المــوقـــع الــرســمى الـخــــاص بــ "د/ تــامر المـــــلاح"

"تكنولوجيا التعليم " الحاسب الألى " الانترنت " علوم المكتبات " العلوم التربوية " الدراسات العليا "

 

عاشِقٌ ..

في غرفة العمليات !!

 


رن جرس هاتفي يوماً .. اتصال من " السويد " ..

السلام عليكم .. الشيخ محمد ..؟!

وعليكم السلام .. نعم ..

يا شيخ .. أنا طبيب أحضر الدراسات العليا هنا في مالمو- السويد ، وأطبق منذ خمس سنوات في أحد المستشفيات السويدية ..

هنا يا شيخ في هذا المستشفى .. إذا جاءهم مريض مصاب بمرض خطير .. وكان المرض قد تمكن منه .. والفرصة في حياته قليلة ..

يضعون له مغذياً .. ويجعلون مع المغذي مادة مسكنة للألم ومادة أخرى قاتلة ..

فيبقى المريض يومين أو ثلاثة على الأكثر .. ثم يموت ..

فيستلمه أهله .. وهم يظنون أن وفاته طبيعية .. وهو في الحقيقة مقتول ..

قلت : أعوذ بالله .. هذا ..

فقاطعني قائلاً .. عفواً يا شيخ .. لم ينته السؤال بعد ..

اليوم يا شيخ كنت في قسم الطوارئ .. فجاء إلى المستشفى مريض مسلم .. سويدي من أصل باكستاني .. وهو يعاني من أحد الأمراض الخطيرة .. وقد تمكن المرض من جسمه .. أدخلوه قبل قليل إلى القسم الخاص بهؤلاء المرضى .. ووضعوا له المغذي القاتل ..

فماذا يجب عليَّ يا شيخ .. هل أخبر أهل المريض .. أم لا ..

ومضى صاحبي يبين لي عدد من قتلوا بهذه الطريقة .. ويتكلم عن مآسيهم .. و ..

كان عاطفياً .. ومتحمساً جدا ً .. مضى يقص ويقص ..

أما أنا فقد ذهبت بي الأفكار بعيداً ..

جعلت أتأمل .. ماذا تمثل الحياة بالنسبة لهؤلاء .. كأس .. وغانية .. وفراش ..

فإذا عجز أحدهم عن هذه الأمور لمرض أو ألم .. رأوا أنه لا حاجة لبقائه حياً .. فلماذا يعيش !! .. نعم لماذا يعيش ؟

وفرق بين من يأكل ليعيش .. ومن يعيش ليأكل ..

لا يدرون أن بقاءه حياً .. ولو مريضاً مقعداً .. يرفع الله به درجاته ..

فكل تسبيحة صدقة .. وكل تحميدة صدقة .. وكل تهليلة صدقة ..

كل ألم يصيبه .. حتى الشوكة يشاكها يكفر الله بها من خطاياه ..

وكم من شخص كان المرض بابه الذي دخل من خلاله إلى الجنة ..

فلا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض .. وليس عليه خطيئة ..

قال الإمام أحمد : لولا المصائب لقدمنا القيامة مفاليس ..

وروى البخاري عن أبي هريرة t أن النبي e قال( ما يصيب المؤمن من وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه  ) ..

وقال : ( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة )

الترمذي عن جابر قال e : ( يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) ..

عن أنس مرفوعاً( إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) ..

وأخرج مسلم أنه e قال ( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير ) ..

فقبل أن أبحر في هذا الكتاب ..

أقول لكل مريض – مهما كن مرضه – ارض بما قسم الله لك ، واعلم أنك إن صبرت واحتسبت ، صار هذا المرض تكفيراً لخطيئتك .. ورفعة في درجتك ..

وأظهر الرضا والتسليم لكل من زارك ، ليعلموا أن لله عباداً يحبونه ، يرضون بقضائه ، ويصبرون على بلائه ، يباهي الله بهم أهل السماء ، ويجعلهم قدوة لأهل الأرض ..

أفلا تكون منهم !!

 

إنا وجدناه صابراً

كان أيوب عليه السلام .. صاحب مال وجاه وزوجات وأولاد ..

