسباباً أربعة أولها: أنهم يغسلون أطرافهم عند الصلاة- أى يتوضأون- وثانيها: أنهم يكثرون من الاغتسال- وقد كان هذا يعتبر سبباً فى ضعف البدن عندهم- والثالث: أنهم طيعون لنسائهم، والرابع والأخير أنهم لا يشربون الخمر. القضية التى واجهت هذا المعتذر عن الغزو الأوروبى للهند هى كيف يثبت أن الهند الإسلامية متأخرة وفى حاجة إلى من يأخذ بيدها إلى التقدم ولكن الشواهد أمامه كانت تصرخ فى وجهه بأن ضحية الغزو كانت أرقى حضارة من الغازى ولم يهزمها إلا ضعف السلاح الناتج عن التفوق الغربى فى الصناعة فلم يشأ أن يعترف بالمشكلة التى واجهته فأنكرها وبذل جهده ليبرهن على عكسها. وأمثلة هذا السلوك كثيرة فى المجتمع الإنسانى لا يسلم منه أحد. وأكبر ظنى أن كثيراً من علمائنا الذين يقولون بأن العلم الحديث والإسلام لا تناقض بينهما قد يكونون ضحية مثل هذا الاتجاه، فهم لا ينظرون لطبيعة العلم الحديث وخصائصه التى تفصل بينه وبين الدين أى دين الإسلام كخاتم الأديان، وإنما يلجأون إلى القول بأن الإسلام دين العقل دعا قرآنه الكريم إلى النظر فى الكون وأمر رسوله العظيم إلى السعى وراء العلم ولو بعدت الشقة إلى مصدره، فالإسلام الذى يعطى للعلم هذا القدر ويمجد العقل الذى هو أساس النظر والفكر لا يمكن بحال من الأحوال أن يناقض العلم القائم على العقل إذ كيف يناقض العقل نفسه؟ هذا الجواب الذى كثيرا ما نسمعه ونقرؤه يغفل القضية الأساسية وهى طبيعة العلم الحديث وبعدها عن الروح الدينية التى هى الصفة المحددة للدين الحنيف كما سنرى: "وإذا جادل مجادل بأن تاريخ العلم فى الغرب مضرج بالصراع المرير بين الكنيسة والعلماء أجابوا بأن هذه المأساة إنما نجمت عن خصوصية المسيحية. كما فسرتها الكنيسة فى القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث فى الغرب، والإسلام بطبيعته ليس فيه كنسية تفسر الكتاب المنزل من عند الله على هواها كما أن الوحى المحمدى قد خلا من النظريات العلمية التى تضعه وجها لوجه أمام اكتشافات العلماء.
أجد هذا العرض للقضية محاولة لإنكارها، فلنعد الآن لتحديدها وبيان عناصرها المقومة لها حتى يتبين لنا ما إذا كان هذا التحليل صحيحا أم أنه غفل عن واقع العلم وواقع الدين.