وكان رجلاً قد رفع الله قدره فجعله نبياً ..

في لحظة من ليل أو نهار .. فقد أهله وولده وماله .. ولم يبق معه إلا زوجة واحدة ..

ثم ازداد عليه البلاء .. فأصابه مرض عضال .. تعجب منه قومه ..

وخافوا من عدوى مرضه .. فأخرجوه من بينهم ..

فعاش في خيمة في الصحراء .. قد هدّه المرض .. وتقرّح جسده .. وعظم ضُرُّه ..

وتركه الناس فلم يقربوه ..

أما مرضه فقد سُئل المفسر مجاهد رحمه الله .. فقيل له :

ما المرض الذي أصاب أيوب .. أهو الجدري ؟

فقال : لا .. بل أعظم من الجدري .. كان يخرج في جسده كمثل ثدي المرأة .. ثم ينفقئ فيخرج منه القيح والصديد الكثير ..

وطالت سنين المرض بأيوب عليه السلام .. وهو جبل صامد ..

وفي يوم هادئ .. بكت زوجته عند رأسه .. فسألها : ما يبكيك ؟

قالت : تذكرت ما كنا فيه من عز وعيش .. ثم نظرت إلى حالنا اليوم .. فبكيت ..

فقال لها : أتذكرين العز الذي كنا فيه .. كم تمتعنا فيه من السنين ؟

قالت : سبعين سنة .. فقال : فكم مضى علينا في هذا البلاء ؟

قال : سبع سنين .. فقال : فاصبري حتى نكون في البلاء سبعين سنة .. كما تمتعنا في الرخاء سبعين .. ثم اجزعي بعد لك أو دعي ..

ومر عليه الزمان .. وهو يتقلب على فراش المرض .. لكنه كان بطلاً ..

نعم لو مررت به وهو مريض .. ولحم جسده يتساقط لرأيت أنك تمر بجبل صامد .. لا تزعزعه الأعاصير .. ولا تحركه الرياح ..

لسان ذاكر .. وقلب شاكر .. وجسد صابر .. وعين باكية .. ودعوة ماضية ..

لم يفرح الشيطان منه بجزع .. وفي ساعة من نهار .. مر قريباً منه رجلان .. فلما رأيا ضره ومرضه .. قال أحدهما للآخر : ما أظن الله ابتلى أيوب إلا بمعصية لا نعلمها ..

عندها رفع أيوب عليه السلام يده ..

و.. ( نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ..

فلما نظر الله إليه .. نظر إلى عينين باكيتين .. ما نظرت إلى حرام ..

ويدين داعيتين .. ما لمست حراماً .. ولا امتدت إلى حرام ..

ولسان حامد .. ورأس راكع ساجد ..

عندها هزت دعواته أبواب السماء فقال الله : ( فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ..

وأثنى الله عليه فقال:  <!-- إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ <!-- ..

وما أجمل أن ينظر الله إليك أنت في مرضك .. فيراك صابراً محتسباً فترتفع إلى درجة ( نعم العبد ) ..

 

عروة بن الزبير !!

عروة بن الزبير كان من كبار التابعين ..

فهو ابن الصحابي الجليل الزبير بن العوام ..

أصيبت رجله بالآكلة .. فجعلت عظامه تتآكل ويسقط عنها اللحم ..

فرآه الأطباء .. فقرروا قطع رجله حتى لا يمتد المرض إلى بقية جسده ..

فلما بدؤوا يقطعونها أغمي عليه ..

فقطعوها .. وألقوها جانباً .. فبدأ نزيف الدم يشتد عليه ..

فغلوا زيتاً ثم غمسوا عروق الرجل فيه حتى توقف الدم ..

ثم لفوا على الرجل خرقة .. وانتظروا عند رأسه

فلما أفاق .. نظر إلى رجله المقطوعة ملقية في طست .. تسبح في دمائها ..

فقال : إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم ..

فبدأ الناس يدخلون عليه ويعزونه في رجله .. ويصبرونه على مصابه ..

فلما أكثروا عليه الكلام .. رفع بصره إلى السماء ..

وقال : اللهم كان لي أطراف أربعة ..فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ثلاثة وتترك واحداً .. اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت

وكان حوله أولاده السبعة .. يخدمونه .. ويسلونه ..