ماهى مميزات العلم الحديث ومدى تقبلَ الإسلام لها؟
أولا: يتميز العلم الحديث باعتماده التام على العقل يطلق له العنان ليبحث ويلاحظ ويجرب دون أى عائق على الإطلاق، فليس عند العلم الحديث حقائق ثابتة لا تقبل النقاش والحكم، فى كل شىء هو العقل فليس للفرد مهما علا قدره ولا للجماعة مهما عظم عددها أى وزن أمام التجارب العلمية، فإذا زعم باحث أنه اكتشف ظاهرة جديدة سارع زملاؤه إلى امتحان دعواه بإعادة تجاربه فى المعامل حتى إذا اتفقت نتائج تجاربهم وتجاربه آمنوا بما قال:
وهذا ليس شأن الدين، فإن الدين الإسلامى يقوم على الوحى أولا وقبل كل شىء ودور العقل فيه له الدرجة الثانية ومهمته أن يكتشف البراهين العقلية على صدق حقائق الدين فليس للعقل أن يجول حراً وليس له أن يتحدى ما جاء عن المعصوم. والاتجاه العقلى فى الإسلام والذى يرتبط بالمعتزلة لم يكن قط اتجاها عقلياً حراً بل اتجاهاً فى حدود الإسلام وعقيدته ومصدر هذه الحدود والعقيدة هو الكتاب المنزل وبيانه فى السنة المطهرة، فالمسلم إن شك أو جادل فى أساس هذا الدين وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يخرج عن الإسلام، ويفقد كل انتساب للأمة. أسس الإيمان مسلمات مهمة العقل أن يفهمها وأن يكتشف- لإرضاء نفسه- دليلاً نظرياً عليها يؤيد الوحى ولا يعارضه ويقويه ولا يناقضه. فى الدين حقائق ثابتة وفى العلم اكتشافات ونظريات دائمة التغير والتطور، فالعلم لا يحترم كما قلت أية بدهية عقلية فضلا على القضايا الإخبارية. ولعلى أذكر هنا مثلا من هذه القضايا التى يقال إنها مستحيلة عقلاً. فمن المحالات أن يوجد شىء واحد فى مكانين فى آن واحد هكذا تعلمنا وهكذا قال الفلاسفة ولكن تجربة علمية توشك أن تنشر تفاصيلها فى مجلة م Naturتقول إن ذريرة أو جزء من الذرة هو الفوتون المسئول- كما يقولون عن نقل الضوء- قد شوهد فى هذه التجربة موجودا فى مكانين فى آن واحد. فحتى المستحيلات العقلية لا تقديس لها فى نظر العلم الحديث الذى لا يفتأ يشك ويسأل ويجرب ويغير رأيه من لحظة إلى أخرى، فالعلم الطبيعى يتضاعف فى الغرب كل عام! هنا إذن فارقان هامان لا يمكن الجمع بينهما هما حقائق الدين الثابتة واكتشافات العلم الحديث المتبدلة والعقل المطلق من كل قيد فى مقابل العقل الذى يسترشد بالوحى ولا يخرج عليه.
وإذا كان هذان الفارقان على قدر كبير من الأهمية التى لا ينبغى ولا يحق أن تهمل فإن منهج العلم فى البحث يختلف كذلك عن منهج الدين الإسلامى؟ فالعلم منذ عهد ديكارت يقسم الظاهرة الطبيعية إلى جزئيات صغيرة حتى يمكن استيعابها والإحاطة بها فى المعمل أو تحت المجهر، وقد نتج عن هذا اتساع نطاق الأبحاث العلمية وكثرة أقسام الدراسات الجامعية التى تتخصص فى هذا الجانب أو ذاك مما كان فى الماضى جزءاً من علم الطبيعة أو الكيمياء أو الأحياء أو طبقات الأرض إلخ. هذا المنهج نجح نجاحا باهرا فى الكشف عن طبيعة البيئة والكائنات المحيطة بالإنسان ومنحت للعلماء قدرة خارقة على التسلط على الكثير من ظواهرها حتى وصل الأمر بعلم الأجنة والوراثة أن أصبح بعض العاملين به يتعاملون مع البشر كما تعامل جيل سابق مع الحيوان فى تحسين النسل واختيار نوع الجنين، وتطورت الجراحات الطبية فجعلت الإنسان أقرب إلى الآلات التى يوضع لها "قطع غيار" مكان الأعضاء التى أصابها العطب، هذه القدرة الرهيبة صحبها سطو على البيئة ونشوء أدواء لم تكن معروفة من قبل وهكذا فكلما حل العلم الحديث مشكلة خلق مشكلة أخرى فهو ما يزال يلهث وراء المشاكل دون توقف، يقابل هذا نظرة الإسلام الكلية للكون وهى نظرة هدفها ليس السيطرة على الطبيعة وإنما الاهتداء بما فيها من نظام إلى قدرة الخالق جل وعلا وبما فيها من نقص إلى كماله سبحانه. فالنظرة الجزئية المفككة تخالف تمام المخالفة النظرة الكلية المتكاملة، ثم إن القصد للاهتداء وزيادة اليقين والإيمان ليس ضد القصد للسيطرة والاستغلال، نحن إذن مرة أخرى أمام فارق أساسى فى المنهج لا يمكن تجاوزه.