فدخل أحدهم إلى أصطبل الخيول لحاجة .. فمر وراء حصان عسيف فثار الحصان وضرب الغلام بحافره .. فأصابت الضربة أسفل بطنه .. فمات ..

ففزع من حوله إليه .. وحملوه ..

فلما غُسل وكفن .. جاء أبوه يتكئ على عكاز ليصلي عليه ..

فلما رآه قال : اللهم إنه كان لي بنون سبعة .. فأخذت واحداً وأبقيت ستة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ستة وتترك واحداً ..

اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت ..

فما أجمل هذا الرضا ..

كم من الناس يمرض بطنه فيجزع ويصيح .. وينسى سلامة رأسه ورجله ..

وكم منهم من تمرض عينه .. فينسى سلامة لسانه وأذنه ..

فاحمد الله على أن ابتلاك بمرض واحد .. ولم يجمع عليك عشرة أمراض ..

والتفت إلى من حولك من المرضى واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

لا .. ولا يكفينا منك ذلك ، فالمؤمل فيك أكثر ..

نريد منك أن تكون مهدياً هادياً .. صابراً مصبّراً .. لا ترى مريضاً منكسراً إلا جبرته .. ولا حزيناً إلا أفرحته .. ولا متشكياً إلا وعظته ..

فتكون – وأنت مريض – منار خير لغيرك .. وأنت أهل لذلك بإذن الله ..

 

للمرض سببان !!

صاحبي كان مشهوراً بقراءة الرقية الشرعية على المصابين بالأمراض النفسية .. وربما قرأها على المصابين بالسحر والعين ..

قال لي :

جاءني يوماً أحد كبار التجار .. يشكو ألماً شديداً في يده اليسرى ..

كان واضحاً أن الألم شديد .. وجه شاحب .. وعينان زائغتان ..

جلس بين يدي بكل كلفة ثم قال : يا شيخ اقرأ علي !!

قلت : مم تشكو ؟!

قال : ألم شديد .. لا أعرف سببه .. راجعت الأطباء .. المستشفيات .. التحاليل .. كل شيء سليم .. لا أدري ما أصابني .. لعلها عين سبقت إليَّ ..

قرأت عليه الرقية .. ودعوت له ..

وجاءني في اليوم الثاني وقرأت ودعوت ..

واليوم الثالث كذلك .. والرابع .. وطالت الأيام .. والمرض لا يزداد إلا شدة ..

فصارحته يوماً : يا فلان .. قد يكون ما أصابك بسبب دعوة من مظلوم آذيته في ماله أو نفسه أو عرضه .. أو ..

فتغير وجهه وصرخ بي : أظلم !! أظلم ماذا .. أنا رجل شريف .. أنا .. أنا ..

هدأت من غضبه .. واعتذرت ..

ثم خرج ..

جاءني بعد عشرة أيام .. فإذا هو في صحة تامة .. أصرّ على أن يقبل رأسي ويدي .. ثم قال : أنت والله سبب شفائي بعد توفيق الله ..

قلت : كيف .. والقراءة لم تنفع معك ..

قال : لما خرجت من عندك جعل الألم يزداد .. وجعلت كلماتك ترن في أذني .. نعم قد أكون ظلمت أحداً أو آذيته ..

فتذكرت أني لما أردت أن أبني قصري .. كان هناك أرض ملاصقة له فأردت شراءها لأجعلها حديقة للقصر .. وكانت الأرض ملكاً لأيتام وأمهم ..

أرسلت إليها أطلب شراء الأرض .. فرفضت .. وقالت : وماذا أفعل بالمال إذا بعتها .. بل دعوا الأرض على حالها .. حتى يكبر الأولاد ثم يتصرفون بها ..

حاولت إقناعها .. أغريتها بالمال .. فأبت ..

لكن الأرض كانت نهمة بالنسبة إليّ ..

قلت : فماذا فعلت ؟

قال : أخذت الأرض - بطرقي الخاصة - .. واستخرجت لها إذن بناء من الجهات المختصة – أيضاً بطرقي الخاصة - .. وبنيتها ..