ولعلى هنا أقف عند بيان الفوارق الأساسية لأتحدث عن خطر المنهج العلمى. وهذا الخطر كما أشرت آنفا ينبع أساسا من تجزئة الظواهر الطبيعية فتفقد الظاهرة روحها، وتقود المنهج إلى طريق يضل فيه السائر، ولهذا اتجه الباحثون المعاصرون فى محاولة لإصلاح أخطاء هذا المنهج إلى ما يسمى الأبحاث المتعددة الجوانب التى تسهم فى بحث الظاهرة الواحدة من مختلف الزوايا ليخففوا من غلواء التجزؤ الذى يقلل من القدرة على استيعاب الظاهرة. ولكن هذا كله لا يزيل خطر هذا المنهج لأنه منهج يسير فى خط مستقيم إلى الأمام غير عابئ بالنتائج الجانبية التى تكون بالغة الخطورة، وقد أشرت آنفا إلى أن أحد عواقب العلم الحديث وتطبيقاته فى الصناعة أن تلوثت البيئة تلوثا يرى أكثر الخبراء أنه لا يمكن علاجه. فهذا المنهج لا يلتزم بخلق يعصمه عن التورط فيما قد يضر بالبشر أو المخلوقات الأخرى فالمنهج العلمى الحديث يرى أنه غير خاضع لمبادئ الأخلاق أو كما يقولون أنه محايد بالنسبة للقيم جميعاً فلا هو خاضع لها ولا تتأثر بها، وليس هذا يعنى أن الباحث يرتكب الجرائم أو يقصد إلى الأذى لكن هدفه العلم والمعرفة دون قيود ولا شروط. هذا غير ما يرضاه الدين الذى يلتزم فيه بأوامر الله عز وجل لا يحيد عنها. ثم إن المنهج العلمى يؤمن بالإنسان وقدرته على فتح كل مغلق وكشف كل خفى، فقدرة الباحث قائمة على إيمانه بهذه القدرة الإنسانية التى لا تجعل للإيمان بالله تعالى دوراً لهذا يقال إن العلم الحديث قد أعرض عن الإيمان بالله لأنه يراه عقبة فى نمو العلم إذ يصرف العالم عن هدفه الدنيوى المادى إلى اتجاه أخروى، كما أعرض عن القيم الأخلاقية التى قد تحول بينه وبين الحكم المستقل على نتائج أبحاثه ووسائلها. ولاشك أن الدين الحنيف بعيد كل البعد عن مثل هذا الاتجاه. إن شر ما يصيب الدعاة إلى دين الله أن يركنوا إلى زعم تكذبه الوقائع المشهودة فإذا ووجهوا بها كابروا أو أرتج عليهم.
بقى سؤال أخير وهو هل الدين بحقائقه الإلهية بحاجة إلى برهان من العلوم الطبيعية تصدق ما جاء به النبى الخاتم فى كتاب الله الشريف وخطاب نبيه المطهر؟ أو بعبارة أخرى هل من المفيد أن نكتشف فى الوحى ما يتفق مع منجزات العلوم نعرضها على العامة كمعجزات علمية فى كتاب الله وسنة رسوله؟ أكبرظنى أن علماءنا الذين يبذلون الجهد فى هذا السبيل يقصدون به وجه الله ويريدون أن يحموا الناس من الانبهار بالعلم الحديث والشك فى الوحى فحرصوا على أن يتلمسوا فى كلام الله وكلام نبيه ما يؤكد ما جاء به العلم الحديث حتى يقود العلم إلى الإيمان ولا يصرف عنه. ولكن لهذا الاتجاه خطرين الأول: أنه قد ينزل بكلام الله إلى معمل العالم، وقد ذكرت لك أن العلم الحديث خال من الثوابت فإذا فسر الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بتفسير لن يلبث العلم أن يهجره فإن هذا قد يقود إلى عكس المقصود منه ومازلت أذكر دروس أستاذى فى علم النفس أثناء دراستى فى الأزهر الشريف إذ كان شديد الحرص على البرهنة على كل شىء بالقرآن الكريم أو البرهنة على القرآن الكريم بنظريات علم النفس فعلمنا أن نظريات فرويد جميعها موجودة فى القرآن الكريم، وساق على هذا آيات بل زاد بأن تفسير الأحلام لابن سيرين- ولا أدرى لماذا؟- قد سبق تفسير الأحلام لفرويد فى الكشف عن الرموز فى الأحلام. ولما أرسلنى الأزهر الشريف لدراسة علم النفس فى بريطانيا ووجدت القوم هناك يسخرون من فرويد ونظرياته فى علم النفس التحليلى أشفقت على بعض زملائى الذين قد يواجهون فى حياتهم من يلقنهم إلى أن تفسير أستاذنا الفاضل لنصوص الكتاب بأعمال فرويد خطأ. إذن فالبعد عن هذا المنهج أكرم لكتاب الله والاعتماد على تفاسير السلف القائمة على المأثورات غير حافظ لنا من العبث بكتاب الله والمغامرة بإيمان قرائنا والمستمعين لنا. أما الخطر الثانى لهذا المنهج فإنه يفتح الباب لمن شاء أن يقرأ فى كتاب الله ما شاء مما يظن أنه علم فتتصارع الآراء والأفكار حول أمور غير ثابتة تزعزع إيمان المؤمن بالثابت الذى لا يتغير وهو الوحى المنزل، ولعل إخواننا هؤلاء إذا علموا أن لهم نظراء فى كل الأديان يزعمون أن كتبهم قد سبقت العلم الحديث بهذا الكشف أو تلك النظرية إنهم ليسوا بدعا بين اتباع الديانات، وبهذه المناسبة فإننى أذكر كتاب موريس يوكاى الذى طبعت منه آلاف النسخ فنشرناها بين الناس لأنه قال فيها إن الإسلام قد سبق العلم فى كثير من الحقائق والاكتشافات وقارن كتاب الله بالتوراة والإنجيل فى هذا المجال مبيناً جلال القرآن وبعد التوراه والإنجيل عن العلم.
هذا الحماس والإخلاص كان ينبغى أن ينتهى بصاحبه إلى الإيمان ولكن الرجل لم يسلم قط بل مات على غير ديننا فما تفسير هذا؟ لقد جادلت الرجل فى كتابه فى لقاء فى اسطنبول وقلت له إنه لو قرأ التفاسير المأثورة لما ادعى أن القرآن خاطب العرب بغير ما يفهمون، وقد جاء لا ليكون كتاب ألغاز وأحاجى بل جاء قرآناً عربياً مبيناً.
إذا كنت قد ادعيت أن أقمت فاصلاً بين الدين الإسلامى بل وسائر الأديان والعلم الحديث طبيعة ومنهجا وهدفاً فكيف نعبر هذا الفاصل؟ أو بمعنى آخر كيف نعيش كمؤمنين فى العصر الحاضر؟ أو بمعنى أدق أين مكان الذين فى عصر العلم؟ وأبدأ فأقول لنحذر أن نخلط بين العلم والدين ولنتجنب محاولة تعليم الدين أى جعله هدفا للمنهج العلمى الذى يهدد المقدسات ويحطم الثوابت أو ندين العلم بمعنى أن نضع العلم- وهو نسبى- بطبيعته فى منزلة الحقيقة الإلهية المطلقة. فالخلط بينهما هو الذى يقود إما إلى عقم فى البحث أو خروج على الدين. فلنعرف للدين مكانه فى هداية الروح وطمأنة القلب وحرارة الإيمان والتواضع للخالق وطاعة الشرع، وليكن سلوكنا فى كل مجال - بما فيه المجال العلمى- مدفوعا بروح العبادة لله التى هى الغرض الأسمى لكل عمل. كما يجب أن نعرف للعلم مكانه وحدوده، فلا يتعدى الظواهر الطبيعية إلى إقحام نفسه فيما لا تدركه الحاسة، ولا تقيسه المقاييس ولا يغتر بضخامة العالم من حوله وتعقد الظواهر الطبيعية إلى إنكار أن وراءها غيب علمه عند الله. فإن الإنسان إذا غلّب النهج الدينى على العلم جمد وعقم وإذا أخضع الدين للمنهج العلمى ضل وأضل، وما أشبه الصلات بينهما بالصلات بين بعض المواد العلمية التى ندرسها لا يتصل بعضها ببعض إلا من بعيد مع أنها فى مجموعها يكمل بعضها بعضا فمن ذا الذى يقضى بأن من حفظ ألفية ابن مالك حقت له الفتوى فى الدين ؟ ولكن المفتى الذى لا يعرف اللغة العربية معرفة تؤهله للرجوع إلى النصوص القرآنية والنبوية وآراء العلماء السابقين ففتواه موضع ريبة، فالعلم بالعربية يخدم جانباً هاماً من جوانب المفتى ولكنه ليس الجانب الوحيد الذى يكون شخصيته. فالدين والعلم صنوان فى هذا العالم المضطرب، فإذا أهملنا الأول يكوِّن أمرنا أشبه بقارب ذى محرك عظيم القوة والسرعة ينطلق بأقصى قدرته، ولكن دون دفة، فمصير هذا القارب أن يدور حول نفسه حتى يغرق إلى القاع. والدين بدون العلم الحديث أشبه بقافلة تقطع الفيافى ببطء شديد تسير نحو الغاية ولكنها لبطئها قد يغرقها ذوو الخيول السريعة فلا تلبث حتى لا تجد فى صفوفها من يقيها عواقب الأنواء والقحط ومخاطر الطريق.
إن مثل الغرب هو هذا القارب الذى يبدو أنه يندفع نحو الهلاك كمشغوف نحو محبوبة، ومثل أمتنا أو معظمها تعيش وكأن المغامرة العلمية الصناعية مثل القافلة التى يهجرها إلى الغرب كل قوى الساعدة عظيم الكفاءة.
وخير من المثلين مثل النموذج الإسلامى الحق الذى يضع فى القارب دفتة، أى الدين ليقوده إلى سعادة البشر جميعا بهدى الله وهدى رسوله، وما رسالة أمتنا إلا أن تنهيه من غطرسة العلم الذى اغتر بنجاحه بنموذج التواضع لله الذى يمثله المؤمن الحق.
إننى أجد أن هناك خلطا فى لغتنا أرجو أن أزيله باقتراح بسيط هو أن نقصر لقب العلم على العلم بالدين ولقب العالم على من منّ الله عليه بدراسة الدين، وأن نسمى العاملين فى مجال المعرفة بالطبيعة بالباحثين ونطلق على موضوعات دراستهم أبحاثا فهناك بحث الطبيعة وبحث الكيمياء بدلاً من علم الكيمياء أو الطبيعة، هذان الاصطلاحان يعبران تعبيرا حقيقيا عن طبيعة المعرفة الدينية إلى معرفة بالثابت فهى من أجل هذا علم وصاحبها عالم.
أما المعرفة بالمواد المتصلة بالطبيعة فهى معرفة متطورة صاحبها دائما يبحث وينقب لينقص ما معه أو ليزيد عليه فحق له أن يسمى باحثاً وأن يسمى عمله بحثا. ليس اقتراحى هذا بدعا بين اللغات فقد أدخل لقب " SCUNTIST " أو عالم طبيعى على اللغة الانجليزية فى منتصف القرن التاسع عشر ليفرق بين هذه الطائفة وبين رجال الدين ليحدد لكل طائفة مجالها فى البحث وأحقيتها فى المرجعية فرجال الدين لهم شئون الدين ورجال العلم مجالهم العلم.