قلت : والمرأة ؟ والأيتام ؟

بلغها الخبر .. فكانت تأتي وتنظر إلى العمال يشتغلون في أرضها .. وتسبهم وتبكي .. وهم يظنونها مجنونة .. فلا يلتفتون إليها ..

وأذكر أنها كانت ترفع يديها وتدعو وهي تبكي ..

ومنذ ذلك الحين بدأت في يدي آلام لا أنام منها في الليل .. ولا أرتاح في النهار ..

قلت : طيب .. وماذا فعلت لها ؟

قال : ذهبت إليها .. واعتذرت منها .. وبكيت .. وأعطيتها أرضاً في موقع آخر أحسن من الأرض الأولى .. فرضيت ودعت لي واستغفرت ..

وخرجت من عندها .. ولجأت إلى الله بالدعاء وطلب المغفرة .. حتى بدأ الألم يتلاشى شيئاً فشيئاً .. حتى زال ولله الحمد ..

انتهت القصة ..

ولا أعني بإيرادي لها أن كل مرض يقع فهو عقوبة من الله لعبده .. كلا فلقد مرض النبيون والصالحون ..

ولكن الذي أعنيه أن المرض يخرج الله به من العبد الكبر والعجب والفخر ..

فلو دامت للعبد جميع أحواله .. مال .. جاه .. صحة .. أولاد .. لتجاوز وطغى .. ونسي المبدأ والمنتهى ..

ولكن الله يسلط عليه الأمراض والأسقام .. فيجوع كرهاً ويمرض كرهاً ..

ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً .. ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ..

أحياناً يريد أن يفهم الشيء فيجهله .. ويريد أن يتذكر الشيء فينساه ..

وأحياناً يشتهي الشيء وفيه هلاكه .. ويكره الشيء وفيه حياته .. بل لا يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه الله ما أعطاه من سمعه وبصره ..

أو من يدري !! ربما اختلس الله عقله .. أو سلب منه جميع نعمه ..

فأي أحد من أذل العبد المتكبر لو عرف نفسه !!

ومن هنا سلط الله على العبد الأمراض والآفات .. لينكسر ويقبل على الله ..

وهذا هو السر في استجابة دعوة هؤلاء : المريض .. والمظلوم .. والمسافر .. والصائم .. وذلك لقربهم من الله وانكسار قلوبهم فغربة المسافر .. وتعب الصائم .. وذل المظلوم .. وآلام المريض ..

فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه ..

 

جولة في .. مستشفى المجانين

كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..

كان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية ..أو كما يسميه الناس مستشفى المجانين ..

ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة ..

كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..

التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أن أذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..

قال : أين ؟ صاحبك الشيخ عبد الله .. مسافر .. والدكتور أحمد اتصلت به ولم يجب .. أو تريد أن نمر المكتبة التراثية .. أو ..

قلت : كلا .. بل : مستشفى الأمراض العقلية ..

قال : المجانين !! قلت : المجانين ..

فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..

قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..

سكت عبد العزيز يفكر في حالهم .. شعرت أنه حزين .. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم ..

أخذني بسيارته إلى هناك ..

أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كل جانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..

قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى ..

أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :

وليس الخبر كالمعاينة ..

دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك ..

كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..

مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه ..

التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!

قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..

قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟

قال :منذ أكثر من عشر سنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..

بعد خطوات مشيناها .. مررنا على غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة .. ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..

حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..

سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..

شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاً لما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟

فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثار وأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..

فيوماً تتكسر أصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج .. فيضرب كما يشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..

أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به

ثم مضينا نسير بين غرف المرضى ..

حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذا يتلفت .. وهذا يرقص ..

وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..

تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين ؟

فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..

لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلى المساء ..

قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟

قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!

خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم ..

سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟

قال : بقي غرفة واحدة .. لعل فيها عبرة جديدة .. تعال ..

وأخذ بيدي إلى غرفة كبيرة .. فتح الباب ودخل .. وجرني معه ..

كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيته في غرفة سابقة .. مجموعة من المرضى .. كل منهم على حال .. راقص .. ونائم ..

و .. و .. عجباً ماذا أرى ؟؟

رجل جاوز عمره الخمسين .. اشتعل رأسه شيباً .. وجلس على الأرض القرفصاء .. قد جمع جسمه بعضه على بعض .. ينظر إلينا بعينين زائغتين .. يتلفت بفزع ..

كل هذا طبيعي ..

لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع .. بل أثور .. هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة ..

تغير وجهي .. وامتقع لوني .. والتفت إلى الطبيب فوراً .. فلما رأى حمرة عيني ..

قال لي .. هدئ من غضبك .. سأشرح لك حاله ..

هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه .. وحاول بلعه .. وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب .. وكلها على مثل هذا الحال ..

فتركناه هكذا صيفاً وشتاءً .. والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله ..

خرجت من هذه الغرفة .. ولم أستطع أن أتحمل أكثر .. قلت للطبيب : دلني على الباب .. للخروج ..

قال : بقي بعض الأقسام ..

قلت : يكفي ما رأيناه ..

مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..

وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه .. وقال :

يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئات الملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..

وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..

ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..

أخذت أمشي بين غرف المرضى متفكراً ..

سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..

يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..

قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذ منه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفى المجانين ..

وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاً كبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنى عنه ماله وحسبه ..!!

ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوة وعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراً يتنقل بين الحرف المتواضعة لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ..

ومن الناس من يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..

فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاك العقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..

فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحممممممد لله ..

 

حلاوة الجزاء

قال أبو إبراهيم ..

كنت أمشي في صحراء .. فضللت الطريق .. فوقفت على خيمة قديمة ..

فنظرت فيها فإذا رجل جالس على الأرض .. بكل هدوء ..

وإذا هو قد قطعت يداه .. وإذا هو أعمى .. وليس عنده أحد من أهل بيته .. رأيته يتمتم بكلمات ..

اقتربت منه وإذا هو يردد قائلاً : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً .. الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله ..

فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه .. وإذا هو مقطوع اليدين .. أعمى العينين ..

وإذا هو لا يملك لنفسه شيئاً ..

نظرت حوله .. أبحث عن ولد يخدمه .. أو زوجة تؤانسه .. لم أر أحداً ..

أقبلت إليه أمضي .. شعر بحركتي .. فسأل : من ؟ من ؟

قلت : السلام عليكم .. أنا رجل ضللت الطريق .. ووقفت على خيمتك ..

وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟

فقال : أنا رجل مريض .. وقد تركني الناس .. وتوفي أكثر أهلي ..

قلت : لكني سمعتك تردد : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..!! فبالله عليك ! فضلك بماذا ؟!! وأنت أعمى .. فقير .. مقطوع اليدين .. وحيد ..

فقال : سأحدثك عن ذلك .. ولكن سأطلب منك حاجة .. أتقضيها لي ؟

قلت : أجبني .. وأقضي حاجتك ..

فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع من البلاء .. ولكن : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به .. وأتصرف وأفكر ..

قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟

قلت : كثييييير .. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة .. وأعقل به الكلام .. وأعلم ما يدور حولي ؟ قلت : بلى ..

قال : فكم يوجد من الناس .. صمٌ لا يسمعون ؟ قلت : كثيييير ..

قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي .. وأبين به حاجتي ..

قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس بكمٌ .. لا يتكلمون ؟

قلت : كثيييير ..  قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد جعلني مسلماً .. أعبد ربي .. وأحتسب عنده أجري .. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى ..

قال : فكم يوجد من الناس من عباد الأصنام والصلبان .. وهم مرضى .. قد خسروا الدنيا والآخرة ..؟!!

قلت : كثيييير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

ومضى الشيخ يعدد نعم الله عليه .. وأنا أزداد عجباً من قوة إيمانه .. وشدة يقينه .. ورضاه بما أعطاه الله ..

كم من المرضى غيره .. ممن لم يبتلوا ولا بربع بلائه ..ممن شلهم المرض .. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم ..أو فقدوا بعض أعضائهم ..ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به ..

ومع ذلك .. عندهم من الجزع والتشكي .. والعويل والبكاء ..