أعتقد أن اقتراحى قد يكون له فائدة أخرى فإن أملى أن يكون فى الإسلام طائفة تتخصص فيما أسميه الأبحاث- ويسمونه العلوم الطبيعية- ثم نعود فندرس علوم الدين فمن هؤلاء من سيكون له القيادة والريادة فى الوصل الواقعى بين الدين وبين ما يسمونه العلم.
وخلاصة القول إن العلم والدين لكل منهما منهجه وخصائصه وأهدافه، فالخلط بينهما مضر بكليهما فلكل منهما دوره وهو دور أساسى وحيوى للعيش السليم ولأداء رسالة الإنسان على الأرض، ويقود هذا إلى رفض ما يسمى أسلمة العلم، فالعلم لا يدخل تحت نطاق دين فليس هناك علم أسلم وأخر تنصر أو تهود، وفهمى لهذه الدعوة أنها إن كانت تقود المسلمين إلى الإسهام فى العلم فلا غبار عليها أما إذا كانت تدعى أن العلم كافر فينبغى دعوته إلى الإسلام فإن هذا سخف وهذر ويقود عمليا إلى توسيع المسافة بين المسلمين وبين المنهج العلمى ! وهذا الفهم الذى أدعو إليه للقضية يجعل القائمين على البحث عن العلم فى النصوص الدينية أقل حماسة إذا علموا أن مثل جهدهم موجود لدى أصحاب الديانات الأخرى، كما أن العلاج بالقرآن له نظيره لدى أصحاب الديانات الأخرى يعالجون بقراءة كتبهم أيضا بل إن بحثا نشر أخيراً فى وول ستريت جورنال يقول: إن الذين يترددون على أماكن العبادة: مساجد، وكنائس، ومعابد، أصح نفسياً وبدنيا، فالدين أى دين له أثره الذى لا ينازع فيه على سلامة العقل والبدن. إن هدف هذا البحث أن يصرف المؤسسات العلمية عن الغلو فى العلم حتى يضع الدين ومسلماته ونصوصه تحت مجهر البحث العلمى، فهذا فى نظرى تمرد يخرج العلم عن نطاقه ويضر بالعلم.
وأخيرا فإن انتشار الخرافة فى بلادنا وكتبها أكثر رواجاً من كتب الدين والعلم سببه أن بعضنا يفهم الدين على نحو ساذج يسهل للدجالين طريقهم للسيطرة على عقول الناس وعواطفهم.. ومثل هذا يحدث فى كل المجتمعات إلا أن مجتمعنا يتميز بأن الخرافة والخزعبلات التى تروج فيه باسم الدين أكثر وضوحا وأكثر اتباعا. ومن أسباب هذه الظاهرة المؤسفة أن اللغة العربية تكاد تكون أقل لغات العالم الرئيسية فى استخداماً لتدريس العلوم إذ تدرس العلوم فى عالمنا العربى- ما عدا سوريا- باللغات الأوروبية وظنى أن ترجمة العلوم إلى لغتنا ونشرها بين الناس سوف يضمن حماية الناس من المشعوذين من جانب وسوف يجعل المتخصصين فى الدراسات الدينية أقدر على فهم دورهم مقابل العلم.
إننى أقرأ بانتظام المجلات العلمية لأن مهمتى كداعية فى بلد متقدم علميا وصناعيا تفرض على أن أكون قادراً على عرض الإسلام على مجتمع يحتل العلم فيه مكان الصدارة عرضا يفهمه العلماء ويدركه المجتمع المثقف وظنى أن هذه مهمة يجب أن تكون عامة بين العاملين فى الحقل الإسلامى فى كل مكان فسيطرة العلم على المجتمعات بما فيها المجتمعات الإسلامية أمر لا يمكن إنكاره وإن حاول بعضنا تجاهله فتواضع العلم ضرورى كما أن تواضع رجال الدين كذلك ضرورى.
وفقنا الله لما فيه الخير للمسلمين وللناس أجمعين.
ساحة النقاش