بل وضعف الصبر وقلة اليقين بالأجر .. ما لو قسم على أمة لوسعهم ..

سبحت بتفكيري بعيييداً .. ولم يقطعه علي إلا قول الشيخ ..

هاه ..!!  أأذكر حاجتي ..؟ هل تقضيها .. ؟ قلت : نعم .. ما حاجتك ؟!

فخفض رأسه قليلاً .. ثم رفعه وهو يغص بعبرته وقال :

لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي .. عمره أربع عشرة سنة ..

هو الذي يطعمني ويسقيني .. ويوضئني .. ويقوم على كل شأني ..

وقد خرج البارحة يلتمس لي طعاماً .. ولم يرجع إلى الآن .. ولا أدري .. أهو حي يُرجى .. أم ميت ينسى ..

وأنا كما ترى .. شيخ كبير أعمى .. لا أستطيع البحث عنه ..

فسألته عن وصف الغلام .. فأخبرني ..فوعدته خيراً ..

 ثم خرجت من عنده .. وأنا لا أدري كيف أبحث عن الغلام .. وإلى أي جهة أتوجه ؟!

فبينما أنا أسير .. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه ..

إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير .. عليه سرب غربان قد اجتمعت على شيء .. فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور ..

فصعدت الجبل .. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت ..

فلما نظرت إلى مكان تجمعها .. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد .. وكأن ذئباً قد عدا عليه .. وأكله ثم ترك باقيه للطيور ..

لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ ..

نزلت من الجبل .. أجر خطاي .. وأنا بين حزن وحيرة .. هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده .. أم أرجع إليه وأحدثه بخير ولده ..؟!

توجهت نحو خيمة الشيخ .. بدأت أسمع تبيحه وتهليله ..

كنت متحيراً .. ماذا أقول .. وبماذا أبدأ ..

مرّ في ذاكرتي قصة نبي الله أيوب عليه السلام ..فدخلت على الشيخ .. وجدته كسيراً كما تركته ..سلمت عليه .. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده .. بادرني قائلاً :

أين الغلام ..

قلت : أجبني أولاً .. أيهما أحب إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟

قال : بل أيوب عليه السلام أحب إلى الله ..

قلت : فأيكما أعظم بلاءً .. أنت أم أيوب عليه السلام ؟

قال : بل أيوب ..

قلت إذن فاحتسب ولدك عند الله .. قد وجدته ميتاً في سفح الجبل .. وقد عدت الذئاب على جثته فأكلته ..فشهق الشيخ .. ثم شهق .. وجعل يردد .. لا إله إلا الله ..

وأنا أخفف عنه وأصبره ..ثم اشتد شهيقه .. حتى انكببت عليه ألقنه الشهادة ..

ثم مات بين يدي ..غطيته بلحاف كان تحته ..

ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه ..

فرأيت ثلاثة رجال على دوابهم .. كأنهم مسافرين .. فدعوتهم .. فأقبلوا إليّ ..

فقلت : هل لكم في أجر ساقه الله إليكم .. هنا رجل من المسلمين مات .. وليس عنده من يقوم به .. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه ..

قالوا : نعم ..

فدخلوا إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه .. فلما كشفوا عن وجهه ..

تصايحوا : أبو قلابة .. أبو قلابة ..

text-alig

المصدر: م/تامرالملاح
tamer2011-com

م/تامر الملاح: أقوى نقطة ضعف لدينا هي يأسنا من إعادة المحاولة، الطريقة الوحيدة للنجاح هي المحاولة المرة تلو المرة .."إديسون"

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 76 مشاهدة
نشرت فى 18 أغسطس 2010 بواسطة tamer2011-com

ساحة النقاش

م/ تامر الملاح

tamer2011-com
باحث فى مجال تكنولوجيا التعليم - والتطور التكنولوجى المعاصر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,879,208

بالـعلــم تـحـلـــو الحـــيـاة

للتواصل مع إدارة الموقع عبر الطرق الأتية:

 

 عبر البريد الإلكتروني:

[email protected] (الأساسي)

[email protected]

 عبر الفيس بوك:  

إضغط هنا

(إني أحبكم في الله)


أصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير.